تتمة البشارة – على شاطئ بحيرة الجليل
اَلأَصْحَاحُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
في قلب فلسطين, تلك الأرض المقدسة, حيث تحل الطبيعة سافرة بمجدها وجلالها, تقع بحيرة طبرية, التي صارت الآن محط رحال الطيارات التي تجتاز الأجواء من الغرب إلى الشرق, ومن الشرق إلى الغرب, مثلما كانت شواطئها قديماً مدرسة خالدة تعلم فيها رسل المسيح, الذين وصلوا الشرق بالغرب, والغرب بالشرق بكلمة بشارتهم. هذه هي البحيرة الهادئة الجميلة, ذات الماء الأزرق الصافي, التي أصغت أمواجها إلى الأحاديث العذبة التي سمعها التلاميذ من فم ذاك "الذي صوته كصوت مياه كثيرة" (رؤ 1: 15).
إن اجتماع المسيح بتلاميذه في تلك البقعة الجميلة, لم يأت عرضاً. فلقد سبق وأنبأ تلاميذه بهذا اللقاء: "كلكم تشكون في في هذه الليلة ...... ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل" (متى 36: 32).
على إحدى ضفاف هذه البحيرة, تقع المدينة "كفرناحوم", التي اختارها المسيح وطناً ثانياً له, فشهدت هذه البحيرة آيات كثيرة صنعها مخلصنا في أيام تجسده على الأرض. فكان من الطبيعي أن تشهد أيضاً هذه البحيرة عينها, فصلاً من حياة فادينا قبيل صعوده إلى المجد.
إن نسبة هذا الفصل الختامي, إلى الأصحاحات السابقة في هذه البشارة, كنسبة المقدمة الافتتاحية (1: 1- 18) إلى الأصحاحات التي تليها. في المقدمة الافتتاحية, رأينا المسيح "كلمة الله المتجسد" كائناً, حياً, عاملاً منذ الأزل, قبل التجسد. وفي هذه الخاتمة, نرى المسيح المقام عاملاً في كنيسته, ومرتقياً إلى العرش, صائراً ملكاً إلى الأبد, ومرتباً مستقبل خدامه.
إن هذا الفصل الذي اختتم به يوحنا بشارته, مطبوع بذات الطابع الذي طبعت به سائر أجزاء البشارة. ومكتوب بنس الأسلوب الذي كتبت به, يتضمن عدداً وفيراً من ذات العبارات, التي يتميز بها قلم يوحنا البشير.
فمن هذه العبارات الممتازة: (1) كلمة "أظهر" – هذه لم ترد بصيغة المبني للمعلوم – في كل الإنجيل – إلا في كتابات يوحنا البشير وحده. (قابل هذا بما جاء في 1: 31 و3: 21 و9: 3 و21: 14 و1 يو 1: 2 و2: 19 و28 و3: 2 و5 و8 و4: 9). (2) "بحيرة طبرية" – هذا هو الاسم الخاص الذي أطلقه يوحنا البشير وحده على هذه البحيرة (انظر أيضاً 6: 1), مع العلم أن متى يسميها "بحر الجليل" (متى 4: 18), ولوقا يدعوها: "بحيرة جنيسارت" (لو 5: 1). (3) كلمة: "هكذا" (21: 1). (4) وصف توما الرسول (قابل 11: 16 و14: 5 و20: 24 بما جاء في 21: 4). (5) ذكر اسم نثنائيل (قابل 1: 45 بما جاء في 21: 2). (6) حذف اسمي ابني زبدى – على اعتبار أن يوحنا البشير أحدهما (21: 3). (7) كلمة: "أتصيد" (قابل 21: 3 و10 بما جاء في 7: 30 و32 و44 و8: 20 و10: 39 و11: 57 ورؤ 19: 20). (8) كلمة: "جمراً" (قابل 21: 9 بما جاء في 18: 18). (9) تلقيب سمعان بطرس بـ"ابن يونا" (قابل 21: 15 و16 و17 بما جاء في 1: 42). (10) كلمتا: "الحق الحق" (قابل 21: 18 بما جاء في 1: 51). (11) العبارة: "قال هذا مشيراً" (قابل 21: 19 بما جاء في 12: 33 و18: 32).
1بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ.
(12) كلمة: "يبقى" (قابل 21: 22 بما جاء في 1: 32 و33 و39 و40 و2: 12 و3: 36 و4: 40).
ينقسم هذا الفصل إلى قسمين رئيسيين, أولهما: المسيح وتلاميذه كمجموع (21: 1 – 14). ثانيهما: المسيح واثنان من تلاميذه (21: 15 – 23). خاتمة تاريخية (21: 24 و25). في القسم الأول نرى صورة رمزية لبرنامج عمل الكنيسة كمجموع, وفي الثاني نرى صورة لبرنامج اثنين من أفراد خدام الكنيسة.
أولاً: المسيح وسبعة من تلاميذه (21: 1 – 14). في هذا القسم نرى التلاميذ في ثلاث حالات: (أ) الفشل الذي حل بهم وهم يعملون من تلقاء ذواتهم (21: 1 – 2). (ب) النجاح الذي أصابهم وهم يعملون طبق إرشاد المخلص (21: 4 – 11). (ج) الشبع الذي نالوه من المسيح المقام (21: 12 – 14).
(أ) الفشل الذي حل بالتلاميذ وهم يعملون من تلقاء ذواتهم (21: 1 – 3). انقضت أيام الفصح, فأقفل التلاميذ راجعين إلى الجليل, فاجتمع سبعة منهم على بحر طبرية. وأن في اجتماعهم معاً على هذه الصورة, لأكبر دليل على أن قيامة المسيح قد وحدت صفوفهم, بعد أن شتت الصلب شملهم.
عدد 1. (1) ظهور المسيح للتلاميذ على بحر طبرية: "بعد هذا أظهر أيضاً يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية. ظهر هكذا". ما أشبه هذه العبارة بحلقة اتصال بين ظهور المسيح لتلاميذه في أورشليم, وظهوره لهم في الجليل. في هذا تعبير رواية يوحنا جامعة لما بين طرفي رواية متى – عن ظهور المسيح في
ظَهَرَ هَكَذَا: 2كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ وَابْنَا زَبْدِي وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ.
الجليل, ورواية لوقا – عن ظهوره للتلاميذ في اليهودية. فنحن مدينون ليوحنا بهذه الحقيقة – وهي: أن المسيح ظهر لتلاميذه في كلا اليهودية والجليل.
عدد 2. (2) السبعة الذين ظهر لهم يسوع: "كان سمعان بطرس وتوما الذي يقال له التوأم, ونثنائيل الذي من قانا الجليل, وابنا زبدى واثنان آخران من تلاميذه مع بعضهم". هؤلاء سبعة تلاميذ – والسبعة عدد كامل – وقد ذكر منهم البشير, أسماء ثلاثة تصريحاً – وهم: "سمعان وتوما, ونثنائيل". واثنين تلميحاً: "ابنا زبدى", اللذان تحاشى البشير ذكر اسميهما, تواضعاً منه, لأنه أحدهما. واثنين, وصفهما بالقول "من تلاميذه" – ومن المعقول أنهما كانا([1]) اندراوس وفيلبس, - لأن قائمة الأسماء التي في غرة هذا الأصحاح, تذكرنا بتلك القائمة التي وردت عند ختام الأصحاح الأول, فهي تتضمن ذات الأسماء التي في تلك, مع إضافة اسمي توما ويعقوب مما جعل عدد الرسل رمزاً إلى كمال الخدمة في الكنيسة المسيحية.
أولاً نجد وضع البشير, اسم "سمعان بطرس" واسم توما" جنباً إلى جنب, مغزى خاصاً – وهو أن هذا المشهد جمع التلميذ الذي أنكر سيده, بذاك الذي شك فيه, وضمهما, على رغم ضعفهما, إلى صفوف الرسل؟
3قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا
عدد 3. (3) التلاميذ يقضون ليلتهم في الصيد بغير جدوى:
"قال لهم سمعان ...". في هذا العدد تتجلى أمامنا ثلاث حقائق رئيسية (أ) اقتراح بطرس: "قال لهم سمعان بطرس أنا أذهب لأتصيد". فمثلما قضى التلاميذ الفترة التي بين دعوتهم الأولى, وبين بدء خدمتهم الجهرية, في الصيد, كذلك أرادوا أن يقضوا الفترة بين رجوعهم إلى الجليل, وتسلمهم مهام خدمتهم, في نفس ذلك العمل – "الصيد". فليس في قول بطرس "أنا أذهب لأتصيد" ما يفيد أنه انحرف عن جادة الخدمة, وإنما قصد أن يملأ يده بعمل شريف ليقتات منه – والمسيح يظهر نفسه دائماً للعاملين الشرفاء – حتى تحين ساعة تسلمه مقاليد الأعمال. ومن العجيب, أن بطرس, على رغم إنكاره لسيده, لم يزل محتفظاً بمقام الزعامة بين الرسل, لأنه كان غالباً أكبرهم سناً, وأكثرهم إقداماً, وأسبقهم إلى الكلام.
(ب) الرسل يقتدون ببطرس: "قالوا له نذهب نحن أيضاً معك". مثلما اقتدى يوحنا ببطرس في الدخول إلى القبر (20: 18), كذلك أيضاً, اقتدى سائر الرسل ببطرس في الانصراف إلى الصيد: "نذهب نحن أيضاً معك".
(ج) فشل بطرس والتلاميذ في تلك الليلة: "فخرجوا ودخلوا السفينة لوقت. وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئاً". غالباً جداً انتظر التلاميذ, حتى انقضى السبت اليهودي, وما أن غربت شمسه, حتى "خرجوا" من بيوتهم
السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً. 4وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ
ليتصيدوا في تلك البحيرة – "ودخلوا السفينة" – والظاهر أنها هي سفينة بطرس, التي كان قد تركها منذ أن اتبع المسيح (لو 5: 11), ولما دعته الحاجة إليها, استردها ممن باعها له أو استودعها عنده – "وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئاً – لمزيد الأسف. هل ذكرهم فشلهم هذا, بذلك الفشل الذي صادفهم قبل أن يتبعوا المسيح؟ (لو 5: 5). أو أنهم كانوا متعبين لدرجة لم يستطيعوا فيها أن يفكروا في شيء, سوى شباكهم الخاوية؟ يلاحظ – في اللغة الأصلية – أن يوحنا وضع تنبيراً خاصاً على قوله: "تلك الليلة", على اعتبار أنها كانت ليلة خاصة, فتميزت بهذا الفشل الغير العادي. وكأنه أراد أن يقول: "تلك الليلة الموعودة". هذا فشل هو نعم النجاح. فلو كان التلاميذ قد نجحوا في تلك الليلة, لوجدوا من تشجيعهم, تحريضاً لهم على التمادي في الصيد. لكن العناية الإلهية جعلت فشلهم في صيد الأسماك من بحيرة طبرية, توطئة وعربوناً لنجاحهم المقبل في صيد نفوس من بحر الحياة. ولأن فشلاً يرتبه لنا الله, خير من نجاح ندبره نحن لأنفسنا.
(ب) النجاح الذي أصابهم وهم يعملون بإرشاد المخلص (21: 3 –11)
عدد 4. (1) الضيف المجهول: "لما كان الصبح ...". ظل التلاميذ معذبين في تلك الليلة, على رغم كون الليل بطبيعته من أنسب الأوقات للصيد (لو 5: 6). ولعلهم أن مهنة الصيد تركتهم, بعد أن تركوها هم. وفيما هم على هذه الحال, وإذا بالفجر يطوي رداءه الأخير ليفر من وجه
وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. 5فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟».
النهار. فما كادت تشرق شمس الطبيعة من وراء الأفق, حتى أشرق "شمس البر" من فوق الشاطئ, وأشرف عليهم: فالتلاميذ في السفينة ..... والمسيح على الشاطئ! شتان ما بين موقفهم وموقفه – هم في سفينتهم الصغيرة تتقاذفها وإياهم الأمواج, وتعبث بهم المخاوف طوال الليل وهو على الشاطئ عند إشراق الصباح, حيث الثبات, الاطمئنان, والنور. ألا نجد في موقفهم, رمزاً للمتاعب التي تحل بخدام الكنيسة وهم يعمون في بحر هذا الوجود أثناء ليل الحياة؟ أو ليس مزقه هو, رمزاً لمقام الثقة, والاطمئنان, والمجد, الذي يتمتع به بعد أن أكمل عمل الفداء؟ أولاً يذكرنا موقفه هنا وهو على الشاطئ منتظراً أن يعزي تلاميذه ويشجعهم بذاك الموقف العجيب, الذي رآه فيه استفانوس قائماً لنجدته واستقباله قبل موته؟ "ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه يسوع". وكم من المرات يقف المسيح على شاطئ بحر حياتنا, ونحن عن معرفته غافلون.
عدد . (2) السائل المعطي: "فقال لهم يسوع يا غلمان". ناداهم الفادي بقوله لهم: "يا غلمان" تحبباً منه وتودداً. وغالباً كان النداء على هذه الصيغة مألوفاً في ذلك الوقت – "ألعل عندكم أداماً". هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها كلمة: "أدام" في العهد الجديد. ويراد بها أصلاً ما يؤكل مع الخبز وقد أطلقت من قبيل التخصيص, على "السمك". إن السؤال الذي
أَجَابُوهُ: «لاَ!» 6فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا». فَأَلْقَوْا وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ.
ألقاه المسيح على تلاميذه بهذه الصيغة, يحمل معه جوابه السلبي. فهو عالم بكل شيء وكان منتظر هذا الجواب, وإنما سألهم إياه ليحملهم على الاعتراف بفشلهم. لأن النجاح الذي يرتبه الله لخدامه لا يبتدئ إلا بعد أن يصلوا إلى منتهى فشلهم.
"أجابوه لا". إن كلمة: "لا" قبيحة في حد ذاتها, لكن ما أجملها متى كانت ممهدة السبيل لعمل القدرة الإلهية في حياتنا! وبما أن نور الشمس لم يكن قد انتشر بعد في الأرجاء, لذلك لم يستطع التلاميذ أن يميزوا الرب, ب ظنوه رجلاً جليلاً جاء ليبتاع منهم سمكاً.
عدد 6. (3) السائل المجهول يقدم لهم إرشاداً فيتلقوه كأمر ويلقون الشبكة: "فقال لهم ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا". سرعان ما سمع التلاميذ من هذا الزائر الغريب, هذه النصيحة التي عين لهم فيها الجهة المناسبة للصيد, حتى صدعوا بأمره, ظناً منهم أنه لمح – وهو على الشاطئ – تموجات في الماء, أو علامات أحرى, دلته على وجود سمك في ذلك الموضع المعين, من غير أن يعلموا أنهم منفذون أمر سيدهم وفاديهم. "فألقوا شباكهم ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك". فقد يكون النجاح دليلاً على حضور الله في وسط شعبه, ورضاه عنهم, إلا أن هذه قاعدة لها شواذها, فقد تأتينا بركات من الله مبرقعة بحجاب الفشل.
7فَقَالَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: «هُوَ الرَّبُّ». فَلَمَّا سَمِعَ
عدد 7. (4) أسبق التلاميذ إلى تمييز هذا الزائر الكريم "فقال ذاك التلميذ كان يسوع يحبه" – أي يوحنا – "لبطرس: هو الرب". إن عيني المحبة كعيني النسر, تريان ما لا تراه أعين أحرى, فلا عجب إذا كانت عينا يوحنا أسبق العيون إلى تمييز شخصية المسيح, فهو التلميذ المحب. على أن المحبة لا تكتفي بأن تسبق غيرها في ميدان المعرفة, لكنها أيضاً تسبق سواها في إشراك الآخرين معها في ما تكتشفه من كنوز. كذلك قال يوحنا بطرس:
"هو الرب" – هاتان الكلمتان, شبيهتان بمنارتين مضيئتين, إذا حملهما الإنسان معه أنى سار, بددت أنوارهما كل ظلام ويأس في سبيل حياته. لكن أحباء اله, هم وحدهم الذين يستطيعون أن يروا الرب في كل شيء. فإذا ما حلت بهم أوقات ضيقات ومسرات, وأفراح وأتراح, وفشل ونجاح, وخسائر وأرباح, رأوا في هذه كلها يد الرب, وقالوا: "هو الرب". ولكن الأفضل ليوحنا في حبه للفادي, لأن محبته للمسيح لم تكن سوى صدى صوت محبة المسيح له: "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". ومما ساعد يوحنا على تمييز شخصية الفادي, أن النجاح الذي صادفهم في هذه المرة ذكره بذلك النجاح الذي كان قد صادفهم في مناسبة سابقة, عند بدء تعرفهم بالرب (لو 5: 6 و7).
(5) بطرس أيضاً يميز هذا الزائر الكريم فيسرع إلى لقائه: "فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب اتزر بثوبه" – هذه هي المرة وحيدة التي وردت فيها الكلمة: "ثوب" في اللغة الأصلية في العهد الجديد – "لأنه كان عرياناً
سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ. 8وَأَمَّا التّلاَمِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
وألقى نفسه في البحر". كان يوحنا محباً لسيده, وكذلك كان بطرس. لكن كلاً منهما عبر عن محبته لفاديه, بالطريقة التي تتفق ومزاجه الخاص, فيوحنا المحب, الساكن الهادئ, عرف شخصية الرب, لكنه ظل في مكانه ساكناً, متأملاً, منتظراً حتى ترسو السفينة في وقتها المناسب. أما بطرس الغيور المندفع, فحالما عرف شخصية السيد, لم يتمهل حتى ترسو السفينة, بل اندفع – وعادته الاندفاع – وألقى بنفسه في البحر, بعد أن "اتزر بثوبه لأنه كان عرياناً", مع أنه لو ظل في مكانه في السفينة, لرست السفينة على الشاطئ قبله, إذ لم يكن بينه وبين الشاطئ "إلا نحو مئتي ذراع". ولكن أنى لبطرس أن يتمهل في مكانه منتظراً وهو الذي يريد أن يبالغ في إظهار ولائه لسيده, بطريقة تمحو نكرانه له (18: 28)؟.
يذكرنا موقف بطرس هنا, بموقف آخر له عند بدء تعرفه بالمسيح (لو 5: 8). هناك رأينا بطرس شاعراً بخطاياه, وفاراً من وجه مولاه قائلاً: "أخرج من سفينتي يا رب ". وهنا نراه شعراً أيضاً بخطيته, وفاراً إلى وجه السيد. فشعور المرء بخطيته يبعده عن الله في بادئ الأمر, لأن الله نور لا يدنو منه ظلام. ونفس هذا الشعور يدفع الإنسان أيضاً إلى الالتجاء إلى الله, مستنجداً به ومستغيثاً. لأن الله ليس قاضياً فقط, بل هو أيضاً ولينا.
عدد 8. (6) موقف التلاميذ الآخرين تجاه هذا الضيف الكريم:
بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ. 9فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. 10قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ
"أما التلاميذ الآخرون, فجاءوا بالسفينة, لأنهم لم يكونوا بعيدين عن الأرض إلا نحو مئتي ذراع" – المئتا ذراع هذه, تساوي نحو خمسة وتسعين متراًً.
عدد 9. (7) الضيف المضيف: "فلما خرجوا إلى الأرض نظروا جمراً موضوعاً وسمكاً عليه وخبزاً". ما أكرم هذا المضيف الذي أتى إلى تلاميذه على الشاطئ, ضيفاً سائلاً إياهم عما عندهم من أدام, كما لو كان هو محتاجاً إلى أدامهم, مع أنه سبق فأعد لهم على الشاطئ أداماً وخبزاً من لدنه. لم يقل لنا الكتاب, من أين أتى المسيح بهذا السمك وهذا الخبز. ويكفينا أن نذكر أنه رب البحر والبر, وأن كل ما فيهما, في قبضة يديه. وفي اعتقادنا أن ما أعده المسيح على الشاطئ تلاميذه, ليس سوى رمز لما أعده لجميع خدامه, ليتمتعوا به, متى فرغوا من أعمالهم في بحر الحياة, ووصلوا إلى شاطئ الأبد.
عدد 10. (8) المضيف الكريم يطلب إليهم أن يقدموا من السمك الذي أمسكوه. "قال لهم يسوع قدموا من السمك الذي أمسكتم الآن". يحدثنا هذا العدد عن ثلاثة أمور: أولها: - علم المسيح كل شيء. لأنه واضح أن التلاميذ لم يكونوا قد جذبوا بعد شبكتهم من البحر (عدد 11). أمره لهم بأن يقدموا من السمك الذي أمسكوه, دليل على أنه يحيط علماً بك شيء. وثانيها – أن المسيح بطلبه إلى تلاميذه أن يقدموا له ما سبق فقدمه لهم,
الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ». 11فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ مُمْتَلِئَةً سَمَكاً
أرادهم أن يعترفوا بعطاياه لهم, وأن يدركوا أن هذه العطايا ليست للحفظ, بل للاستعمال. وثالثها – أن في مطالبة المسيح تلاميذه, بأن يقدموا من السمك الذي أمسكوه, رمزاً إلى أنه سيطعم المؤمنين الأمناء من تعب أيديهم متى بلغوا شاطئ الأبد. فمع أن الحياة تعطي للإنسان هبة مجانية, إلا أن جانباً غير يسير من مسراتها, يعود على الإنسان نتيجة أمانته فيما سلم إليه من وزنات.
عدد 11. (9) العدد الكامل: "فصعد سمعان بطرس" – هذه مرة أخرى نرى فيها بطرس أسبق زملائه إلى العمل – "وجذب الشبكة إلى الأرض ممتلئة سمكاً كبيراً مئة وثلاثاً وخمسين ومع هذه الكثرة, لم تتخرق الشبكة". اهتم المفسرون –من متقدمين ومتأخرين – بعدد الأسماك التي اصطادها الرسل, وعلقوا عليه تعليقات شتى: فكيرلس الإسكندري, حسب العدد 153 مؤلفاً من 100+50+3. فالعدد 100 يرمز إلى ملء الأمم, والعدد 50 يرمز إلى البقية المختارة من إسرائيل, والعدد 3 إلى الثالوث الأقدس. وقال اغسطينوس: أن العدد 10 يرمز إلى الناموس, ولكن بما أن الناموس يقتل, لذلك أضاف رقم 7 إلى العدد 10 الذي يمثل حسب رأيه ملء هبات الروح, ثم جمع الأعداد من 1 إلى 17 فصار المجموع 153. من أجل ذلك ارتأى أن هذا العدد الأخير, يرمز إلى كل الداخلين تحت لواء المسيح الذي التقت يه النعمة بالناموس. وقال كستلين إن 153 هو عدد
كَبِيراً مِئَةً وَثلاَثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ.
أنواع السمك التي كانت معروفة وقتئذ, دلالة على أن المختارين سيكونون من كل قبيلة, وشعب, وأمة. وقال هنجستبرج: أن عدد الأسماك يرمز إلى الـ600 و153 دخيلاً, الذين كانوا قد دخلوا حظيرة إسرائيل حتى عهد سليمان (2 أي 2: 17). ومهما يكن من أمر هذه التأويلات, التي لا تخلو من طرافة ممتزجة بغرابة, فإننا نعتقد أن المستفاد من هذا العدد هو: (ا) أن السمك الذي اصطاده الرسل كان كثيراً جداً. (ب) أن هذا السمك بلغ كثرة إلى حد أن الرسل اهتموا بإحصاء عدده فوجدوه 153. (ج) أن كل السمك الذي اصطاده الرسل, وصل إلى الشاطئ, من غير أن يسقط منه شيء, بدليل قوله أن "الشبكة لم تتخرق", دلالة على أن كل المختارين سيصلون إلى موطن السلام من غير أن يفقد منهم أحد.
وقد اهتم بلومر أحد المفسرين العصريين, بوضع مقابلة بين الأسماك التي اصطادها التلاميذ في هذه المرة, وبين تلك التي اصطادوها عند بدء خدمتهم (لو 5: 6), فقال أن تلك الأسماك ترمز إلى الكنيسة المجاهدة, وهذه ترمز إلى الكنيسة الظافرة. تلك ضمنت عدداً كبيراً من أسماك مختلفة – بعضها حسن وبعضها رديء, مما دعى إلى تمزيق الشبكة – شأن الكنيسة المجاهدة التي مزقتها الانقسامات والأهواء. وأما هذه, فإنها ترمز إلى الكنيسة المنتصرة, التي لا تجمع إلا المختارين وحدهم, الذين لا يهلك منهم أحد.
12قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلُمُّوا تَغَدَّوْا». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التّلاَمِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ. 13ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ.
(ج) الشبع الذي ناله التلاميذ من المسيح المقام (21: 12 – 14).
عدد 12. المضيف الكريم يدعو ضيوفه إلى طعام الإفطار الذي أعده لهم: "قال لهم يسوع هلموا تغدوا". في بدء تعرفهم به, قال لهم: "هلموا ورائي"! والآن قبيل افتراقه عنهم, قال لهم "تعالوا تغدوا"! تلك دعوة للتلمذة, وهذه دعوة لملء الشركة والشبع. ولقد لبى التلاميذ هذه الدعوة الأخيرة, مثلما لبوا دعوته الأولى. لكن التهيب, والفرح, والاقتناع, قد ملكت مشاعرهم في هذه المرة. "فلم يجسر أحد منهم أن يسأله من أنت إذ كانوا يعلمون أنه الرب" – على رغم التغير الذي لاحظوه على هيئته بعد القيامة. هذا دليل آخر, على كاتب هذه البشارة شاهد عيان. لأنه لم يكتف بأن ينقل إلينا أقوال التلاميذ, بل صور لنا أيضاً مشاعرهم, بدقة فائقة.
عدد 13. (2) المضيف الكريم يطعم ضيوفه مما أعد لهم: "ثم جاء يسوع" – لما رآهم محجمين عن الدنو منه, بسبب خوفهم وتهيبهم, تقدم هو إليهم – "وأخذ الخبز وأعطاهم". وردت كلمتا: "خبز" و"سمك" بالمفرد, دليلاً على أنهما الخبز والسمك اللذان كان قد أعدهما المسيح على الشاطئ, قبل أن يجذب التلاميذ شبكتهم من البحر. فما أكرم هذا المضيف الذي لا يقدم لضيوفه إلا مما أعده شخصياً من عنده!!
14هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ.15فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ:
عدد 14. (3) كلمة تاريخية تفسيرية: "هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعد ما قام من الأموات". أما المرة الأولى التي سجلها يوحنا, فقد مررنا بها في 20: 23, والثانية في 20: 26 – 29.
ثانياً: المسيح واثنان من تلاميذه (21: 15 – 23). هذا الفصل فيه مشهدان: (أ) المشهد الأول: المسيح وبطرس (21: 15 – 19). (ب) المشهد الثاني: المسيح ويوحنا (21: 20-23 ).
(أ) المشهد الأول: المسيح وبطرس (21: 1 –19 ). في هذا المشهد أكد المسيح لبطرس غفرانه التام, وثبته في وظيفته الرسولية, وسلمه مقاليدها من جديد, في حديث يتألف من خمسة أعداد. الثلاثة الأول منها (عدد 15 – 17), تتضمن سؤالاً مثلثاً, ومهمة مثلثة: وفي العددين الباقيين (عدد 18 و19), أنبأ بطرس بما سيصيبه في مستقبل الأيام.
السؤال المثلث, والجواب المثلث, والمهمة المثلثة (21: 15 – 17). من الملاحظ أن كل عدد من هذه الأعداد, يتضمن سؤالاً في غرته, وجواباً في وسطه, ومهمة في خاتمته.
توطئة تاريخية: "فبعد ما تغدوا قال يسوع لسمعان ...". على شاطئ بحر طبرية تسلم بطرس مهام وظيفته لأول مرة, وهو يصطاد سمكاً (لو 5: 10), وعلى شاطئ هذه البحيرة عينها, استرد بطرس مقاليد وظيفته
«يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ﭐرْعَ خِرَافِي».
وهو يتصيد أيضاً (21: 15). على مقربة من جمر متقد, أنكر بطرس سيده أمام جارية (يو 18: 18) وبجانب جمر متقد أيضاً, نال بطرس الضمان التام لمغفرة خطاياه (21: 9 و15)
فما أقرب التشابه بين هذه المناسبات المتباينة.
السؤال المثلث: "يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء" (عدد 15) "قال له أيضاً ثانية يا سمعان بن يونا أتحبني" (عدد 16) ... "قال له ثالثة يا سمعان بن يونا أتحبني" (عدد 17) ...". ألقى المسيح هذا السؤال على بطرس ثلاث مرات, وفي كل مرة منها, لم يخاطبه باسمه الجديد الذي خلعه عليه: "بطرس" – ومعناه "الصخرة", بل اسمه ولقبه اللذين كان معروفاً بهما من قبل: "سمعان بن يونا" – ومعناهما "المطواع بن اليمامة". بهذا اللقب وهذا الاسم خاطب المسيح بطرس, يوم أن أتى إليه أخوه اندراوس (1: 42) وبهما أيضاً خاطبه في أحسن أوقاته يوم أن أقر له باعترافه الحسن (متى 16: 17). فكأن المسيح قصد من مخاطبة بطرس بهذا الاسم وهذا اللقب, أن يقلب سفر ماضي بطرس أمام عينيه, بما فيه من صفحات سود وبيض.
"أتحبني؟" – ثلاث مرات أنكر بطرس سيده, وثلاث مرات أيضاً وجه المسيح هذا السؤال إلى بطرس, ليفوز منه بإقرار إيجابي مثلث ينفي به نكرانه المثلث. فقول بطرس: "أنت تعرف" نسخ قوله للجارية: "يا امرأة لست أعلم".
16قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ
كنا ننتظر أن يسأل المسيح بطرس عن حزنه العميق على خطيته السابقة, أو عن عزمه الأكيد على أن لا يعود إلى مثلها مرة أخرى, أو عن كبار الأعمال التي ينوي أن يقوم بها في مستقبل الأيام, أو عن إيمانه وما سيجود به من ثمار طيبة, لكن المسيح لم يسأل بطرس لا عن هذا, ولا عن ذاك, وإنما سأله عن شيء واحد – المحبة. ولا عجب. فالمحبة هي رباط الكمال. أو كما قال أغسطينوس "أحب من كل اقلب ثم افعل ما بدا لك". في هذا يمتاز بطرس عن يهوذا – ليس لأن خطيته أصغر من خطية ذاك, بل لأن ولاءه لمولاه, أجل وأكبر. فالحب كان مالئاً قلب بطرس. والسم, قلب يهوذا.
ومن الملاحظ أن كلمة: "محبة" التي استعملها المسيح في سؤاليه – الأول والثاني – لبطرس (عدد 15 و16), هي غير كلمة: "محبة" التي استعملها بطرس في جوابيه الأول والثاني. فالمسيح استعمل فيها كلمة "أجابان" وهي تعني المحبة في أجل مظاهرها وأقوى مشاعرها وأسمى درجاتها. مع أن الكلمة التي استعملها بطرس في أجوبته الثلاثة هي "فيلين" وهي نفس الكلمة التي استعملها المسيح في سؤاله الثالث (عدد 17), وهي تعني المحبة في مظاهرها الاعتيادية الطبيعية, وهي أقرب الكلمات إلى المودة. هذا دليل آخر على أن البشير كان شاهد عيان, وأنه اهتم بأن يصور لنا هذا الموقف الأخير, بين المسيح وبطرس, بغاية الدقة, فحرص على أن يحفظ لكل كلمة قوتها ودلالتها: هذا وإن في استبدال المسيح في سؤاله
تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ﭐرْعَ غَنَمِي». 17قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا
الثالث, كلمة "اجابان" الممتازة, بكلمة "فيلين" المتواضعة, تعليلاً آخر لحزن بطرس, الذي استولى عليه, عند سمعه هذا السؤال الثالث من سيده. فمع أنه من المسلم به, أن تكرار المسيح لسؤاله لبطرس, ثلاث مرات, كان سبباً رئيسياً في أحزان قلب بطرس – لأن السؤال الذي أعيد عليه ثلاثاً ذكره بخطيته التي ارتكبها ثلاثاً, إلا أن بطرس حزن أيضاً لأن كلمة, "فيلين" التي ذكرها المسيح في سؤاله الثالث, أشعرته بأن المسيح لم يحسبه أهلاً لتلك المحبة الرفيعة لممتازة, التي سأله عنها في المرتين الأولى والثانية.
وجدير بالملاحظة أن المسيح ذكر في سؤاله لبطرس, عبارة أغفلها عمداً في سؤاليه الثاني والثالث, وهي قوله: "أكثر من هؤلاء" (عدد 15). فقد اتخذ المسيح هذه العبارة, أداة لتذكير بطرس بعهوده التي قطعها على نفسه, متفاخراً بها على زملائه: "إني أضع نفسي عنك" .... "إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك" (يو 13: 37 ومتى 26: 33). أما وقد رأى المسيح من جواب بطرس المثلث, أنه أقلع عن عادة التفاخر على أترابه, فلم يجد داعياً لتكرار هذه العبارة. لأنه لا يلقي علينا درساً مرتين متى فهمناه لأول مرة.
الجواب المثلث: "... نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك" (عدد 15) "... نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك" (عدد 16). "... أنت تعلم كل شيء أنت تعرف إني أحبك" (عدد 17) – هذه كلها أجوبة مفعمة بروح
أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ أَنْتَ
التواضع, ومشبعة بالشعور بالضعف. فقد زال منها كل أثر لزهور والخيلاء بل قد انعدم منها كل أثر للاعتداد بالذات. لأن في استشهاد بطرس بعلم المسيح, ومعرفته – مع عدم ذكره شيئاً عن تفضيله نفسه على الآخرين – لأكبر دليل على أن بطرس فقد كل ثقة بنفسه, وأنه وضع ثقته التامة في المسيح. لأن النبرة في كلامه واقعة على كلمة "أنت". في هذا أيضاً دليل على أن بطرس كان مخلصاً في حبه لمولاه, وإلا لما تجاسر أن يستشهد بعلم المسيح, وهو موقن أن سيده عليم بذات الصدور. كذلك أيضاً لم يذكر بطرس في جوابه كلمة واحدة عن المستقبل, بل اكتفى بالكلام عن الحاضر. الآن فقط أدرك أن المستقبل بين يدي الله, وأن ليس له, إلا اللحظة التي هو فيها.
ولقد استعمل بطرس في جوابه المثلث, كلمتين مختلفتين بمعنى "عرف" فالكلمة الأولى "أويداس" – وقد أوردها في جوابيه الأول والثاني (عدد 15 و16), تعني علم المسيح الإلهي الخارق الطبيعة. والكلمة الثانية "جينوسكياس" – وهذه استعملها في جوابه الثالث (عدد 17) – تعني علم المسيح الاختباري نتيجة الفحص الذاتي. الكلمة الأولى ترجمت إلى العربية "تعلم", والكلمة الثانية ترجمت "تعرف".
المهمة الثالثة: ".... ارع خرافي" (عدد 15) ".... ارع غنمي" (عدد 16) ".... ارع غنمي" (عدد 17).
ما أعجب حب فادينا, وما أوسع رحمته الغافرة. فهو لم يكتف
تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐرْعَ غَنَمِي.
بأن يغفر لبطرس خطاياه, بل شرفه بوكالة سامية, وائتمنه على قطيعه المختار. فغير المسيح يذكر الخطايا ولا يغفر, وإن غفر ذكر, وإن غفر ونسي تعذر عليه أن يأتمن من سبق أن ائتمنه فخان. لكن المسيح يفغر, ولا يذكر, ويأتمن.
"ارع خرافي" ... "ارع غنمي" ... "ارع غنمي" – الآن انتقل بطرس من عمل الصياد, إلى خدمة الراعي. لأن النفوس بعد أن تنقذ من مخاطر العالم, تحتاج إلى طعام وغذاء. هذا امتياز الخراف على السمك. فالسمك يصطادونه ليأكلوه, والخراف ينقذونها ليطعموها. فالصيد عمل المبشر, والرعاية عمل الراعي.
الكلمة المترجمة "ارع" في عددي 15 و17, تعني تغذية الخراف بالطعام والكلمة المترجمة "ارع" في عدد 16, تعني الرعاية المستمرة – بما فيها الحرص والعناية والسياسة (لو 17: 7 و1 كو 9: 7). وكذلك الكلمة التي ترجمت إلى "خرافي" في عدد 15, هي غير الكلمة التي ترجمت إلى "غنمي" في عددي 16 و17. فالأولى تعني "الحملان" الصغيرة التي تلازم الحظيرة – هذه تلزمها التغذية بالطعام داخل الحظيرة. لكن الثانية المستعملة في عددي 16 و17, تعني "الخراف الكبيرة", التي تسرح طوال اليوم بين المراعي والحقول – هذه تلزمها الرعاية والحفظ والسياسة.
فمن هذا نرى أن السؤال المثلث, يتضمن كلمتين مختلفتين عن المحبة,
18اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ». 19قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ
والجواب المثلث يتضمن كلمتين مختلفتين عن المعرفة. وفي المهمة المثلثة نجد كلمتين مختلفتين عن الرعاية, وأخرتين متميزتين للخراف.
المسيح ينبئ بطرس عن مستقبله – اتباعه حتى الصلب (21: 18 و19).
"الحق الحق" – انظر شرح 1: 55 – "أقول لك لما كنت أكثر حداثة" – مما أنت عليه الآن – "كنت تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء ولكن متى شخت ...". إن في هذا الكلام مقابلة بين بطرس في شبابه, وبطرس في شيخوخته. فبطرس في شبابه كان ينعم بالحرية – يسرح ويمرح في الحياة أنى شاء, لكنه في شيخوخته سيحمل إلى حيث لا يشاء. فـ"مد يديه" يشير إلى تسميرهما ي الصليب الذي كان مزمعاً لأن يرفع عليه. أما ذلك "الآخر" الذي سيمنطقه, فهو الجلاد الذي سيسمر جسد بطرس في الصليب, ثم يحمله هو وصليبه, مثبتاً إياهما في مكان مرتفع كالمعتاد (انظر صفحة 773). ولا يستنتج بالضرورة من قول المسيح لبطرس: "حيث لا تشاء", إن بطرس سيكون هارباً من الموت – مع أن هذا قد يكون في حيز الاحتمال – وإنما يستفاد منه: أن الطبيعة البشرية تنفر بطبعها من الموت, مثلما ينفر الطفل من مواجهة الظلام.
"ولما قال هذا قال له اتبعني" – في مناسبة سابقة قال المسيح لبطرس:
كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». 20فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ وَقَالَ: « يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟»
"حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني" (17: 37). أما الآن, فقد حان الوقت الذي فيه قال له المسيح, "اتبعني" مشيراً بذلك إلى الصليب, الذي كان معداً ليرفع عليه بطرس في مستقبل الأيام, مثلما رفع مولاه من قبل.
في بدء تعرف بطرس بالمسيح, سمع منه مثل هذه الكلمة (1: 43, متى 8: 22, 9: 9). والآن, عند توديع سيده إياه, سمع منه هذا النداء. قبلاً ناداه سيده ليتبعه في حياة الخدمة, والآن دعاه ليتبعه إلى موت الصليب.
(ب) المشهد الثاني – المسيح ويوحنا – هل من نصيب يوحنا أن "يبقى" منتظراً (21: 20 – 23).
سمع بطرس من المسيح كلمة: "اتبعني" – ولعله لمح معها إشارة من مولاه, فتبعه للوقت. وما هي إلا لحيظة حتى حانت منه التفاتة إلى الوراء, تجاه التلاميذ الذين كانوا جالسين حول الموقد, فرأى يوحنا أيضاً آتياً. فثارت في نفسه غريزة حب الاستطلاع, وقصد أن يستفهم عن النصيب المذخر لزميله يوحنا, ولكن بلهجة فيها شيء غير يسير من الاستقصاء الفضولي. وقد لا تخلو من شيء من الحسد. فكان جواب المسيح له: أنه ليس عن حكمة يسأل عن هذا. فإذا ما رغب هو في أن يجعل نصيب يوحنا
21فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا قَالَ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ وَهَذَا مَا لَهُ؟» 22قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ».
"البقاء" على قيد الحياة حتى يجيء ثانية, وأن يجعل نصيب بطرس الموت العاجل, فهو حر, يرتب لكل إنسان مصيره حسبما يشاء. فما علة بطرس إلا أن يتنبه إلى المسئوليات التي عليه, وأن يقلع عن البقية الباقية من الإنسان العتيق الذي في نفسه, الذي كان يدفعه بين حين وآخر إلى أن ينشغل بالآخرين عن نفسه. ولا يستفاد من هذا, أن السيد يمنعنا عن أن نطمئن على مستقبل من نحب, بل أنه ينصح لنا أن لا نكون فضوليين, وأن نرضى بما يرضاه هو لنا. لأنه "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً, إن لم يكن قد أعطي من السماء" (3: 27).
تقول الأمثال: إن الله فرق العقول في الظلام, فكل إنسان يفضل عقله على عقل سواه. لكنه فرق الأنصبة في النور, فالإنسان معرض لأن لا يرضى بنصيبه, مفضلاً عليه نصيب سواه.
على أن المسيح الذي عين نصيب كل من بطرس ويوحنا, قد راعى الاستعداد الطبيعي الذي لكل منهما. فبطرس ذو الطبيعة الحماسية الثائرة المندفعة, قد عين له أن يخدم مجاهداً حتى يرفع على صليب عاجل. يوحنا ذو الطبيعة الهادئة الساكنة, الذي يلذ له الانتظار بصبر وسكون, قد قال عنه المسيح "إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا لك"؟ إن كلمة "يبقى" من مميزات أسلوب يوحنا, وقد وردت كثيراً في الأصحاح الخامس عشر, بمعنى "يثبت". فلا فضل لبطرس في جهاده الذي يتوج بالصبر, على يوحنا
23فَذَاعَ هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الأخوة: إِنَّ ذَلِكَ التِّلْمِيذَ لاَ يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لاَ يَمُوتُ بَلْ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ فَمَاذَا لَكَ؟».24هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا.
الذي "يبقى" بهدوء وسكون. لأن الجندي الذي يلازم المرقب, خليق بمكافأة نظير الجندي الذي يخر صريعاً في حومة الوغى. فكلاهما أمن لوطنه.
قد أساء بعضهم فهم هذه الكلمة التي فاه بها المسيح عن يوحنا, فظنوا أن المخلص وعد يوحنا بالبقاء حتى يجيء ثانية. من أجل ذلك كان كثيرون منهم ينتظرون أن يوحنا الحبيب سينال ما ناله "أخنوخ" و"إيليا" في العهد القديم. فلم يجد يوحنا بداً من تصحيح هذه الفكرة, فعمد إلى ترديد كلمات المسيح كما هي, من غير شرح ولا تعليق: "ولكن لم يقل له يسوع أنه لا يموت. بل إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا لك".
ولا يغرب عن بالنا, أن مجيء المسيح عملية تتم تدريجياً على فترات متتابعة فقد يشار به إلى مجيئه روحياً يوم الخمسين – لعزاء. أو إلى مجيئه يوم خرب أورشليم – للقضاء. أ إلى مجيئه عند منتهى حياة كل مؤمن – ليأخذه إليه. أو إلى ذلك الحادث المجيد المبتغى – مجيئه نهائياً عند انقضاء الدهور – للملك والقضاء. والمعنى الأخير هو المقصود في هذه القرينة.
الخاتمة النهائية: (21: 24 و25). "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ...". أريد بهذه الخاتمة, تبيان ثلاث حقائق – الأولى أن كاتب هذه البشارة, شاهد عيان: "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا".
وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ. 25وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ
والثانية: أن شهادته حق: "ونعلم أن شهادته حق". فهي حق لأنها تحمل في قلبها برهان صدقها, وهي حق بحكم الأخلاق النبيلة المتصف بها كاتبها بشهادة الجميع. والثالثة: أن ما كتب عن المسيح لا يوازي إلا قطرة أخذت من بحر خضم. لو كتبت كل أعمال المسيح وكلماته, واحدة واحدة, فإن "العالم نفسه لا يسع الكتب المكتوبة" – الإشارة هنا إلى سعة العالم الفكرية والمعنوية, أكثر منها إلى سعته المادية الجغرافية. لأن بين أيدينا اليوم, كتباً لا تحصى عن حياة المسيح, وعددها يربى على عدد أي كتب ألفت في موضوع واحد. ومتى ذكرنا أن كل هذه الكتب مستقاة من قطرة المعلومات التي وصلت إلينا من البشيرين, فما أكثر الكتب التي كان يمكن أن تكتب عن حياة المسيح, لو أتيح للكتاب أن يرتشفوا من بحر المعلومات الزاخرة الفياضة. ولكننا نحمد الله لأن ما كتب فيه الكفاية لقوم يعقلون.
هذه خاتمة هذه البشارة الخالدة التي فيها رأينا "كلمة الله" الأزلي, وقد تجسد, "وحل بيننا فرأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".
هذا هو "حمل الله" الذي رفع خطية العالم, وهو هيكلنا الأولي, الذي لم يكن هيكل سليمان سوى رمز له. هو ترياقنا الشافي من كل لدغات الخطية ولسعاتها. هو ماء الحياة المروي, وخبز الحياة المشبع, ونور العالم الساطع. هو راعي الخراف المضحي بالنفس والنفيس, وهو القيامة والحياة, للراقدين
يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ.
في قبور الخطية – من أحياء وأموات. هو غالب رئيس هذا العالم, وهو خير جاذب للقلوب المتباعدة. هو الطريق, والحق, والحياة, هو الكرمة الحقيقية التي صارت عصارتها لبشرية خير عزاء, وبهجة, وشاء. هو الذي غذ رفع على صليب العار, جعل من الصليب عرشاً, وخلق من عاره فخاراً, وصير كسرته غلبة وانتصاراً, فأضحى وهو على الصليب متوجاً بتيجان كثيرة فجاءت مملكة العلم, ومملكة الرحمة, ومملكة الحق, ومملكة المحبة, ومملك القوة, فطرحت تيجانها عند قدميه ساجدة صاغرة.
هو الذي قبر الموت في قبره فقام ظافراً بتاج الخلود
وصعد مرتفعاً إلى عرش السماء, وسيأتي
ثانية ليملك بمجده
آمين. فآمين.
(1) يعتقد جودي أن هذين التلميذين اللذين لم يذكر يوحنا اسميهما ليسا من الرسل وإنما هما من صفوف التلاميذ المؤمنين. ويظن أن أحدهما: هو ارستيوس, وثانيهما يوحنا, الذي كان يشغل وظيفة شيخ في الكنيسة الأولى, ولقبه بابياس بـ" تلميذ قديم للرب".
- عدد الزيارات: 8363