الإختيار
يحدثنا الرسول في هذا العدد عن أساس البركات الروحية الموهوبة لنا : اختيارنا في المسيح. ويرينا هذا الاختيار في أربعة أوجه:
-أ- حقيقة اختيارنا: "كما اختارنا"
- ب- علة اختيارنا: "فيه"
- جـ- وقت اختيارنا "قبل تأسيس العالم"
– د- غاية اختيارنا: "لنكون...."
في هذا العدد شرع بولس في تفصيل ما أجمله في عدد3, فاستهل كلامه بكلمة "كما". إن هذه البركات الروحية موهوبة لنا "في المسيح", لأن الله سبق فاختارنا فيه منذ الأزل. فقبل أن يعد الله هباته, اختار الموهوبين إياها. وقد باركنا في المسيح, لأنه سبق فاختارنا فيه قبل كون العالم.
حقيقة اختيارنا: "كما اختارنا", إن هذه العبارة ترجع بنا إلى ذلك القول الإلهي الوارد في سفر التثنية: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تث24: 2), وقول المرنم "رنموا لاسمه لأن ذاك حلو". لأن الرب قد اختار يعقوب لذاته وإسرائيل لخاصته" (مزمور 135: 4), وقول الله على لسان إشعياء: "وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته... وقلت لك أنت عبدي اخترتك ولم أرفضك"... "هوذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرّت به نفسي". (إشعياء41: 8 و9 و42: 1).
6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،
غير أن الاختيار كما علمنا إياه العهد القديم, يختلف عما عرفنا إياه العهد الجديد. فالأول يتناول الأمة اليهودية كمجموع, والثاني يتناول المؤمنين أفراداً. وكان من الطبيعي أن يتحدث بولس الرسول عن الاختيار, لأنه كان أحد أفراد تلك الأمة اليهودية, التي اختارها الله من قبائل الأرض. وجدير بعناية كل دارس لكلمة الله ألاّ يفعل أن جلّ العقائد التي ينادي بها العهد الجديد, إنما هي عقائد سبق فأوحى بها العهد القديم, ثم صاغها العهد الجديد في قالب جديد. هذا يؤيد قول رب العهدين: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل" (مت5: 17). وإنما الفرق بين شعب الله المختار في العهد القديم, وشعبه المختار في العهد الجديد, هو أن شعبه في العهد القديم كان منحصراً في أمة خاصة, تتكلم لساناً خاصاً, وتقطن أرضاً خاصة, لكن شعب الله في العهد الجديد منبثّ في كل أمة, وفي كل شعب, وينطق بكل لسان, لا تحده حدود جغرافية ولا تقيده قيود الزمن.
إن الاختيار, كما علمنا إياه بولس الرسول, هو رسالة خاصة, بعث بها الله إلى أبنائه, ليثبتهم في الإيمان, ويحفظهم من كل ارتداد. ولم يقصد به قط أن يكون حجر صدمة يتعثر به الذين لم يؤمنوا بعد. وهو اختيار للخلاص والحياة, لا للهلاك والموت, فالمخلّصون يتمتعون بنعمة الحياة نتيجة عمل إيجابي فعّال, يجريه الله في قلوبهم ولكن الغير المؤمنين ينحدرون إلى الهلاك نتيجة حكم أصدروه هم على أنفسهم بعدم استحقاقهم الحياة الأبدية: "فجاهر بولس وبرنابا وقالا. كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله, ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية, هوذا نتوجه إلى الأمم" (أعمال13: 46). وما يسري على الأفراد يسري على الأمم.
أضف إلى هذا, أنه ليس اختياراً جهلياً كخبط عشواء, لكنه اختيار رشيد مبني على حكمة أزلية, كامنة في قصد الله الأزلي, فلا نستطيع أن نفهم أسرار الاختيار إلا متى أتيح لنا أن نعرف أسرار قلب الله: "فما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء".
ولا يفوتنا أن نشير إلى هذه الحقيقة الأساسية, وهي: "أن الاختيار ليس جواز سفر" يتسلمه المؤمن ليدخل به السماء اعتباطاً, وبغير قيد ولا شرط, فيدوس به شريعة الله الأدبية وينتهك حرمة الأخلاق, وإنما هو رادع داخلي قويّ يرفع المؤمن عن الدنايا, ودافع قوي يدفعه إلى سلوك طريق الله "اختارنا فيه لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة".فالسماء مكان مُعدّ لأناس معدّين.
فمع أن الاختيار عمل إلهي مبني على مسرّة مشيئة الله إلا أنه لا يلغي الإرادة البشرية, فليس البشر آلات ميكانيكية صماء يدفعون إلى أفعالهم دفعاً, وإنما هم خلائق مدركة عاقلة تسير بناموس التأثير والتأثر. ومن فرط حكمة الله وقدرته, أنه يجعل الناس أحراراً يعملون ما يشاؤون, وفي الوقت نفسه يكونون متممين مشيئته تعالى. وليس في الإمكان معرفة ما يحيط بالاختيار من أسرار إلا مت استطعنا أن نكشف ذلك الخيط السري الدقيق الذي يفصل بين إرادة الله, وإرادة البشر في حياة البشر.
- ب- علة اختيارنا: "فيه": "كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم" – هذا هو الفصل الأول من سفر التكوين الجديد, الذي كتبه بولس الرسول. إن سفر التكوين الأول, يتكلم عن الخليقة الطبيعية الأولى, ولكن سفر التكوين الثاني يتكلم عن الخليقة الروحية الجديدة- خليقة النعمة. يُستهل سفر التكوين الأول بالقول: "في البدء خلق الله السموات والأرض". ويُستهل سفر التكوين الثاني بالقول: "قبل تأسيس العالم اختارنا الله في المسيح". فالمسيح هو كلمة الله "الذي به عمل العالمين"- فهو علة الخليقة الأولى. وهو أيضاً علة الخليقة الثانية وأساس اختيارها.
- جـ- وقت اختيارنا: "قبل تأسيس العالم"- هذا دليل على أن أعمال الله في دائرة النعمة- نظير أعماله في دائرة الخلق والعناية- ليست بنت ساعتها, ولا هي مرتجلة كأنها فكرة طارئة, لكنها مدبرة تدبيراً محكماً, لأن كل أعمال الله حلقات متماسكة في سلسلة واحدة. ولا شيء يوازي غنى حكمة الله وعلمه, نظير غزارة نعمته (رومية11: 33). في رسالة أخرى تكلم الرسول عن اختياره هو للرسولية فقال: "... سُرّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته, ان يعلن فيّ لأبشر به" (غلاطية1: 15 و16), وهنا في غرة هذه الرسالة, يرجع بنا خطوتين إلى الماضي البعيد البعيد- الخطوة الأولى تسير بنا من بدء تكوين الفرد إلى بدء تكوين الجنس البشري, والخطوة الثانية ترجع بنا من بدء تكوين الجنس البشري إلى ما "قبل تأسيس العالم" بأسره. وفي ذلك الزمن الذي يعتبر نقطة الزوال أمام الفكر البشري. "قد اختارنا الله في المسيح".
إن هذا العالم الكائن قد خُلق ورُتب على نظام خاص, وإن هذا النظام المتين مبني على أساس معين, وإن وراء هذا الأساس, فكر الإله الحكيم المدبر. فالعقل البشري يستطيع أن يكتشف في العالم المنظور تلك الآثار التي طبعها عليه الفكر الإلهي الغير المنظور. فقبل تأسيس العالم وتكوينه, كان الإنسان ماثلاً أمام فكر الله, في شخص المسيح الكائن قبل كل الدهور, ففيه عرفنا الله وفيه تفكر فينا, وفيه نظر إلينا, وفيه اختارنا.
في عرف الحقيقة والواقع, لا تفاوت في تدبيرات الله من حيث الزمن, فليس في تدبيراته ما يحسب سابقاً ولا لاحقاً. ولكن في عرف المنطق, واللغة التي يفهمها العقل البشري, نستطيع أن نقرر أن الله اختارنا للفداء قبل أن يخلقنا, أي أنه دبر أن يخلقنا الخليقة الثانية قبل أن يخلقنا الخليقة الأولى. فنحن إذاً مخلوقون للحياة التي أتاحتها لنا النعمة, لا للموت الذي قدمته الخطية أجرة للذين باعوا أنفسهم لها, والملكوت الذي يرثه مباركو الآب, قد أُعد لهم منذ تأسيس العالم" (متى25: 34), وذبيح فدائنا قد دُبر قبل كون العالم: "عالمين أنكم افتديتم... بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم" (بط1: 18-20) . وأبناء الملكوت, قد سُجلت أسماؤهم في سفر الفداء منذ تأسيس العالم" (رؤيا13: 8).
فالحقيقة والفداء, والطبيعة والكنيسة, إن هي إلا حلقات متماسكة في سلسلة تدبير الله, قد رتبت سابقاً, ثم نفذت. ومع أن اختيار المؤمنين للحياة الأبدية يرى لنا تاريخياً كأنه أحداث من اختيار الأمة اليهودية لأنه جاء بعد رفضها, إلا أنه في الحقيقة والواقع مدبر في فكر الله "قبل تأسيس العالم".
د- غاية اختيارنا: " لنكون قديسين في المحبة" في تربة الاختيار تنمو نبتتان جميلتان في جو حسن جميل, أما النبتتان فهما: القداسة, وعدم اللوم. وأما الجو فهو: "المحبة". في هذا أكبر دليل على أن الاختيار لا يدفع الناس إلى التوغل في مجاهل الشر والفساد, بل هو أكبر مشجع يرفعهم إلى مستوى القداسة وعدم اللوم "لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة".
رغب بعض المفسرين في اعتبار هذه العبارة وصفاً لموقفنا النظري كما يرانا الله في المسيح, ونعتقد نحن- مع الترجمة العربية- أن هذه الجملة تصف تصرفنا العملي نتيجة تمتعنا ببركات الفداء, فمع أننا في المسيح "قديسون وبلا لوم" حكماً وشرعاً, إلا أنه من الواجب أن نكون أيضاً "قديسين وبلا لوم" فعلاً واختباراً.
والفرق بين القداسة وعدم اللوم, هو أن القداسة اختبار داخلي , لكن عدم اللوم حالة خارجية. فالأولى أساس الثانية, والثانية ثمرة الأولى وحجتها. الأولى تصف حالة إيجابية, والثانية تصف حالة سلبية. الأولى حالة كمالية, والثانية حالة ممكنة. فقد يكون الإنسان "بلا لوم" من حيث المنتظر منه, ومع ذلك يكون بعيداً عن مستوى القداسة الراقي. إن كل قديس بلا لوم, لكن ليس كل من هو بلا لوم قديساً.
"قدامه"... ما أرهب الحياة المسيحية وما أرحبها! لأن المؤمن يقضي كل حياته "قدام الله". هذا دليل على أن القداسة التي يتصف بها المسيحي الحقيقي, ليست قداسة سطحية وإنما هي قداسة داخلية عميقة, لأن عيني الله مخترقتان كل حجاب.
قبل أن تقدم الذبيحة في العهد القديم, كان يفحصها الكاهن ليعرف ما إذا كان فيها عيب, ومتى تبين له أنها "بلا عيب", كان يقدمها على المذبح. وبما أن كاهننا الأعلى وذبيحنا الأعظم, قدم نفسه عنا "بلا عيب ولا دنس" وَجب أن يكون المختارون فيه, مثله- "قديسين وبلا لوم".
"في المحبة": هذه العبارة- كما وردت في الأصل- قد تصف ما قبلها أو ما بعدها, ونحن نميل إلى اعتبارها وصفاً لما قبلها فهي الجو المقدس الذي تنمو فيه القداسة وتترعرع. وحجتنا في هذا: - أ- أن نفس هذه العبارة وردت خمس مرات أُخر في هذه الرسالة على اعتبار أنها من الفضائل المسيحية (3: 17, 4: 2 و15 و16, 5: 2).- ب-إن مقامها في هذه القرينة, بمثابة الصدى لصوت اختيار الله لنا, فهي خير حجة على أن نعم الله لم تُسبغ علينا عبثاً. فالله, من جانبه, اختارنا "حسب مسرة مشيئته" لنكون نحن من جانبنا قديسين وبلا لوم قدامه "في المحبة" التي هي أسّ الفضائل ورباط الكمال. وليس بخاف أن ما في قلوبنا نحن البشر من محبة, ليس سوى صدى محبة الله لنا, وما محبتنا لله إلا فتح قلوبنا لتُنشر فيها أشعة أنوار محبة الله- "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". إن قوله "قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" ليس أساس اختيار الله لنا, بل هو غاية هذا الاختيار, فلم يخترنا الله لكوننا "قديسين", بل لنكون "قديسين" لأنه اختارنا ونحن خطاة ليقدسنا.
- عدد الزيارات: 5940