Skip to main content

شكر على بركات الله

القسم التعليمي في الرسالة

(1: 3- 3: 21)

شكر على بركات الله التي أغدقها على الكنيسة

(1: 3- 3: 21)

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،

لدى دخولنا رَحبات هذه الرسالة, يواجهنا مدخل فخم غاية في الجلال والرّواء, وإذ نلج بابه نسمع أنشودة الرسول التي هي أحد مزامير العهد الجديد.

هذا فصل جليل, ارتقى فيه الرسول محلقاً في سماء المعلنات الإلهية, حتى أحاطته أشعة أنوار محبة الله ونعمته. ولما شرع يحدثنا عن جلال تلك المعلنات وجمالها لمح أنواراً فوق أنوار, تبهر الأبصار, ورأى قمماً من المجد يرتقي بعضها فوق بعض, ونظر بركات تتلوها بركات, ولحظ نعماً تعقبها نعم, فاسترسل في الكلام بغير توقف ولا تمهل, حتى بلغ نهاية هذا الشوط. وكأني به- بعد هذا الفصل الجليل- ألقى قلمه ليستريح هنيهة بعد هذه المرحلة الطويلة العلوية التي قطعها سابحاً في الأفلاك السماوية.

ومن فرط ما أُخذ به من معلنات, أغفل كل إشارة شخصية, على خلاف عادته في معظم رسائله, كما يتبين جلياً من مراجعة كلامه في غرة الرسائل الآتية:

رسالته الأولى إلى تسالونيكي: "نشكر الله كل حين من جهة جميعكم"

رسالته الثانية إلى تسالونيكي: "ينبغي أن نشكر الله كل حين من جهتكم"

رسالته إلى غلاطية: "إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً"

رسالته إلى فيليبي: "أشكر إلهي عند كل ذكري إياكم"

رسالته إلى كولوسي: "نشكر الله... كل حين مصلين لأجلكم".

فبعد أن تملي نظره برؤية الشمس, لم يرغب في التحدث عن ساكني الأرض إلا بعد أن استكمل الحديث عن معلنات السماء (1: 15).

إن أسلوب الرسول في مطلع هذه الرسالة, لا يماثله سوى أسلوبه في رسالته الثانية إلى كورنثوس, التي كتبت في ظرف دقيق حرج, إذ كان الرسول آنئذ على أحر من الجمر في انتظار كلمة عن نتيجة رسالته الأولى التي بعث بها إلى تلك الكنيسة. وحالما بلغته أخبار طيبة, اهتزّ قلبه طرباً, فطفق يقول شاكراً: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية". فلم يوجه الخطاب إلى سكان الأرض إلا بعد أن استكمل ملهمات السماء فقال في 1: 11 من تلك الرسالة "وأنتم أيضاً مساعدون بالصلاة لأجلنا".

على أن موضوع الشكر الذي شغل ذهن بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس هو أضعف أثراً في ذهنه من الموضوع الذي ملأ قلبه في هذه الرسالة. إن شكره هناك, مقصور على فرحه بنجاته, وسوره بالاطمئنان الذي ملأ قلبه من جهتهم. لكن شكره هنا, يشمل كل البركات الروحية, الفدائية العلوية, التي أسبغها المسيح على الكنيسة. فلست أدري, أكان بولس متخذاً في هذا الفصل موقف الشاكر, أم موقف المستكشف أمام أسرار الفداء؟ يلوح لي أنه كان في شكره مكتشفاً وفي اكتشافه شاكراً.

هذا فصل أقرب إلى أنشودة سماوية منه إلى مقالة لاهوتية. هذه قطعة خالدة كتبها الرسول بمحلول من ذوب قلبه, لا بمداد قلمه. هذه بردة مجيدة نسج بولس من شغاف فؤاده وحبَك لحمتها من أشعة أنوار المجد النوراني.

فلا عجب إذا فشل المفسرون في تحليل هذه القطعة, وإخضاعها لقواعد التقسيم المألوفة. لأن هذا يعتبر بمثابة محاولة حبس أشعة الشمس داخل غلاف رسالة ترسل بالبريد.

إن هذا الفصل المؤلف من إثنى عشر عدداً, شبيه بسلسلة كاملة الحلقات- والعدد12 رمز الكمال- كل حلقة منها مسبوكة بعناية ودقة, على صورة يتعذر معها فصل كل حلقة عن الأخرى- فالحلقة الأولى تتصل بقصد الله منذ الأزل, والحلقة الأخيرة تماشي المؤمنين في اختباراتهم على ممر الأجيال. الحلقة الأولى تلامس هامات السماء, والحلقة الأخيرة تمس أهداب الأرض.

إذا ألقينا نظرة سطحية على هذا الفصل, أخذنا لأول وهلة بغنى اللغة التي عبر بها الرسول عما في فكره, ولكننا متى أمعنا النظر, ظهر لنا فقر اللغة, أمام غنى المعنى. وهذا يتضح جلياً من التجاء بولس إلى تكرار بعض العبارات, بين آونة وأخرى, لأن لغة الأرض ضاقت ذرعاً بمكنونات السماء. مثال ذلك: تكراره كلمة: "الذي" وحدها سبع مرات (3 و7 و11 و13), وتكرار الكلمتين معاً أربع مرات (7 و11 و13) وكلمة: "في المسيح" وما يرادفها إحدى عشر مرة (3 و4 و5 و6 و7 و10 و11 و12 و13). ومتى دققنا البحث, تبين لنا أن هذا الفصل يرتكز على بعض العبارات الرئيسية, نظير قوله: "مشيئة الله", (عدد5 و9 و11), "مدح مجده" (عدد6 و12 و14), "في المسيح" (عدد3 و4 و6 و7 و9 و10 و11 و12 و13).

من هذا يتضح لنا أن الفكرة الرئيسية في هذا الفصل هي أن مشيئة الله قصدت بالمؤمنين تدبيراً مجيداً في المسيح. ولكي يوضح الرسول هذه الفكرة رجع بقارئيه إلى تدبير الفداء, مذ كان قصداً كامناً في فكر لببه, حتى أصبح عملية متدرجة, مُحكمة الحلقات, تتم كل حلقة منها في وقتها المعين, وقد وجه الرسول نظرنا إلى ثلاث مراحل في هذا البرنامج الفدائي- تنتهي كل منها بعبارة شبيهة بقرار يتردد حيناً بين الثلاثة الأدوار التي تتألف منها هذه الأنشودة- هذا القرار هو قوله: "لمدح مجده" (عدد6 و12 و14). في الدور الأول (1: 3-6) تغنى الرسول بمجد المحبة الفدائية في تدبيرها الأزلي- في قلب الماضي. وفي الدور الثاني (1: 7-12) سبّح بمجد هذه المحبة الفدائية في هباتها الحاضرة وفي الدور الثالث (1: 13 و14) عظّم الرسول جلال هذه المحبة الفدائية كرجاء وطيد يتم تحقيقه في حياة الأبد. "من الأزل- إلى الأبد" هذا هو الخيط الذهبي الذي يربط بدء هذا الفصل بختامه.

في هذا الفصل ذكر الرسول عمل كل من أقانيم الثالوث الأقدس, في برنامج الفداء. فهنا نجد هذا الفصل خاصة بعمل الله الآب في هذا البرنامج. (عدد3). وقلبه مكرس لنصيب الله الابن. بدليل تكرار كلمة "فيه" مراراً (عدد4 و7 و10 و11), وخاتمته متوَّجة بختم الروح القدس (عدد13) فالأقنوم الأول دبّر الفداء ووهبنا بركاته, والأقنوم الثاني نفّذ تدبير الفداء وهو أُسّ بركاته, والأقنوم الثالث هو مخصص لنا فوائد الفداء وضامن بركاته.

مع أن هذا الفصل مكتوب بلغة يونانية, إلا أن عبرية الرسول قد نمّت عنه في أسلوبه. ما أشبه هذه التسبحة الرسولية ببعض المزامير التي كان يرتلها بولس الرسول في يهوديته قبل اعتناقه المسيحية (مزمور 42- 43 و99). فكلمة "خلاص وجهي" تقسم المزمورين الأولين إلى ثلاثة أدوار (مزمور42: 5 و11 ومز43: 5) كما أن العبارة "قدوس هو" تقسم ثالث هذه المزامير إلى ثلاثة أدوار أيضاً (مز99: 3 و5 و9) وعلى نفس هذا القياس تفصل عبارة "لمدح مجده" بين الثلاثة الأدوار الرئيسية في هذه التسبحة الرسولية.

إن مطلع هذه التسبحة الرسولية جميل في مبناه, جامع في معناه, فيه تلتقي جميع المعاني المنبثة في ثنايا هذه التسبحة, ومنه تتفرع فهو للتسبحة بمثابة الرأس للجسد:

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،

عدد3 "مبارك الله"! هذه هي الأنشودة التي تلتقي فيها رغبات الأرض بمقاصد السماء. عندما أُبدعت الخليقة الأولى, "ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله". ومذ سقط الجنس البشري, وأُفسدت الخليقة الأولى, ضجت الأرض, وأنّت الخليقة كلها. ولكن حالما أعلن الله قصده الفدائي الذي دبره لخلاص البشرية الساقطة, استرد المؤمنون من بني آدم تلك الأنشودة التي أضاعتها عليهم الخطية, وعادوا يهتفون لفاديهم الذي خلقهم خليقة جديدة, ويسبحون له تسبحة جديدة, تمتاز عن التسبحة الأولى, بمقدار ما تمتاز الخليقة الجديدة عن الخليقة العتيقة. ولقد أجاد بولس الرسول إذ نظم للبشرية المفدية أنشودتها الجديدة التي مطلعها وخاتمتها: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح!".

يتألف هذا العدد الذي يتكون منه مطلع هذه الرسالة من مقطعين متقابلين, متوازيين- كلاهما يبدأ بالبركة ويختتم بشخص المسيح

المقطع الأول- "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح"

المقطع الثاني- "الذي باركنا بكل بركة.. في المسيح"

في المقطع الأول, المؤمنون يباركون الله بالحمد والشكر. وفي المقطع الثاني الله يبارك المؤمنين بإغداقه عليهم بركات السماء. نحن نباركه بتقديمنا له ثمرات الفكر, والقلب واللسان, وهو باركنا بتقديمه لنا ابن محبته الذي هو أُس كل البركات.

"مبارك الله"!- هذه هي النغمة التي وقعها رجال العهد القديم- من ملكي صادق إلى دانيال- سواء منهم من كان في ظفره وسعادته كداود وسليمان, أو من كان في حسرته وشقاوته, أمثال أيوب وإرميا. ولكن لم يستطع أحد أن يقول "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح", غلا بعد أن بزغ نور "المشرق من العلاء", وتجسد "الكلمة" في شخص المسيح الذي كشف عن أبوة الله- بالنسبة له أولاً بدرجة خاصة, ونوع ممتاز. لا يدانيه فيهما سواه-  ثم لجميع المؤمنين, على درجة أدنى من النوع, وفي الدرجة.

وفي العهد القديم كان الله معروفاً لشعبه بهذه الألقاب: "الإله العلي", "الإله القدير", "إله السماء", "إله إسرائيل", "الراعي", "الصخرة", "الإله الحقيقي", "الإله الحقيقي", "الإله الحي", "الملك الأبدي"- وكلها ألقاب مجيدة تبعث في النفس روعة وخشوعاً. أما ذلك اللقب الجليل: "الآب", الذي يضيف إلى روعته في النفس حباً وثقة, فقد ظل مخفي عن عيون رجال العهد القديم, ولكنه اُعلن لرجال العهد الجديد ولرسله الأطهار- وفي طليعتهم بولس, الذي جعل من هذا اللقب الجليل أبهى غرة لجلّ رسائله.

إن قوله: "أبو ربنا يسوع المسيح" يعتبر على مثال قول المسيح "أبي وأبيكم" (يوحنا20: 17). (انظر شرح بشارة يوحنا للمؤلف صفحة 806).

"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح"- وردت أيضاً هذه العبارة بنصها في2كو1: 3 و1بط1: 3. والكلمة الأصلية المترجمة "مبارك" وردت ثماني مرات في العهد الجديد, وفي كل مرة منها, لها صلة بذات الله. (انظر بنوع خاص مرقس 14: 61 حيث قال رئيس الكهنة للمسيح "أأنت المسيح ابن المبارك"؟). وقد استعمل الرسول كلمة "باركنا" بصيغة الماضي, للتوكيد, لتبيان أن هذه البركات وُهبت للمؤمنين في قصد الله قبل كون العالم.

في هذا العدد يصف الرسول بركات الله الموهوبة لنا, في ثلاثة أوصاف:

-أ- في طبيعتها: "كل بركة روحية"

-ب- في دائرتها: "في السماويات"

-جـ- في أساسها ووسيطها: "في المسيح".

(1) طبيعة البركات الموهوبة لنا من الله الآب: "الذي باركنا بكل بركة روحية", تختلف البركات التي جعلها الرسول موضوع شكره لله, عن البركات الموعودة في العهد القديم, في أن بركات العهد الجديد روحية خالدة, وتلك بركات مادية زمنية. فمن بركات العهد القديم قوله: "مباركاً تكون في المدينة. ومباركاً تكون في الحقل. ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك" (تث28: 3-6). "أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء. ويرث نسلك باب أعدائه" (تك22: 18). "إن سمعتم وأطعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" (إشعياء 1: 19 و20): لكن بركات العهد الجديد على طراز أعلى وأرقى: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت5: 3-10)

كان بولس الرسول نفسه من أبعد الناس تمتعاً بالبركات الزمنية. فقد قضى حياته ولم يكن له زوج, ولا ولد, ولا مال, ولا عقار, ولا مأوى. فما كان أسعده وأمجده, على رغم كونه يهودي الأصل متعوداً على بركات الأرض: لأنه بعد أن صار مسيحياً وهو في حرمانه أسعد حالاً منه في تمتعه. لأن حرمانه من كل شيء أتاح له فرصة التمتع باللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن: فكان وهو فقير, مغنياً كثيرين. وكان وهو لا يملك شيئاً مالكاً كل شيء. ومن ظلمات سجنه أراق نوراً على حياة الكثيرين. فكان في خيمته ناعماً بغنى لا يزول, وكان في سجنه المظلم متمتعاً بحرية السماء. وكان وهو يتقلب على الطوى, راتعاً في أمجاد العلي, فهو على هذه الحال خير مثال للمستمتعين بكل بركة روحية.

فالبركات "الروحية" هي تلك التي أغدقها الله على روح الإنسان, لا على جسده, لأن لها علاقة متينة بميلاده الجديد (يو3: 16), وهي تنعش حياته الروحية وتغنيها (رومية8: 9 و10) كما أنها تتوج مصيره الروحي الخالد (رومية7: 11, 1كو15: 44).

يعتقد بعضهم أن كلمة "روحية" تعني أنها بركات "الروح القدس". وحجتهم في ذلك: أن الرسول أشار في هذا العدد إلى الأقنوم الأول في اللاهوت, وإلى الأقنوم الثاني, فلا بد من أن يكون قد أشار هنا إلى الروح القدس, الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. ولكننا نميل إلى الرأي القائل إنها بركات خاصة بروح الإنسان. فمن البركات ما يشترك فيها الإنسان والحيوان- مثل الحياة والصحة- هذه بركات جسدية. ومنها يتمتع به الإنسان الطبيعي- نظير المعرفة والتمييز والذوق, والعقل والمنطق- هذه بركات عقلية. ومنها ما لا يتمتع به سوى المؤمنين شركاء الطبيعة الإلهية- هذه هي البركات الروحية المقصودة هنا. وفي الوقت نفسه نقرر أنه من المحال فصل البركات الروحية عن "الروح القدس" لأن هو روح هذه البركات

(ب) دائرة هذه البركات: "في السماويات". بما أن هذه البركات آتية من السماويات, فهي تسمو بالمؤمنين إلى "السماويات", على رغم كونهم يعيشون على الأرض. وهي أيضاً بركات محفوظة في "السماويات". لا يمكن أن ترتفع إليها يد الزمان ولا تطرقات الحدثان. "لأن حيلتهم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي3: 3), "لفإن سيرتنا نحن هي في السموات" (فيليبي3: 20).

لم ترد هذه العبارة: "في السماويات" في كل الكتاب المقدس سوى خمس مرات- كلها في هذه الرسالة (1: 3 و2: 6 و3: 10 و6: 12): ويجوز أن تترجم إلى "في الدائرة السماوية". ولدى تصفح هذه المواضع يتبين لنا, أن "السماويات" بيئة روحية غير منظورة, فيها يكثر نشاط القوات الروحية بما فيها قوات الشر التي تحاول أن تقاوم مقاصد الله في المؤمنين, وقوات الخير المؤيدة لقصده تعالى. وفوقها جميعاً يتسلط المسيح ويسود بنفوذه العجيب الذي كسبه بقيامته من الأموات: ليجمع كل شيء في المسيح- ما في السموات وما على الأرض في ذاك" (1: 10) "ويصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء أكان ما على الأرض أم ما في السموات" (كولوسي1: 20) فهي لا تعني حالة مقبلة, بل حالة راهنة. وخير ضمان لنا إزاءها, أن المسيح متسلط عليها بمجده. فإن كانت هي ساحة مصارعتنا, فإن المسيح هو ضامن ظفرنا. وإن كانت هي مستودع بركاتنا الروحية, فإن المسيح هو ضامن تمتعنا بها. لأن به وفيه كل شيء لنا "ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية" (2كو4: 18).

وإذا كانت هذه العبارة تعين دائرة البركات التي نتمتع بها, فهي تعين مقامنا في المسيح: "الذي أقامه الآب وأجلسه عن يمينه في السماويات, وأقامنا نحن أيضاً معه وأجلسنا معه في السماويات" (1: 20 و2: 6). فالمسيح هو هروننا الذي انسكب دهن المسحة على رأسه أولاً, ثم نزل إلى طرف ثيابه.

4كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ،

(جـ) أساس هذه البركات ووسيطها: "في المسيح". هذه العبارة من مميزات أسلوب بولس الرسول. ومع أنها وردت في كل رسالته إلى كولوسي. وقد وردت كلمة "المسيح"- في الأصل- تارة معرّفة بأداة التعريف وطوراً مجردة عنها. في الحالة الأولى, تشير إلى وظيفة المسيح, وفي الثانية تعني شخصه بالذات. وقد وردت هنا خالية من أداة التعريف, لتعني شخص المسيح الذي "فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات".

منذ القديم, والأمة اليهودية تضع كل رجائها في "مسيا" الموعود, فكانت كل انتظارات اليهود موجهّة إلى شخصه. وفي ملء الزمان ولد يسوع الناصري في بيت لحم اليهودية. لكن الأمة اليهودية كمجموع جهلت حقيقته- أو تجاهلتها- إذ اصطدمت بصخرة صليبه. ولما أعلن الله "سره" لبولس رسول الأمم, طفق يعلم اليهود والأمم, أن يسوع الناصري هو هو مسيا- المسيح المنتظر- الذي تمت فيه كل نبوات العهد القديم, فينبغي أن يكون هو محط آمال اليهود والأمم سواء بسواء. فهو رأس المؤمنين وهو رئيسهم ونائبهم الأعظم, وقاطع العهد معهم, وضامن عهدهم, ورأس حياتهم, ورأسهم الروحي. فهو الكرمة وهم الأغصان- لذلك هم "فيه" مباركون, وفيه يقومون, وفيه هم مقامون, وممجدون (2تي1: 9) لأنهم متصلون به صلة حيوية, فعلية, فضلاً عن كونها شرعية.

5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ،

ومن مميزات كتابات بولس الرسول أن يقرن فيها اسم "يسوع" بوظيفته: "المسيح", إلا في المرات التي أراد أن يحدثنا فيها عن ناحية من نواحي اتضاعه (2كو4: 10).

ومن العجيب حقاً, أن بولس اليهودي الأصل يجعل جل تفكيره وتعليمه مركزاً, لا في يسوع حسب الجسد, بل في المسيح السماوي, الإلهي الذي هو الله ظاهراً في الجسد. فرسالته "من السماويات إلى السماويات". فلا غرابة إذ سمعناه يقول: "إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد" (1كو5: 16). فالمدة التي قضاها المسيح على الأرض ليست كل حياته ولا هي جلها, وإنما هي فترة قصيرة المدى ظهر فيها المسيح متضعاً فهو أزلي في وجوده أبدي في كيانه. لكنه "افتقر لأجلنا وهو غني", "وإذ كان في صورة الله... أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس". وإذ انتهت مدة اتضاعه "رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم". (2كو8: 9 وفيليبي2: 6-9).

إن معرفة بولس بالمسيح سارت على درجات متتابعة. فقد عرّفه أولاً باعتبار كونه: "يسوع" المتضع, المضطهد: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"(أعمال9: 5), وفيما بعد وجد فيه "مسيا" المنتظر. وبعد أن تلقن هذا الدرس لقنه للآخرين: "وأما شاول فكان يزداد قوة ويحير اليهود الساكنين في دمشق محققاً أن (يسوع) هذا هو المسيح" (أعمال9: 22).

هذا هو المسيح المصلوب, المقام, الممجد, الجالس عن يمين تاعظمة في الأعالي المتسلط على كل القوات والسلاطين, الذي "فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات".

هذه هي البركات الموهوبة لنا فيه- من حيث طبيعتها ودائرتها, وأساسها, ووسيطها. وفيما بعد فصّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد الثالث, سيما قوله: "في المسيح". فأبان لنا أن هذه البركات ليست مستحدثة كما لو كانت فكرة طارئة على قصد الله وتدبيره, بل هي بركات مقضي بها منذ الأزل, ولذلك فهي أكيدة محققة

  • عدد الزيارات: 9741