Skip to main content

الفداء

العدد 7

7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ،

إلى هنا حدثنا الرسول عن البركات الروحية السماوية التي أغدقها الله علينا في المسيح-من اختيار سابق, وتينّ وفق تدبير معين, بدافع من نفسه, لرفع لواء مجد نعمته التي أنعم بها علينا في ابن محبته.

وجدير بالاعتبار, أن الرسول لم يذكر إلى الآن شيئاً عن الخطية, ولا عن التربة التي منها اختارنا الله, فيكاد القارئ يعتقد, أن هؤلاء الذين اختارهم الله وعينّهم للتبني, إنما هم أطهار بالفطرة, وقديسون بالطبيعة, لم يقترفوا إثماً ولم يرتكبوا جريرة . لكن العدد السابع ينم عن طبيعة أصلهم, وحقيقة حالهم:"الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا". فالمختارون كانوا أصلاً غارقين في لجّ الآثام والخطايا. والمتبنون كانوا"بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً". فالفضل في اختيارهم ليس لأصلهم ولا لحالهم, بل لله وحده.

إن كلمة "فداء" يعني الفكاك من الأسر بواسطة دفع فدية أو دية. والثمن الذي دفعه المسيح فدية عنّا هو دمه الثمين. هذا ما سبق فأنبأ به تلاميذه (مت 20: 28)

والدم كما ذكر في الكتاب المقدس, له قوة التكفير عن ذنب, والفكاك من أسر, وتثبيت عهد, وإزالة معصية.

فما أثمن هذا الدم الكريم!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فهو أساس فدائنا (أفسس 1: 7 ). وأداة تبريرنا(رو 5: 8و9). ومطّهر ضمائرنا(عب 9: 14). ورأس شركتنا مع الله(1 يو 1: 7). وثمن المصالحة معه (1 كو 1 : 20-22).

ولقد أشار الرسول في هذا العدد, إلى الفداء, باعتبار كونه امتيازاً يملكه المؤمنون المطعّمون في المسيح, رأسهم الأعلى, ورئيسهم, وهو بركة يتمتعون فيها في الحال. هذا واضح من قوله:"الذي فيه لنا الفداء". فالفداء بركة حالية وإن كان في كماله رجاءً عتيداً   ( رو 8: 23).

ومن الحقائق التي عرفّنا بها الرسول في هذا الفداء:- ا- وسيطه: "فيه". ما أغنى هذه الكلمة الصغيرة, المركّبة من حرف جر:"في", ومن ضمير الغائب"ﻫ"‍‍‍‍!لكنها في عُرف لغة النعمة, كلمة مركبة من حرف رفع وبناء, ومن ضمير المفرد العلم الحاضر في كل زمان ومكان –"في المسيح". "فيه" تم اختيارنا. وتعييننا للتبني, وفيه حق لنا الفداء.

- ب- وسيلته: "بدمه"-دم المسيح حمل لله الكريم"الذي رفع خطية العالم. إن هذه الوسيلة التي تمّ بها فداؤنا, تعين طبيعة هذا الفداء- فهو كفارى, لم يتم بمجرد رغبة من الله"ولا بكلمة صدرت عنه, ولا بقدرة كامنة فيه, بل بدم ابن محبته الذي مات عنا طوعاً واختياراً. فهو فداء كريم, كلف الآب تضحية ابن محبته, وكلف ابن محبته تضحية نفسه وحياته-والجود بالنفس أقصى غاية لجود. وقد ذكر الرسول هذا الفداء معرّفاً إياه بأداة التعريف, فقال"الفداء", مميزاً إياه عن كل أشباه الفداء وظلاله, التي تمت ي العهد القديم وفي نظم أخرى- بدم كباش وحملان. وبديهي أن الله المقتصد في كلل تدابيره, ما كان ليجري فداءنا بدم المسيح لو كان في الإمكان تفادي هذا الثمن العظيم:"كريمة هي فدية النفوس فغلقت إلى الدهر". يُضاف إلى هذا, أن كرامة الشريعة الإلهية فوق كل كرامة, لأن كرامة الشريعة مشتقة من كرامة صاحب الشريعة. الإله الذي أراد أن يغفر خطايا البشر,هو بذاته الذي قال"إن النفس التي تخطئ هي تموت". فبر الله يتطلب احترام شريعته بإدانة كل نفس تخطئ. ورحمة الله تنادي بمغفرة خطايا الفجار الأثمة. فليس في السماء ولا في الأرض ملتقى لبر لله برحمته سوى الصليب, ذلك قدّم الله ابن محبته فداء وكفارة عن خطايا البشر. ولو كان في الإمكان أن يكتفي في أمر الفداء بمعجزات المسيح, أو بأمثاله وتعاليمه, أو بحياته وسيرته. لما وُجد داع لإراقة قطرة واحدة من دمه الثمين على الصليب, فالصليب إذاً ضرورة ملحّة, قضت بها رحمة الله ي التقائها بعدالته.

-ج- ثمرة الفداء: "غفران الخطايا"- هذه هي الثمرة الناضجة التي ينالها مفديو يسوع المسيح- "غفران الخطايا". فما هو هذا الغفران؟ إذا اعتبرناه عاطفة قلبية, قلنا إنه ارتداد تيار غضب الله عن الخطاة, وتدفق تيار رضوانه تعالى عليهم. وإذا حسبناه قوة أدبية, قلنا إنه كسر شوكة الآلام المبرحة التي ينشئها الضمير اللوام المحتج في قلب الإنسان. وإذا نظرنا إليه باعتبار كونه حقيقة شرعية, قلنا إنه رفع العقاب الذي يستحقه البشر بسبب خطاياهم. فالغفران إذاً هو عاطفة قلبية شريفة, أظهرها الله نحو البشر, وهو قوة أدبية تتسرّب في قوى الإنسان النفسية, وهو حقيقة شرعية, يتمتع بها الخاطئ المتبرّر مجاناً بنعمة المسيح. فهو نعمة متدفقة من قلب اله, وهو أثر أدبي متصل بالضمير وهو حكم شرعي يحظى به الخاطئ تجاه الناموس.

إن الكلمة المترجمة "خطية": تعني حرفياً "الخروج عن الخط" أو "الانحراف عن السبيل" أو "عدم إصابة المرمى" (رومية 4: 25 ,2كو 5: 19 ,كولوسي 2: 13) وقد استعملت أيضاً للتعبير عنا الارتداد(عب6: 6).

غير أن الغفران, لا يزيل الآثار الطبيعية التي تتركها الخطية في حياة المرء. فقد يصفح الإنسان عن خطية صديق ائتمنه فخانه وجرده من كل ما يملك, لكن هذا الصفح لن يرد لذلك الصديق الخائن تلك الثقة التي أضاعها, وقد تصح زوجة طيبة, وهي على فراش الموت, عن خطايا زوج خائن, لكن هذا الغفران لن يسترجع لذلك الزوج تاج وفائه الذي حطمه تحت قدميه القاسيتين, والشاب الذي يعبث بزهرة طهارته, لن يستعيدها ولو ذُرفت منه دموع التوبة مدراراً, أو تساقطت سحب ندامته أمطاراً.

- د- قياس الفداء وغفران الخطايا: "حسب غنى نعمته". هذا هو قياس الغفران الذي أثمره لنا الفداء, وهو قياس الفداء الذي أثمر الغفران. فمثَل الفداء و الغفران مثَل شجرة وثمرها, ومتى ذكرنا أن غنى نعمة الله لا يُحد, تحققنا أن هذا قياس, وحد غير محدود.

إذا كانت غاية بركات الله علينا, مدح مجد نعمته, فإن باعث هذه البركات وقياسها-غنى نعمته. ومن الملاحظ, إن كلمة "غنى"- وقد وردت في الأصل بصيغة الجمع- هي إحدى مميزات كتابات بولس الرسول, لأنه وجد لذة خاصة في التعبير بها عن بركات الله وآلائه, ونعمه (أفسس 1: 18, 2: 4و7, 3: 8و16, رو 2: 4, 9: 23, 10: 12, 11: 12و33, 1 كو 1: 5, 2 كو 8: 9, 9: 11, فيلبي 4: 19, كولوسي 1: 27 , 2: 2).

في جمال الطبيعة نستطيع أن نرى شيئاً من غنى جمال الله, وفي دقة النواميس المحيطة بالكون, نشهد شيئاً من غنى حكمة الله, وفي قوة المادة وقدرتها, نستطيع أن نلمس شيئاً من غنى قدرة الله, لكننا في الصليب وحده نستطيع أن نرى غنى نعمة الله.

على أنه وإن تكن بركات الله موهوبة لنا"حسب غنى نعمته", إلا أننا لا نتمتع بها, إلا على قدر ما نوسع في قلوبنا مكاناً لها: "افغر فاك فأملأه". فقياس البركات من حيث مصدرها هو غنى نعمة المعطي. وقياس هذه البركات من حيث الاستمتاع بها, هو درجة إيمان المعطى. فما أعظم غنى الله, وما أكبر مسؤولية الإنسان.

  • عدد الزيارات: 4473