Skip to main content

المسيح نبع الحق, ومصدر النور, ومشبع الحياة

اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ

 

1وَكَانَ يَسُوعُ

هذا أصحاح مجيد في تاريخ السيد. حقاً وصفه رينان بأنه "درة يتيمة في تاج التاريخ". فيه نرى المسيح, نبع الحق, ومصدر النور, ومشبع الحياة, كما رأيناه في الاصحاحين السابقين نبع الحياة ومقيتها.

في هذا الاصحاح نرى صور جليلة, ارتسمت فيها عواطف البشر المتباينة وصفاتهم المتناقضة – فمن عواطف أخوة المسيح – أو أنصاف اخوته – وقد امتزج فيها الشك باليقين (عدد 3), إلى عواصف اليهود التي تغلي بالحقد والحسد (عدد1و11و13و15و35), إلى أقوال الجموع المتضاربة (عدد 12و13), إلى قلوب الفريسيين التي اختمرت بالضغينة والاجرام (عدد32و47), إلى إيمان نيقوديموس الذي يعالج تحطيم قيود الماضي (عدد 31). من اقتراحات صادرة من قلوب اخوته (عدد 3). إلى مناجاة كثيرة من نحوه (عدد 11), إلى مجادلات ومساجلات (عدد 12و40), إلى تخوفات متعددة النواحي (عدد 13و30و44), إلى تعجب وحيرة (عدد 15و46و25), إلى نقد ومقاومة (عدد 23), إلى إيمان حقيقي قلبي (عدد 31).

مرت على حوادث الاصحاح الفائت ستة أشهر تقريباً, فأصبحنا الآن في الآونة التي يطوى فيها الصيف رداءه ويشد رحاله ليعطي مكانه للخريف.

يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هَذَا فِي الْجَلِيلِ

فيتهيأ اليهود ليضفروا المظال, التي يقضون فيها أيام عيد المظال الذي يقع عادة في منتصف شهر تشرين (سبتمبر -أكتوبر). أما الحوادث التي توسطت بين هذا الإصحاح وبين سابقه, فقد رواها بإفاضة متى البشير (مت12- 17و 21).

ينقسم هذا الإصحاح إلى ثلاثة أقسام رئيسية مرتبة ترتيبا تاريخيا:

أولا: ما حدث قبل العيد 7: 1- 13 ثانيا: ما حدث أثناء العيد 7: 14- 36. ثالثاً: ما حدث في اليوم الأخير العظيم من العيد 7: 37- 53.

أولا: ما حدث قبل العيد 7: 1- 13. يتضمن هذا الفصل: (1) مقدمة تاريخية (7: 1). (2) ما حدث بين المسيح وأخوته بشأن ذهابه إلى العيد (7: 2- 8). (3) مكوث المسيح حيناً في الجليل (7: 9)(4) ذهاب المسيح إلى العيد (7: 10- 13).

عدد1. (1) مقدمة تاريخية: "وكان يسوع يتردد بعد هذا"- أي بعد معجزة إشباع الآلاف وما جرته وراءها من مناقشات. هذه صورة تاريخية متممة لتلك التي رسمت في مطلع الإصحاح السادس. وكلا الإصحاحين يبتدئ بتوطئة تاريخية. كلمة: "يتردد", تفيد سير المسيح ذهابا وجيئة داخل الجليل. وهي كلمة مركزة تقطع ستة أشهر من حياة المسيح, وقد اجتمعت فيها حوادث شتى ذكرت في سائر البشائر(مر 7 و8 ومت 15- 18). كان المسيح يتردد في الجليل على رغم النفور الذي بدا من الجليليين نحوه. والسبب في ذلك, يتضح من الجزء الثاني من العدد:

لأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ.2وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ

"لأنه لم يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه". لقد جاء أرضنا لكي يموت, فهو إذاً لم يخش الموت, ولم يخف اليهود, لكنه لم يرد أن يستقدم ساعة موته, وأمامه برنامج ينبغي أن ينفذه بكل حذافيره, ومتى جاءت ساعة موته, تقدم إلى الصليب طائعا, مختارا (يو 10: 17 و 18 ). هذا برهان جديد على أن المسيح يحيط علما بالمستقبل, لأنه علم متى يموت وكيف يموت. إن الإقدام على الموت قبل الأوان, لايعتبر جسارة, بل اقتحاما, وخسارة.

عدد2. (2) محادثة بين المسيح وإخوته بشأن ذهابه إلى العيد 7: 2- 8 (أ) المناسبة التي دعت إلى هذا الحديث: "وكان عيد اليهود, عيد المظال قريبا". يقول يوسيفوس: "هذا أقدس أعياد اليهود وأعظمها ". هو يقع عادة في الخامس عشر من شهر تشرين (سبتمبر- أكتوبر ). ويظل قائما حتى الثاني و العشرين منه. كان اليهود يسكنون طوال هذا الأسبوع في مظال يصنعونها خصيصا من "سعف النخل, وأغصان أشجار غبياء, وصفصاف الوادي ". (لاويين 23: 34- 40). وهي تقام عادة فوق سطوح المنازل, وفي الشوارع, وفي الميادين العامة وفي منعطفات أورشليم. كان هذا عيدا مقدساً- فهو عيد شكر, وذكرى, وإيناس, وبهجة. أما الشكر فلأنه كان يقع دائماً عقب الوقت الذي يجمعون فيه غلات الأرض

عِيدُ الْمَظَالِّ قَرِيباً 3فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: «ﭐنْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ لِكَيْ يَرَى تلاَمِيذُكَ أَيْضاً أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ

ومحاصيلها. والذكرى, لأنهم كانوا يذكرون فيه غربتهم في البرية مدة أربعين عاماً, بعد خروجهم من مصر. وأما الإيناس فلأنه كان عيداً يستوي فيه الغني و الفقير, إذ يكون كلاهما عائشان على مستوى واحد, في مكان يرمز إلى الغربة و الرحيل وأما البهجة فلأن هذا العيد كان مشهوراً بأنواره الساطعة التي كانت تضاء فيه وحده. وربما بمناسبة تلك الأنوار الساطعة., فاه المسيح بذلك الإعلان الجليل: "أنا هو نور العالم" (8: 12). وكان يؤم هذا العيد في كل عام جمع غفير.

عدد3 و4 (ب) اقتراح أخوة المسيح 7: 3 و4 "فقال له أخوته.. " يعتقد جودى أن هؤلاء الأخوة هم أبناء مريم بعد زواجها من يوسف. ويقول وستكوت وغالبية المفسرين, أنهم أولاد يوسف من زوجة سابقة (أنظر شرح لوقا للمؤلف صفحتي 210 و211).

غالباً جداً كات يعقوب أخو الرب, في طليعة هؤلاء الأخوة. وصار فيما بعد أول راع للكنيسة المسيحية في أورشليم (أعمال 12: 17 و15: 13 و21: 18 وغلاطية 1: 19 و2: 9).

إ، أخوة المسيح, لم يكونوا في اقتراحهم هذا, مدفوعين بعامل الغيرة المقدسة على مجد أخيهم, ولا كانوا محمولين بعاصفة الحقد عليه, فقصدوا أن يطوحوا به في أيدي أعدائه, لكنهم كانوا في حالة متوسطة- بين الإيمان

لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علاَنِيَةً.

و الشك. إنما رأوه من معجزاته, وقوة شخصه كان يدفع بسفينتهم إلى شاطئ الإيمان, ولكن الفتهم به منذ نعومة الأظفار, كانت تجتذب سفينتهم إلى تيارات الشكوك. ولعلهم كانوا يعتقدون أنه شخص ممتاز. أما أن يأمنوا أنه هو المسيح, فهذه درجة لم يرتقوا إليها بعد. لذلك قالوا: إذا كان هو المسيح فلماذا يرضى بالعزلة في الجليل, في تلك البيئة الضيقة, و الغير المهذبة؟ إن أورشليم- لا الجليل – هي المسرح العام الذي ينبغي أن يظهر عليه المسيح, فيحكم العالم له أو عليه. فإذا ثبت بالبرهان القاطع أنه هو المسيح, فلسنا بالقوم الخاسرين. لأننا أخوته, نشاطره أمجاده. وإذا ظهر أنه ليس المسيح, فلينل من الإهانة ما يستحق نتيجة ادعائه, ونحن غير مسئولين. إن كلامهم هذا, ينم عن روح نفساني, متسرع, لأنهم لم يبالوا إلا بصوالحهم, غير حاسبين حسابا لإرادة الله, والأزمنة التي جعلها الآب في سلطانه.

إن اقتراحهم هذا, لا يخلوا من المشابهة لاقتراح أم المخلص (2: 3), ونفس هذا التشابه متوفر في جواب المسيح في كلا الحادثين (2: 7 و7: 10). (اطلب شرح هذه الأعداد في الإصحاح الثاني).

إن كلمة:"تلاميذك", الواردة في عدد 3, تشير إلى الذين تتلمذوا المسيح في اليهودية و أورشليم, أثناء خدمة سالفة له هنالك (1: 4 ). "لأنه ليس أحد يعمل شيئاً في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية "- كلمة "علانية" تفيد

إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ». 5لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا

التكلم جهاراً, و العمل ظاهرا في وضح النهار. (11: 54 وكولوسي 2: 15).

إن وجه الحق في قولهم هذا, هو أن الحكم الحقيقي للمسيح أو عليه ليس الجليل, بل أورشليم. لكنهم أخطأوا في عدم معرفتهم أن المسيح لا يطلب مجد نفسه, إذ قالوا له : "أظهر نفسك", وفاتهم أنه إنما تجسد لكي يظهر مجد الآب, كما أنهم جهلوا أن المسيح يسير كل خطوة وفقاً لنظام معين, قد أحكم وضعه منذ الأزل في تدبير الفداء.

عدد5 جملة تفسيرية معترضة "لأن إخوته.. " هذه كلمة تفسيرية, وضعها يوحنا البشير, كعادته في أسلوبه الكتابي (4: 9 ), قاصداً بها أن تكون أشعة كشافة لحقيقة نفسية أخوة المسيح : "لأن أخوته أيضاً لم يكونوا مؤمنون به ".

من المؤلم أن يقرأ الإنسان كلمة : "أيضاً ", كأن إخوة المسيح, كانوا على خلاف المنتظر منهم – في صف الجليليين الذين لم يؤمنوا بعد بأن يسوع هذا, الذي عرفوه منذ الطفولة, هو مسيح إسرائيل. إن قول يوحنا البشير عنهم أنهم "لم يكونوا قد آمنوا بعد بالمسيح", يؤيده قول المسيح لهم : أنهم من العالم. (عدد 7). ( قابل هذا بما جاء في 5: 19).

لم يبق للمسيح على الأرض سوى ستة أشهر, وبعدها يرفع على الصليب, ومع ذلك, فإن أخوته لم يكونوا قد آمنوا به بعد. أنهم كانوا معلقين بين

يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ. 6فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ

التأثير الرهيب الذي أوقعته معجزاته في نفوسهم, وبين حالته الوضيعة التي انطبعت على مخيلاتهم مذ أن عرفوه طفلاً وضيعاً. لذلك قصدوا أن يتخلصوا من هذه الحالة الشاذة المعلقة, فإما أن يظهر ذاته للعالم أنه هو المسيح, فيؤمنوا هم أيضا مع المؤمنين, أو أن يتراجع في أقواله ويكف عن عمل المعجزات, فيتراجعوا هم أيضاً إلى الوراء. إن إخلاص يوحنا البشير في كتابته, وإن صدق روايته, يتجليان في ذكره حقيقة عدم إيمان إخوة المسيح به, مع علمه أنها ليست مشرفة للمسيح من الوجهة الاجتماعية.

عدد6. جواب المسيح 7: 6- 8 "فقال لهم يسوع.." ينم جواب المسيح عن ثقة وطيدة في نفسه, وعن صلة وثيقة بينه وبين الآب, وعن قدرة عجيبة في إرادته. لأن القوة اللازمة لضبط الإرادة في وقت الانتظار, أوفر من القوة اللازمة لاستخدام الإرادة ساعة العمل. يتضمن هذا الجواب:

(أ) إعلاناً عن طبيعة حياته على الأرض: "إن وقتي لم يحضر بعد". بهذا الإعلان بين المسيح لإخوته, إن حياته على الأرض ليست وليدة المصادفات, بل هي وفق فكر الآب وتدبيره, وإن كل ساعة منها مرتبة بترتيب خاص, طبقاً لبرنامج معين. فلا تسمع دقات ساعاتها على الأرض إلا عند إيذان ساعة السماء. أما "الوقت" الذي قصده المسيح بقوله: "إن وقتي لم يحضر بعد", فهو وقت دخوله إلى أورشليم, دخول الظفر الذي سيتوج حتما بالصليب. علم المسيح أن رؤساء اليهود في أورشليم, كانوا

بَعْدُ وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ

يحفظون له بين ثنايا ضلوعهم, كل أسباب الحقد والانتقام, كما تحفظ المواد المفرقعة في مستودعات الذخائر, وعلم أيضاً أن دخوله علانية إلى أورشيلم, يذكي في قلوبهم نار النقمة, فتلهي المفرقعات المخبوءة بين ضلوعهم. لذلك أفهمهم أن ساعة ذهابه على هذه الصورة, وشيكة المجيء, لكنها لم تأت بعد. نعم ستأتي, لكن في عيد الفصح – لا في عيد المظال – حين يقدم حمل الفصح اليهودي في الهيكل, وآنئذ يرفع المسيح فصح العالم أجمع على الصليب. يقول وستكوت أن كلمة "وقتي", تختلف عن كلمة "ساعتي" (8: 20), في أن الأولى تعبر عن موافقتها للحوادث الجارية. والثانية تعبر عن مطابقتها لتدبير الله. فالمسيح, بتمنعه عن أن يدخل أورشليم دخول مسيا الظافر, لم يكن خائفاً من الموت, فهو عالم أنه جاء أرضنا ليموت, لكنه كان ضنيناً بخدماته الباقية على الأرض, من أن تذهب ضياعاً, وهو يريد أن يكمل خدمته, ويتمم سعيه. نعم جاء ليموت, ولكنه جاء أيضاً ليعيش خادماً ومضحياً قبل الموت. إن كفارته لم تبدأ على الجلجلة, بل في بيت لحم. وما دام قد جاء ليموت في وقت معين, فمن الشجاعة أن لا يموت إلا في وقته.

(ب) إعلاناً عن طبيعة حياتهم. بما أنهم لم يكونوا مؤمنين به بعد, ولم يجلسوا الله على عروش حياتهم, بل أجلسوا الذات والعالم, لم يكن لديهم رسالة خاصة يبلغونها للعالم, إذ كانوا يكلمون العالم بما يهواه, لذلك "كان وقتهم في كل حين حاضراً" يذهبون مع الحجاج إلى أورشليم في أي وقت,

حَاضِرٌ. 7لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ.

ومن دون حرج ولا تكاليف, لأنهم كانوا والعالم من روح واحد. يعتقد وستكوت أن من الأسباب التي حملت المسيح على عدم الذهاب علانية إلى أورشليم الآن, خوفه من أن يحمل الشعب بغيرة غير مقدسة ويحاولوا أن يجعلوه ملكاً.

عدد 7. (ج) موقف العالم إزاءهم "لا يقدر العالم أن يبغضكم". لقد وقفوا هم من العالم موقف الممازج والمملزج والمداهن, فحق على العالم أن يرد لهم التحية بالمثل, لأنهم والعالم من روح واحد. وغنى عن البيان, إن كلمة: "العالم", هنا تختلف عنها في 7: 4و3 : 16. إن المعنى في قوله "أظهر نفسك للعالم" و "أحب الله العالم", منصرف إلى الناس الساكنين في العالم, ولكن في قوله: "لا يقدر العالم أن يبغضكم" المعنى منصرف إلى الروح المادي المنافي لروح الله والمقاوم له (1 يو 2: 16). يستعمل المسيح في هذا العدد تعبيراً قوياً: "لا يقدر" لأن العالم عاجز عن تغيير مجرى النواميس الطبيعية. وشبيه الشيء منجذب إليه.

(د) موقف العالم إزاء المسيح: "ولكنه يبغضني أنا" – هذه هي الكراهة في أشد مظاهرها. (ه) علة هذا الموقف: "لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة" ليست هذه بالضرورة شهادة كلامية, بل هي أيضاً شهادة صامتة, هي شهادة النور في صمته على الظلمة في جميع مظاهرها (يو 3: 20و7: 34و36و8: 21و12: 39).

8اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هَذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هَذَا الْعِيدِ لأَنَّ وَقْتِي لَمْ

عدد 8. (و) النتيجة الطبيعية لموقف العالم إزاء إخوة المسيح وإزاء المسيح نفسه: "اصعدوا أنتم إلى هذا العيد" – أي اذهبوا أنتم مع الحجاج, واشتركوا في التقدمات والمعدات. "وأنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد. لأن وقتي لم يكمل بعد"- كلمة "بعد", التي أردفت بها كلمة: "أصعد" لا تفيد أن المسيح كان مصمما على عدم الذهاب إلى هذا العيد, بل على العكس من ذلك – أنه كان عازماً على أن يذهب إلى العيد. لكن وقت ذهابه لم يكن على قد حان بعد. إذا ذهابه إلى العيد (عدد 10). لا يدل على تغير في فكره, بل على تنفيذ شيء كان في فكره. سيما وأن السيد لم يذهب إلى العيد ظاهراً على اعتبار أنه المسيح, كما طلب إليه إخوته, بل ذهب سراً. كذلك أيضا لم يذهب إلى العيد كعابد, معيد, مع غيره من العابدين المعيدين بل ظهر في منتصف العيد, معلماً في الهيكل (عدد 14)لا صعوداً ظاهراً بل مشتركاً. فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يشاطر المعيدين تقديم الذبائح وممارسة التطهيرات الواجبة في العيد (11: 55). فهو إذاً لم يذهب إلى العيد على الصورة التي أملاها عليه إخواته. "لأن وقتي لم يكمل بعد" – على الغالب يستعمل هذا التعبير للإشارة إلى وقت إتمام مهمة المسيح على الأرض- وقت ذهابه إلى أورشليم ظافراً وظاهراً ليستقبل الصليب, وهناك يقول "قد أكمل" (قابل هذا مع لوقا 21: 24 وأعمال 7: 23), ولعله يشير في هذه القرينة

لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ». 9قَالَ لَهُمْ هَذَا وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ.10وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضاً إِلَى الْعِيدِ لاَ ظَاهِراً بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ.

إلى أن ذهاب المسيح إلى هذا العيد – عيد المظال – لم يكن قد أتى بعد, لأن عليه خدمات يجب أن يتمها في الجليل قبل ذهابه إلى العيد, كما يتبين من العدد التالي.

عدد 9. مكوث المسيح في الجليل: "قال لهم هذا ومكث في الجليل" – إلى أن تنقضي الفترة التي بسببها قال: "لست أصعد بعد إلى هذا العيد" إن كل وقت, وإن دق أو قصر, له قيمته الخاصة عند الخاصة عند المسيح, لأنه محمل بأعمال جليلة. تشتهي الملائكة أن تطلع عليها.

عدد 10. ذهاب المسيح في العيد: المفهوم من هذا العدد أن المسيح لم يذهب إلى العيد مع إخوته بل على انفراد, أو ربما مع واحد أو اثنين من أخصائه – هذا معنى قوله: "لا ظاهراً بل كأنه في الخفاء". قابل هذه الزيارة التي فصل فيها نفسه عب الحجاج, بزيارته الأولى التي ذهب فيها إلى الهيكل بقوة (2: 13), وبزيارته الأخيرة الظافرة التي انتهت بالصلب (12: 12). لقد اختار المسيح أن يصعد – والصعود هنا جغرافي – إلى أورشليم, مستتراً في هذه المرة, لكي يتحاشى اثارة عواطف الجماهير الهائجة, الغير المهذبة, مخافة أن يجعلوه ملكاً أرضياً, فيفسدوا عليه رسالته, ولكي يمنع الاحتكاك برؤساء الكهنة الذين جعلوا من قلوبهم مستودعاً للمفرقعات التي كانت تنتظر أقل شرر فتلتهب. "لا ظاهراً بل كأنه في "الخفاء" – ليقدم للمعيدين شهادة هادئة كالنسيم, قوية كأشعة الشمس.

11فَكَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي الْعِيدِ وَيَقُولُونَ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» 12وَكَانَ فِي الْجُمُوعِ

7: 11- 13 "مناجاة كثيرة من نحوه": هذه الأعداد تزيح الستار عن الشعور المتناقض الذي كان ينتظر المسيح في العيد, قبيل ذهابه إليه. وإن انشغال الجميع به, لا كبر دليل على عظم التأثير العميق, والواسع النطاق, الذي أحدثه المسيح في زيارته السابقة (ص 5). أو ليس من تباين الطبائع البشرية أن تصدر هذه الأحكام المتناقضة, على شخص واحد؟ إذا فالبشر هم عاقدو لواء مستقبلهم: إن في السماء أو في الجحيم.

عدد 11. (أ) تفتيش اليهود عنه: "فكان اليهود" – رجال السلطة الدينية المعادين للمسيح أمثال قيافا وأتباعه – "يطلبونه" – ويبحثون عنه بين جماعات الحجاج الجليليين, لأنهم لم يروه "في العيد" كما كانوا يتوقعون. "ويقولون أين ذاك" – إن في كلمة: "ذاك", نغمة تحقير يمازجها حقد. ويقول لوثر: "أن اليهود من فرط كرههم للمسيح لم يطيقوا أن يذكروا اسمه على شفاههم فكأنهم أرادوا أن يقولوا: أين ذاك الشخص الذي حاز شهرة واسعة من غير حق. فأزعجنا وأقلقنا"؟ ويقول وستكوت: "أنهم كانوا في تفتيشهم عنه محمولين بنية سيئة يمازجها حب الاستطلاع والتعجب".

عدد1. (ب) المناجاة المتضاربة: "وكان الجموع" – جماعات المعيدين. وردت كلمة: "جموع", في بشارة يوحنا هذه المرة وحدها. "مناجاة كثيرة" – قيل وقال, أقرب إلى التمتمة في الخفاء, منها إلى الكلام

مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّهُ صَالِحٌ». وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: «لاَ بَلْ يُضِلُّ الشَّعْبَ». 13وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ

علانية وجهراً. "من نحوه"- الإشارة إلى الكلام بوجه عام: سواء أكان في جانب المسيح أم ضده. من هذه الكلمة العامة: "مناجاة, كثيرة" ينتقل يوحنا البشير إلى الكلام التفصيلي, فيرينا أن أولئك الجموع المتناجين كانوا على طرفي نقيض: "بعضهم"- الطرف الإيجابي – "يقولون أنه صالح" – غير محب لذاته, شفوق, صادق في ادعائه, محسن, شريف المقصد, حقيق بأن يتبع (مرقس 10: 17) –"وآخرون" – الطرف السلبي – "يقولون لا. بل يضل الشعب" – كلمة "شعب" تعني الجماهير السريعة التأثر والتقلب. أهكذا تصف البشرية منقذها ومحررها؟! اهذا هو الحكم الذي يصدره المتهمون المتحزبون على ديان الأرض؟!.

عدد 13. (جـ) سرية هذه المناجاة: إن السر في كون هذه المناجاة خفية هو: "لسبب الخوف من اليهود". لأن الرؤساء لم يكونوا قد أعلنوا رسمياً رأيهم في المسيح, مع أن اتجاه أفكارهم كان معروفا. فالذين أثنوا على المسيح خافوا من أن يعلنوا هذا الثناء, فيجلب عليهم غضب الرؤساء. والذين كانوا يذمون المسيح, خافوا من أن يصرحوا جهراً برأيهم لئلا يكونوا مفرطين في هذا الذنب أو مقصرين, سيما وهم يعلمون أن رؤساءهم غير ثابتين على رأيهم فقد يمتدحون غدا من ينتقدون اليوم. مسكين ذلك الشعب الأعمى, الذي أسلم قياده لقوم, أقل ما يقال فيهم, إنهم: "عميان قادة عميان". كلمة "جهرا" قد

جِهَاراً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ. 14وَلَمَّا كَانَ الْعِيدُ

تعني في الأصل جلاء في التعبير(10: 24 و 11: 14 و 16: 25 و 29 و 18: 20). أو حرية في إذاعة الرأي من غير خوف ولا وجل(11: 54). وهي كما استعملت هنا, تفيد المعنى الثاني.

ثانياً – ما حدث أثناء العيد 7: 14-36.

هدأت ثائرة اليهود, الذين كانوا يطلبون المسيح في العيد, ولم يجدوه, فانصرف كل منهم إلى الممارسات التي يتطلبها العيد, وما هي إلا أيام معدودات حتى ظهر المسيح في الهيكل معلماً. غير أن رؤساء اليهود, لم يتعرضوا له بشيء, فكان أمام المسيح متسع من الوقت حتى نهاية العيد, ليتمم رسالته التي صعد إلى أورشليم لأجلها.

يتضمن خهذا الفصل ثلاثة خطابات مختصرة فاه بها المسيح إجابةً على أسئلة واعتراضات وجهت إليه من المعيدين: - الخطاب الأول- 7: 14-24. الخطاب الثاني:-7: 25-30. الخطاب الثالث:-7: 31-36.

الخطاب الأول: -فاه به المسيح رداً على تعجب اليهود وتساؤلهم. وموضوعه (أ) أصل تعليمه (7: 14-18). (ب) تبرير موقفه: في إتيانه المعجزة المذكورة في الإصحاح الخامس: (7: 19-24). والخطاب الثاني: نطق به جواباً على سؤال قوم من سكان أورشليم وتناول فيه الكلام عن أصله ومصدره. والخطاب الثالث: ألقاه على الخدام الموفدين من الفريسيين ورؤساء الكهنة, ليلقوا القبض عليه, وقد تكلم فيه عن غايته ومصيره, ولكل خطاب

قَدِ انْتَصَفَ

رسالته, وغرضه, ونغمته. فالخطاب الأول مفرغ في قالب دفاع,والثاني في صورة احتجاج, والثالث في شكل إنذار.

الخطاب الأول:- 7: 14-24. يقع هذا الخطاب في شطرين, بينهما كلام جاف موجه إلى المسيح من الجمع: (أ) الشطر الأول: (7: 14-18) يتضمن كلام المسيح عن أصل تعليمه(ب) الشطر الثاني: (7: 19-24) يشتمل على كلام المسيح عن عمله المعجزة المدونة في الإصحاح الخامس.

وجدير بنا أن نمعن النظر في موقف الجمع إزاء المسيح, فهو موقف يدعو إلى الإعجاب, لأنه سائر على ناموس التدرج والتقدم. فهو إذاً مطبوع بنفس الطابع الذي دمغت به هذه البشارة: - في عدد 20 نلمح الجمع وقد اتخذوا من المسيح موقف الجفاء, فصدرت منهم كلمات قريبة جداً من التجديف- إن لم تكن تجديفاً, وفي عدد 31نراهم أقرب إلى الإيمان منهم إلى الشك, وفي عدد 40 نجدهم قد بلغوا في الإيمان مرتبةً راقية, فأضحى إيمانهم يقيناً.

الشطر الأول من الخطاب الأول:-7: 14-18. (1)وجود المسيح في الهيكل(7: 14). (2) تعجب اليهود وتساؤلهم (7: 15). (3) جواب المسيح(7: 16-19).

عدد 14. (1)وجود المسيح في الهيكل: -7: 14. "ولما كان العيد قد انتصف" يستغرق العيد عادة سبعة أيام مضافاً إليها اليوم الثامن الذي"اليوم الأخير العظيم من العيد" (7: 37 ولاويين 23: 36). فنحن الآن في

انْتَصَفَ صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْهَيْكَلِ وَكَانَ يُعَلِّمُ. 15فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: «كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟» 16أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «تَعْلِيمِي

اليوم الرابع من العيد. "صعد يسوع إلى الهيكل ليعلم" – هذه أول مرة, في هذه البشارة, نرى المسيح معلما في الهيكل. الظاهر أنه في المرة الأولى0 التي فيها طهر الهيكل, لم يعلم هناك. ويغلب على اعتقادنا, أن المسيح عرج على "بيت عنيا", قبل ذهابه إلى أورشليم في هذه المرة (لوقا 10: 38).

عدد 15. (2) تعجب اليهود وتساؤلهم: 7: 15 "فتعجب" (مت 22: 22 ولوقا 4: 22)- "اليهود"- أي الرؤساء الدينيون الفخورون بألقابهم العلمية والأدبية. "قائلين كيف هذا"- كلمة: "هذا", تنم عن شيء غير قليل من التحقير والإزدراء, يمازجهما الحقد والبغضاء (6: 42 و7: 12)."يعرف الكتب وهو لم يتعلم". المفهوم أن يسوع المسيح ذهب إلى مدرسة قريته المعروفة بـ"بيت المدراش" كما يذهب عادة كل صبي عند بلوغه سنا معينا. فالكلام هنا, ليس عن عدم تعلم المسيح على الإطلاق, بل عن عدم حيازته درجة "العالمية" من مدرسة الرابيين, لأنه لم يتعلم إلى هذا الحد. وعلى الرغم من هذا فإن معرفته بالكتب, أدهشت العلماء. مع أن كلمة: "كتب" تشير بنوع خاص إلى الكتب المقدسة, إلا أنها ليست قاصرة على الكتب المقدسة (أعمال 26: 24).

عدد16. (3) جواب المسيح(7: 16-19):"أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني" (أ) مصدر تعليم المسيح (عدد 16). أراد

لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. 17إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ

الفادي الذي يماشيهم في الإعتقاد بأن لابد لكل معلم من أن يكون عالما ومتعلما, فأفهمهم أنه "عالم" بالمعنى الصحيح, لا بالمعنى الذي يفهمونه هم, وأنه تخرج من مدرسة أعلى من مدرسة الرابيين –فلا يقول كلامه نقلا عن الحاخام هليل ولا تسلم رسالته من الراب عزريا, بل تسلم مقاليد رسالته من الله رأسا. فهو إذا "يتكلم بما يعلم ويشهد بما رأى" (3: 11). لا مراء في أن المسيح يتكلم هنا عن نفسه باعتبار كونه معلما مرسلا من الآب, حاملا رسالة خاصة, لا باعتبار كونه إلهاً. على أن هذا الكلام لا يطعن على لاهوته بل يعطيه مقاما فريدا ممتازا, لأنه يبين متانة الصلة الوثيقة الدائمة التي تربطه كابن بالآب (3: 12 و13). كلمة: "تعليمي" لا تتقيد بتعليم خاص نطق به المسيح في مناسبة خاصة لكنها تشمل كل تعليم المسيح في كل ظرف. فهي إذا تعني خلاصة رسالة المسيح التي جاء أرضنا لأجلها. هذه ذروة الأمانة العليا.

عدد 17الطريقة المثلى لتمييز مصدر تعليم المسيح "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته" – مشيئة الله - "يعرف التعليم. هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي". أعلن المسيح في العدد السابق أن تعليمه صادر من عند الله, ولم يشأ أن يلقي القول على عواهنه, بل قدم فرصة لمن يشاء من سامعيه أن يتحقق صدق كلامه, فأراهم أن الطريقة الوحيدة التي بها يتبينون حقيقة مصدر تعليمه, هي إطاعة مشيئة الله والعمل بها, فالطاعة العملية هي المفتاح الوحيد لكنوز المعرفة. إن العقبة الكؤود في سبيل إيمان الأكثرين ليست في

التَّعْلِيمَ هَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ أَمْ أَتَكَلَّمُ

عقولهم, بل قلوبهم. ولن يفتح الله عقل إنسان ما لمعرفة الحق, إلا متى كان قلبه منعطفأً في هذا الحق, ومطيعاً لإرادة الله, ومحباً لها:"سر الرب الخائفية". "تعال أولاً ثم انظر" ولكن ما هي "مشيئة الله" هذه المشار إليها في العدد؟ يقول أغسطينوس ولوثر أن هذه المشيئة هي الإيمان بالمسيح:"هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (6: 29). ويقول روس ولامب: أنها هي المسيحية العملية. من أراد أن يعرف العقائد المسيحية, فعليه أن يقوم بالواجبات المسيحية, الأدبية والروحية. ويقول جودي – وهو أقربهم إلى الحق- أنها هي الإعلانات الإلهية التي أوحى بها الله إلى اليهود عن طريق موسى والأنبياء. كأنما المسيح أراد أن يقول لليهود: "لو كنتم أمناء في العمل بالإعلانات التي بين أيديكم, لأتمنكم الله على المزيد منها, وأعلن لكم أن تعليمي هو منه لا مني". هذا يوافق قوله في 5: 46 "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني" – تؤمنون بي- "لأنه هو كتب عني". إن الله واحد, فإعلاناته تتجه إلى غاية واحدة. فالذي يتتبع النهر من منبعه لا بد واصل في النهاية إلى مصبه. إن المسيح هو روح النبوة, وإليه يشير موسى وجميع الأنبياء.

على أنه وإن كانت "مشيئة الله" منصرفة في هذا الباب, إلى معلناته التي أرسلها تعالى على أيدي موسى والأنبياء, "وهي التي تشهد للمسيح" (5: 39), إلا أنها – من باب التطبيق- تعني أيضاً إرادة الله التي يلاقيها

أَنَا مِنْ نَفْسِي. 18مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ

البشر في اختباراتهم اليومية: "من يعمل الحق يقبل إلى النور" (3: 21). إن الذي يعمل إرادة الله يتشرب من روح الله. ولا يقدر أحد أن يسلم بأن يسوع رب إلا بالروح القدس. في مدرسة الله لا يرتقي إلى القسم العالي إلا من يتخرج من القسم الإعدادي. فلا يعرف من هو "كلمة الله" المتجسد, إلا من أطاع كلمة الله المعلنة, وروحه المرشد(أعمال 5: 32).

عدد 18. (ج) برهان صدق رسالة المسيح. استدل المسيح على صدق رسالته من غايتها. فالغاية تنبأ بالمصدر, كما أن المصب يهدي إلى المنبع. أما غايتها فهي أنه يطلب مجد الذي أرسله. ولو كان مرسلاً من قبل نفسه لطلب مجد نفسه. "من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه. وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم". هذه أكبر حجة تقضي على اتهامهم إياه بأنه "يضل الشعب" (عدد 12).هذا أكبر معول هادم لتقولات البعض بأن المسيح دعا إلى الشرك بالله. فهو لم يسلب حق من أرسله, بل مجده.إن المسيح القائل عن نفسه: "أنا والآب واحد", يمجد الله. فمن يؤمن بالمسيح رباً وفادياً, يمجد الله.

تذكرنا كلمات المسيح الواردة في 7: 16-18 بما سبق فقاله في 5: 19و30و37و44.

إن العبارة الأخيرة: "فهو صادق وليس فيه ظلم البتة", هي نقطة انتقال

وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ. 19أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ

بين تبرير المسيح لتعليمه, وبين دفاعه عن أعماله وتصرفاته. أو هي نقطة اتصال بين شطري الخطاب الأول الذي فاه به المسيح. فقوله: "صادق" يدفع به اتهامه إياه بأنه "يضل الشعب" (عدد 12). وقوله: "ليس فيه ظلم البتة" يفع به اتهامه إياه بأنه هادم للناموس ومعتد على السبت (5: 16) فالمسيح: "صادق" في ما يقول, "وليس فيه ظلم" في ما يعمل.

ويجوز أن نعتبر قول المسيح: "ليس فيه ظلم", نقطة انتقال من دفاعه عن نفسه إلى مهاجمته لمن تبرعوا له بالاتهام: فهو خال من الظلم, لأنه لم يطلب مجد نفسه بل مجد الذي أرسله. وأما من يتهمونه وهو بريء ويطلبون أن يقتلوه, فهؤلاء هم مرتع الظلم, بل هم الظلم مجسماً (5: 16 و7: 19).

عدد 19- الشطر الثاني من الخطاب الأول – دفاع المسيح عن عمله 7: 19-24. "أليس موسى قد أعطاكم الناموس". أشار المسيح بهذا القول, إلى محاولة اليهود أن يقتلوه بعد أن شفى مريض بركة بيت حسدا في السبت (5: 16). وأي أمر أدعى إلى التعجب, بل إلى التألم, من أن نرى أناسا يدعون أنهم يدافعون عن الناموس, وهم في مقدمة مقاوميه وكاسريه!؟ هذه هي التهمة التي وجهها المسيح إلى كل منهم "أليس موسى قد أعطاكم ناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس. لماذا تطلبون أن تقتلوني"؟ إذا هم المستحقون للقتل لأن "أجرة الخطية هي موت", وأما المسيح البار, ومبرر الفجار,

أَنْ تَقْتُلُونِي؟» 20أَجَابَ الْجَمْعُ: «بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ

فلماذا يطلبون أن يقتلوه إلا لكي يتخلصوا منه, فتستريح ضمائرهم التي كانت تثور عليهم عند سماعها "شهادة المسيح عليهم بأن أعمالهم شريرة" (عدد 7).

إن رؤساء اليهود اعتدوا على روح الناموس, كما أنهم عطلوا حرفة أيضا. أما اعتداؤهم على روحه, فظاهر من الغلة الذي ملأ قلوبهم, فأرادوا أن يطفئوا نيرانه بسفكهم دم المسيح. ومن أكبر الأدلة على تعطيلهم حرف الناموس, أعمالهم العديدة التي يكسرون بها السبت, مثل ممارسات الهيكل المنوعة, وتقديسهم فريضة الختان فوق تقديسهم فريضة السبت. كما سنرى في عددي 22 و23. فإذا كانوا هم يكسرون بعض أركان الناموس, بدافع الحرص على أركان أهم, مع كونهم عبيد الناموس, فكم بالأحرى يجوز للمسيح أن يكسر حرفية ناموس السبت في سبيل تقديسه لناموس أفضل – أعني به ناموس الرحمة والحنان, حال كونه هو صاحب الناموس, بل روحه, وغايته؟؟

عدد 20 مقاطعة الجمع له: "أجاب الجمع وقالوا" – كان هذا الجمع ساذجا غبياً, غير عالم بنوايا رؤساء اليهود نحو المسيح. وقد ظهرت غباوته المزدوجة في جهله حقيقة الرؤساء, وفي جهله حقيقة المسيح. ظن ذلك الجمع أن المسيح عصبي المزاج, سريع الإنفعال, يعيش متأثرا بهواجس وهمية, لا وجود لها إلا في مخيلته, فيتوهم أن الناس يقصدون به شراً: "بك شيطان". قابل هذا القول بذاك الذي وجه إلى يوحنا المعمدان (مت 11: 18و لوقا

يَقْتُلَكَ؟» 21فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: «عَمَلاً وَاحِداً عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً.

7: 33 ). هذه الكلمات اتخذت شكلاً أشد وأقوى في ص 8: 48و52و10: 20. مسكين ذلك الجمع الساذج الذي يحمل بكل ريح تعليم, ويساق سوق الإنعام.

عدد21-24 جواب المسيح. تغاضى المسيح عن مسبة هذا الجمع له, وبحلمه المعهود وجه الخطاب إلى الجمع وإلى الرؤساء معاً, مبرراً عمله في إتيانه تلك المعجزة المذكورة في الإصحاح الخامس (7: 21) مبيناً لهم عدم محافظتهم هم على الناموس – معنى ومبنى –لأنهم يكسرون السبت في سبيل محافظتهم على الختان (عدد 22), وموبخاً إياهم على خطأهم في إدانته, لأنه كسر السبت في سبيل محافظته على سلامة الإنسان بأكمله (عدد23). ثم ختم جوابه بكلمة حكمية أفرغت في شكل نصيحة تصلح لأن تكون مبدأ عاماً تسير عليه جميع الأجيال (عدد 24)..

"أجاب يسوع وقال لهم" – للجمع الذين سبه (عدد 20). ولرؤساء اليهود الذين تعجبوا من غزارة عمله (عدد 15). – "عملاً واحد عملت فتتعجبون جميعاً"- يشير المسيح بهذا العمل الواحد إلى معجزة إبرائه مريض بركة بيت حسدا, وقد اختار هذه المعجزة بالذات, مع إن وقتاً غير قصير مضى عليها, لأنها عينة صحيحة لأعمال رحمته, وفيها تجلت عواطف اليهود الثائرة عليه, وعنها رفعوا التقريرات المطولة إلى السلطات الرسمية, وبمناسبتها ألقى المسيح خطاباً مستفيضاً عن بنوته لله, وعن كونه رب الموت والحياة, فطلبوا أن يلقوا القبض عليه لكي يحاكموه كمجدف, ويقتلوه (5: 16-18)

22لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى بَلْ مِنَ الآبَاءِ

عدد 22."لهذا" – لسبب سيأتي بيانه بعد, وهو أن عمل الخير في السبت لا ينقض السبت (ع 22و23)- "أعطاكم موسى الختان". أدخل موسى وصية الختان ضمن وصايا الناموس المتضمن أيضاً وصية السبت – "ليس أنه"-الختان- "من موسى بل من الآباء"- هذه جملة معترضة, وهي تفسيرية لما قبلها, قصد بها: أنه وإن كان موسى قد أعطاهم الختان رسمياً كوصية من ووصايا الناموس الكامل, إلا أن فريضة الختان لم تبدأ بموسى بل بابراهيم رئيس الآباء, فهي إذاً وصية قديمة, ولعلها أقدم من وصية السبت. ومع أنه كان ينتظر أن الوصية الجديدة تنسخ القديمة, إلا أن وصية السبت خاضعة لوصية الختان. فقد قضى ناموس موسى(لاويين 12: 3) بأن يختن الطفل الذكر في اليوم الثامن, مع أن ذلك الناموس عينه قضى بأن لا يعمل اليهودي عملاً ما يوم السبت(خر 20: 8-10). وقد أفتى رؤساء اليهود وعلماؤهم بأنه إذا وافق موعد ختان الطفل يوم سبت, فإن فريضة الختان تنسخ وصية السبت. هذا ما يقول به المدراش اليهودي: "كل مستلزمات الختان ينبغي أن تنجز يوم السبت". وقال الراب عقيبة: "كل عمل يقع في يوم السبت عادة, يجوز تقديم موعده إلا ما قبل السبت, إلا الختان. فإذا وافق يوم سبت, فمن المحال تقديمه أو تأخيره".

من أجل ذلك, برر المسيح إبراؤه ذلك المريض يوم سبت, مستنداً إلى ثلاث حجج: الحجة الأولى- ما عمله موسى: بإعطائهم وصية الختان

. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. 23فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ لِئَلَّا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ 24لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ

التي تنقض وصية السبت"لهذا أعطاكم موسى" – أي لهذا السبب الذي أتبرر به أمامكم, وهو أن وصية الختان تنسخ وصية السبت. إذاً كان موسى مدافعاً عن المسيح مقدماً وهو لا يدري.

الحجة الثانية – ما يعملونه هم: "ففي السبت تختنون الإنسان".

عدد 23. الحجة الثالثة- سيادة ناموس الرحمة "فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى. أفتسخطون علي لأني شفيت إنساناً كله في يوم السبت"؟ إذا كان ناموس الضرورة ينسخ ناموس الوصايا, ووصايا الناموس, فبالأولى ناموس الرحمة يسود على كل ناموس: "شفيت إنساناً كله"- فمن هذا نرى أن المعجزة التي أجراها المسيح تمتاز على فريضة الختان: (أ) في طبيعتها: لأنها معجزة رحمة: "شفيت" (ب) في كفايتها وفاعليتها: "إنساناُ كله". فالرجل شفي من مرضه الجسدي إذ قام وحمل سريره, ومن مرضه الروحي: "لا تخطيء أيضاً " (5: 14). (ج) في ضرورتها لأن تأجيل الشفاء قد يقضي على حياة المريض, مع أن تأجيل الختان يوماً أو بعض يوم لا تأتي بضرر معلوم.

عدد 24. خاتمة الخطاب الأول – نصيحة في صيغة مبدأ عام: "لا تحكموا حسب الظاهر...".ينبغي أن لا يكون الحكم مبنياً على ظواهر الأمور,

الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً». 25فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هَذَا

مثلما نظر اليهود إلى معجزة الشفاء, نظرة سطحية, فحكموا بأن المسيح معتد على الناموس, بل مؤسساً على بواطن الأمور وخفاياها. فرب أعمال تكون في ظاهرها مطابقة لحرف الشريعة, وفي حقيقتها منافية لروح الشريعة.وكم من مسكين في غياهب السجون يستحق

ان يكون بديلاً لمن يرتع في نعيم القصور قاتلوا الأجساد يرسفون في القيود, وقاتلوا الأرواح تنحني أمامهم الرقابة, آكلوا لحوم البشر يحسبون متوحشين, وناهبوا أعراض إخوتهم هم المتدينون !!!

الخطاب الثاني 7: 25-30

أصل المسيح : نحن الآن أمام منظر آخر, حدث أيضاً في الهيكل (ع 28) وإن لم يكن قد حدث بالضرورة في ذات الوقت الذي فاه فيه المسيح بالخطاب الأول. في هذا المشهد الجديد, يتجلى لنا شعور جديد, هو شعور"أهل أورشليم" الذين كانوا أعلم بنوايا رؤساء اليهود, من الجمع الساذج (ع 25), ومع أنهم لم يوجهوا إليه كلاماً جارحاً كما فعل أولئك (ع20) إلا أنهم جهلوا حقيقته بسبب ادعائهم كثرة العلم (ع 27). لا شيء أخطر من الجهل, سوى العلم الناقص.

عدد 25. تساؤل أهل أورشليم 7: 25-27: "فقال قوم من أهل أورشليم"- هذه ثاني مرة وردت فيها كلمة "أهل أورشليم "في العهد الجديد(المرة الأولى في مرقس 1: 5). "أليس هو الذي يطلبون أن يقتلوه"؟

هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟ 26وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً وَلاَ يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ حَقّاً؟ 27وَلَكِنَّ هَذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ

فبلاً كان المسيح في موقف الاتهام, لأنه كسر السبت, و الآن نرى أهل أورشليم وقد زجوا برؤسائهم في قفص الاتهام, ملصقين بهم تهمة الشروع في القتل: "يطلبون أن يقتلوه" كأنهم في سعي متواصل ليتحينوا كل فرصة للإيقاع به.

عدد 26و27. جهلهم بطبيعة ظهور المسيح 7: 26و27 "وها هو يتكلم.." كان أهل أورشليم على وشك أن يكونوا فكرة صائبة عن المسيح, لولا أن غلبت عليهم فكرة كانت شائعة وقتئذ: وهي أن المسيح يأتي مستتراً فلا يدري أحد عن أصله شيئاً. فقد جاء في التلمود: "ثلاثة تأتي على غير انتظار: "مسيا (المسيح), والكنز المكنون,والتنين". وكانت هنالك فكرة فاشية بين قوم منهم, وهي "أن مسيا متى جاء, يكون مجهولا من الناس, ويظل هو أيضا جاهلا ذاته, حتى يأتي إيليا ويمسحه, فيظهره لذاته وللجميع". والظاهر أن هذه الأفكار الخاطئة, نشأت في مخيلة بعض منهم نتيجة سوء فهمهم لبعض النبوات (دانيال 7: 13 أشعياء 11: 1 و53: 2 و8), مع أن هذه النبوات لا تعني سوى أن بيت داود يكون في حالة وضيعة وقت مجيء المسيح. لكن ما الحيلة في من أعماهم الادعاء بالعلم: "نحن نعلم" فتبرعوا لأنفسهم ولغيرهم بالجهالة: "لا يعرف أحد"! أن قولهم: "من أين هو"

وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ». 28فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا وَمِنْ نَفْسِي

لا يشير إلى المكان الذي ولد فيه المسيح بل إلى أصله وأبويه. إن هذه العبارة تنم عن جهلهم المطبق, لأنهم كانوا إلى الآن يعتقدون أنه ابن يوسف!

عدد 28 و29. جواب المسيح: "فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلاً.." اتخذ المسيح من اعتراض "أهل أورشليم", سلماً لخطاب جديد عن موضوع جديد. في خطابه الأول تحدث عن أصل تعليمه, وبرر موقفه في إبرائه مريض بركة بيت حسداً. وفي خطابه الثاني, خاطبهم عن أصله هو, وعن مصدر رسالته. فالكلمات التي يرتكز عليه هذا الخطاب هي: "لأني منه وهو أرسلني" عدد 29. "فنادى يسوع وهو يعلم" – رفع صوته مجاهراً, ومعلناً, وكارزاً ومقرراً. وبدت هذه الكلمة في الأصل, أربع مرات في هذه البشارة (1: 5 و7: 28 و7: 37 و12: 44). "في الهيكل" – هذه العبارة تدل على فترة وقعت بين الخطاب الأول والثاني, وترينا أن المسيح جاهر بهذه الكلمات على مسمع من الرؤساء والزعماء. إن مقادس الله حقيقة بأقدس الإعلانات: "قائلا تعرفونني وتعرفون من أين أنا" – تفترض هذه الكلمات أن المسيح سلم بأنهم يعرفون عنه وعن أصله بعض المعرفة. لكن ما عرفوه عنه لا يساوي مثقال ذرة مما جهلوه. لقد عرفوه أنه من بيت لحم أو من النصرة, وأنه إنسان أرضى ولد كما يولدون, فكانوا في معرفتهم هذه أغبياء جاهلين فإذا كان المسيح قد سلم بأنهم يعرفون بعض المعرفة إلا أنهم شديداً على فرط جهالتهم. لم تكن معرفتهم

لَمْ آتِ بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ.

به ناقصة وكفى, بل كانت ممتزجة بجهالة. "ومن نفسي لم آت" – أجمع علماء اللغة الأصلية على أن الواو التي تبدأ بها هذه العبارة, حرف عطف له قوة الاستدراك. فهي في قوة كلمة "لكن". بهذا أعلن المسيح لهم أنه لم يرتفع على أجنحة مطامحة الذاتية, لأنه ليس من طراز الملوك الذين يتوجون أنفسهم, ولا الرسل الذين يستمدون رسالتهم من نبع ادعائهم – "بل الذي أرسلني هو حق" – هو مرسل حقيقي, له حق الإرسال, وله أن يقلد من يرسله حق تبليغ الرسالة. ويستفاد أيضاً من هذه العبارة, أن المسيح شاعر بمن أرسله ومتيقن أنه شخص حقيقي. إلى هنا كان المسيح مدافعاً ومقرراً. وفيما بعد ينتقل من الدفاع إلى الهجوم: - "الذي أنتم لستم تعرفونه". هذه طعنة نجلاء صوبها المسيح إلى رؤساء اليهود فأصابت منهم الصميم. ويزيدها حدة أنها صوبت إليهم في الهيكل الذي يظنون أنه محط تعبدهم لله ومهبط معرفتهم به. كان من السهل عليهم أن يتهموا في جهلهم بالعلوم والفلسفة, ولكن أن يتهموا في جهلهم بالله, فهذا مما لا يطاق. فلا عجب إذا كانت نيران هذه الكلمات قد أنضجت عوامل حقدهم على المسيح. كانوا يزعمون أنهم يعرفون الله, ويعلمون "من أين أتى المسيح" (عدد 27), فأتاهم حكم السماء – أنهم لا يعرفون الله, وبالتالي, يجهلون من أين أتى المسيح. كلمة "أنتم" وردت في الأصل بصيغة التوكيد.

من فمهم يدانون. فإذا كانوا قد اعترفوا في عدد 27 أن جهلهم بالمسيح, يؤيد رسالته, فأنا نحمد لهم هذا الجهل المطبق الذي تطوعوا له من غير قصد, فقدموه حجة دامغة على أن يسوع, هو المسيح.

29أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ وَهُوَ أَرْسَلَنِي». 30فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ

إن جهل اليهود بالله, يقابله علم المسيح به: "أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني". "أنا أعرفه" – هذه معرفة حقيقية اختبارية. بنى المسيح هذه المعرفة على أساسين – أولهما: أن أصله من الله – فمنه اشتق جوهره, وطبيعته, ووجدانه, باعتبار كونه أباه. وثانيهما: أن رسالته صادرة منه: "وهو أرسلني".إن الأساس الأول مختص بكيانه, والثاني برسالته. الأساس الأول نبع الثاني, والثاني مشتق من الأول ومتفرع منه.

مما ذكر, يتضح لنا أن المسيح كشف في خطابه الثاني عن ثلاث حقائق مهمة: (أ) العلم الناقص الذي اتصف به أهل أورشليم: "تعرفونني وتعرفون من أين أنا". (ب) الجهل الكامل الذي ملك قلوبهم ومشاعرهم: "أنا اعرفه". إن معرفة الله أس كل معرفة, والجهل به هو الجهالة مجسمة: "قال الجاهل في قلبه ليس إله". (مز 14: 1).

عدد 30. مبلغ تأثرهم من كلامه "فطلبوا أن يمسكوه. ولم يلق أحد . ." لقد تأثروا شديد التأثر من كلامه. وقويت لديهم فكرة الاعتداء عليه, فتوطدت عزيمتهم على أن يلقوا القبض عليه. في هذا العدد نرى: (أ) سعيهم الغير المشكور: "فطلبوا أن يمسكوه". والظاهر أن هذا السعي كان مصدره رؤساء اليهود كما في ص 5: 16-18. (ب) ضعف قوتهم: "لم يلق احدا يداً

عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. 31فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ

عليه". مهما كانت إرادة البشر قوية, فإنها تعجز كل العجز عن أن تستقدم أي عمل من الأعمال التي رتبها الله في سلطانه. كان اليهود إلى الآن يخشون هياج الشعب الذي كلن يحترم المسيح (لوقا 20: 19) وكانت ضمائر أولئك الرؤساء واقفة سدأً منيعاً بينهم وبين عمل الإجرام الذي كانوا مقدمين عليه, لأن هذه الضمائر لم تكن قد تقست بعد, بل كان فيها بصيص من النور. وفوق ذلك فإن المسيح, كان يحف به سلطان ممتاز, وكانوا إلى الآن يخشون رهبته. كل هذه علل ثانوية ظاهرة, منعتهم من القاء القبض عليه. (ج) العلة الأصلية الحقيقية لعجزهم: "لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد" ليست هذه مجرد ساعة القبض عليه (18: 12), بل هي ساعة صلبة, التي كانت ساعة القبض عليه, ممهدة لها (راجع 7: 8).

الخطاب الثالث 7: 31 -36. قرب انطلاق المسيح:

(1) موقفان متنافضان 7: 31 و32.

كلمات واحدة نطق بها فم واحد, وألقاها بروح واحد, فأنتجت نتيجتين متناقضتين, تختلفان باختلاف استعداد قلوب السامعين. هذه الكلمات. سمعها الجمع الطيب القلب, "فآمن به كثيرون" (عدد 31). وسمعها الفريسيون ورؤساء الكهنة, "فأرسلوا خداماً ليمسكوه"(عدد 32).

عدد 31. (أ) إيمان كثيرين من الجمع بالمسيح: "فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا . . " بينما كانت عوامل البغضاء تختمر في قلوب العادين للمسيح,

وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟». 32سَمِعَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ

كانت بذار الإيمان تزداد نمواً في قلوب أحبائه ومريديه. إن شعاعة الرجاء التي دخلت قلوب هؤلاء الجموع (عدد 12), قد أصبحت الآن نوراً, فأضحت إيمانا. إلا إيمانهم لم ينضج بعد, لأنه كان متهجماً إلى معجزات المسيح, لا إلى شخصه (2: 23). لذلك كانوا بالرغم من إيمانهم هذا, مستسلمين لسطوة الرؤساء, فلم يعترفوا بإيمانهم به اعترافاً إيجابياً صريحاً. إن مركز الدائرة في المسيحية, ليس معجزات المسيح, ولا كلماته, بل شخصه. وأن مركز الدائرة في شخصه ليس حياته, بل موته, وقيامته.

عدد 32. (ب) جحود الفريسيين ورؤساء الكهنة: "سمع الفريسيون الجمع . . . فأرسل . . . خداماً ليمسكوه". إن إيمان الجمع بالمسيح, قد أيقظ الفتنة التي كانت نائمة في قلوب الفريسيين ورؤساء الكهنة, وأثار حفيظة نفوسهم. لم يكن مكان التئام السنهدريم, بعيدا عن المكان الذي كان الجمع جالساً فيه (8: 20), فمن المحتمل أن بعض أعضاء السنهدريم, الذين من شيعة الفريسيين, سمعوا بآذانهم كلام الجمع عن المسيح. كما أنه من المحتمل أيضاً, أنهم كانوا قد أرسلوا "عيونهم" ليتجسسوا, ويقدموا إليهم تقريراتهم. لأن كلمة: "سمع", تحتمل أحد الفرضين, أو كليهما معاً. هذه أول خطوة رسمية اتخذها السنهدريم ضد المسيح. بل هذه أول حلقة من سلسلة المؤامرات الرسمية التي أختتمت بصلبه. إن تكرار كلمة "الفريسيين",

الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ. 33فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ ثُمَّ أَمْضِي

مرتين في هذا العدد, وتقديمها على كلمة: "رؤساء الكهنة" يفيدان إن الفريسيين كانوا متوالين الزعامة في هذا العمل الغير المبرور. كانوا هم القوة المفكرة, وكان رؤساء الكهنة القوة المنفذة. ويستدل من ذكر الفريسيين ورؤساء الكهنة معاً, إن هذين الحزبين اللذين يتألف منهما السنهدريم, كانا متحالفين في هذه المسألة, على الرغم كونهما متخالفين في سائر المسائل. فكأن عدائهم المشترك نحو المسيح قد جمع بين قلوبهم. فياله من صانع سلام حتى بين صفوف أعدائه!

إن كلمة: "رؤساء الكهنة" تضم بين ذراعيها رئيس الكهنة الذي يشغل هذه الوظيفة, وجميع رؤساء الكهنة السابقين: مثل حنان, وابنه اليعازار, وشمعونبن قمحى, واسماعيل بن فابي. ولعلها تشمل أيضا: "جميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة" (أعمال 4: 6). هذه أول مرة وردت فيها كلمة "الفريسيين" في بشارة يوحنا.

والمستفاد من كلمة: "أرسل", أن الخدام كانوا مزودين بسلطان رسمي, من قبل السنهدريم (7: 45 و18: 3 و12 و18 و22 و19: 6 وأعمال 5: 22 و26). فكان عليهم أن يتحينوا فرصة فيها يمسكونه بكلمة, ومتى رأوا تيار الرأي العام متحولاً عنه, ألقوا القبض عليه.

عدد 33. (2) خطاب المسيح 7: 33 و34: "قال لهم يسوع . . ". في هذا الخطاب حدثهم المسيح عن: (أ) قصر حياته الأرضية: "أنا معكم زماناً . . "

أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 34سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا». 35فَقَالَ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «إِلَى أَيْنَ هَذَا

(ت)جلال مآله: ". . ثم أمضى . .". (ج) سوء مآلهم: "لا تقدرون . . . "

(أ) قصر حياته الأرضية. لم تكن مؤامراتهم خافية عليه. لذلك بين لهم أن أمامهم فرصة نادرة. فخير لهم أن ينتهزوها, فيتمسكوا به, بدلا من أن يمسكوه.

(ب) جلالة مآله. لم يأت المسيح أرضنا ليعمر عليها, بل جاءها برسالة, ومتى أتم رسالته عاد إلى الذي أرسله. هذا مآل طبيعي لذلك الذي أتى من الآب. لأن المباه تعلوا إلى المستوى الذي منه نبعت.

عدد 34. (ج) سوء مآلهم. يتضمن هذا العدد عبارتين – تشير أولهما إلى مصيرهم كأفراد: "حيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا", لأن المياه لا تعلو فوق منبعها. في العبارة الأولى أزاح المسيح الستار عن الخيبة المرة التي ستصيب اليهود كجموع عندما يطلبون "مسيحهم المنظر", فلا يجدونه, لأنه يكون قد مضى عنهم في شخص يسوع الذي يحدثهم الآن.وفي العبارة الثانية, أراهم أن كلا منهم منحدر إلى مكان الظلمة حيث البعد عن الله.

عدد 35 و36. (3) تساؤل اليهود "فقال اليهود فيما بينهم . . ". نطق اليهود بهذه الكلمات متهكمين, كأنهم أرادوا أن يقولوا "إذ كانت رسالة هذا المسيح قد فشلت بين اليهود الحقيقيين الساكنين في الأرض المقدسة,

هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟ 36مَا هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟». 37وَفِي الْيَوْمِ

و المتكلمين بلغة اليهود السامية. فهل يعلن نفسه مسيحياً على اليهود المشتتين في ربوع اليونان؟ لعله إذا مسيح للأمم"!! كلمة "يونان" ليست قاصرة على الروم, لكنها تعني الأمميين مطلقا, غير اليهود.

لقد كان هؤلاء اليهود في تهكمهم, أحكم منهم في جدهم, لأنهم نطقوا بما لم يعملوا, فكانوا "أنبياء", أو أنصاف أنبياء, وهم لا يعلمون. مثلهم مثل قيافا الذي تكلم عن موت المسيح بحكمه شبيهة بالنبوات (11: 51).

لم يمض سوى وقت قصير حتى تمت هذه النبوة غير المقصودة, فصار المسيح بحق "مسيح الأمم". وكتب إنجيله بلغة اليونان. وان خير دليل على هذا, هو بشارة يوحنا, التي نحن بصددها الآن, إذ كتبت أصلا بلغة "اليونان"!.

ثالثاً: في اليوم الأخير العظيم من العيد – 7: 37- 53

(أ‌) المسيح النبع الحقيقي -7: 37- 44

(ب‌) التئام مجمع السنهدريم -7: 45- 53

(أ) المسيح النبع الحقيقي 7: 37- 44. (1) خطاب المسيح (7: 37 و38). (2) تعقيب البشير على خطاب المسيح (7: 39). (3) تأثرات الجموع المختلفة (7: 40- 44).

الأَخِيرِ الْعَظِيمِ مِنَ الْعِيدِ

(1) خطاب المسيح (7: 37 و38)."وفي اليوم الأخير العظيم من العيد . . ".

بلغنا الآن اليوم الأخير العظيم من عيد المظال, وهو أرهب أيام العيد وأقدسها, وفيه نلحظ نغمة جديدة من كلام المسيح. فيما مضى كان كلامه مفرغا في قالب منطقي احتجاجي, والآن نجده مقدماً في صيغة دعوة الملكية, فالتقت فيه رهبة كلام المسيح, بهيبة ذلك اليوم الأخير العظيم, وتكون منهما صوت قوى بجلاله, معلناً أن المسيح هو الجوهر الذي تنتهي عند الظلال اليهودية, وهو الرمز الحقيقي الذي تلتقي فيه خلاصة رموز العهد القديم.

في الإصحاح الثاني وجدنا في المسيح الهيكل الحقيقي, الذي كان يرمز إليه هيكل اليهود. وفي الإصحاح الثالث رأينا فيه الترياق الحقيقي الذي كانت ترمز إليه الحية النحاسية. وفي الإصحاح السادس عرفنا فيه الخبز الحقيقي الذي كان المن له رمزاً. وفي هذا الإصحاح السابع نشاهد فيه النبع الحقيقي الذي كانت ينابيع البرية رمزاً له. وفي الإصحاح الثامن نلمح فيه النور الحقيقي الذي كان يرمز إليه عمود النار في البرية وفي الإصحاح التاسع عشر نكتشف فيه الفصح الحقيقي الذي كان فصح اليهود ظلاً له.

عدد 37. (أ) الوقت الذي قيل فيه الخطاب: "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد" – في اليوم الثامن الذي هو خاتمة المطاف في هذا العيد (ولاويين 23: 36 ونحميا 8: 18). وفيه كان ينتظم المعيدون صفوفاً ويدخلون الهيكل, ثم

وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ

يقفلون راجعين إلى بيوتهم, ويبيتون هناك(لا 23: 39) , ويقيمون فيه ذبائح خاصة (عدد 29: 36-38). فإذا كانت سبعة أيام العيد التي يقضيها المعيدون في المظال, ترمز إلى تغرب الإسرائيليين في البرية, ف‘ن اليوم الثامن الذي فيه يتركون مظالهم ويرجعون إلى بيوتهن, يرمز إلى دخولهم أرض الموعد واستراحتهم فيها. حسناً قال فيه فيلون: (إن اليوم الثامن في عيد المظال هو خاتمة أعياد السنة المقدسة). وفيه قال يوسيفوس :"هو الختم المقدس للسنة".

(ب) الكيفية التي قيل بها:"وقف يسوع"- على خلاف عادته, لأنه كان يتكلم غالباً وه جالس (مت 5: 1) ولعله كان يراقب خروج الناس من مظالهم قاصدين الهيكل.وبما وقف ليضيف إلى صوته رهبة, رهبة وقوة, وارتفاعاً. "ونادى قائلاً " – بصوت جهوري واضح النبرات, لتنفتح آذان من يريدون أن يسمعوا وتصم آذان من وضعوا أصابعهم على آذانهم.

عدد 37و38. قلب الخطاب: "إن عطش أحد. .". كان المعيدون يستقون مياهاً من برركة سلوام في صباح كل يوم من السبعة الأيام الأولى في العيد. فبعد تقدمة الصباح يذهب الكاهن في مقدمة الشعب, وبيده إبريق من ذهب, فيملأه ماء من بركة سلوام, ويتقدم به إلى الهيكل, والشعب من خلفه, يؤلف موكباً عظيماً, مختبراً طرقات المدينة, بأناشيد وهتاف, وأصوات أبواق تشق كبد الفضاء- ويقول الرابيون إن من فإن من أفراح

هذا اليوم فقد فاته أن يتذوق طعم الفرح الحقيقي. وإذ يبلغون الهيكل, يصعد

فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ

الكاهن إلى مذبح المحرقة, فيناديه الشعب: "شمر عن ذراعك", فيجيبهم بسكب المياه التي في الإبريق, إلى جهة المغرب. وفي هذه اللحظة يرتل الشعب التسبحة القائلة: "تستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص" (إشعياء 12: 3). وقد اتفقت كلمة المفسرين على أن المعيدين كانوا يمارسون هذا الطقس مدة السبعة الأيام الأولى من العيد. ويكفون عن ممارسته في اليوم الثامن. فكان من الطبيعي أن يقف المسيح في هذا اليوم الثامن الذي تعطل فيه هذه الفريضة الطقسية, ليقرر للمعيدين أنه هو نبع الماء الحقيقي, الذي تختفي أمامه المياه الطقسية فهو الحقيقة التي تتلاشى أمامها الظلال. وهو الجوهر,الذي أمامه تتخذ الرموز أجنحة أثيرية وتطير.

على أن هذا الطقس الرمزي كان يذكر اليهود بحقيقة تاريخية مجيدة فكما أن أسكنهم المظال, كان يذكرهم بتغربهم في البرية, كذلك كانت فريضة الماء المنسكب, مذكرة إياهم بالماء الذي تفجر من الصخرة في البرية. وفي اعتقادنا أن المسيح لم يقف في خطابه هذا عند حد الإشارة إلى الماء الذي كانوا يستقونه مدة أيام العيد, بل تناول أيضاً الإشارة إلى تلك الحقيقة التاريخية, التي كانت فريضة الماء المنسكب رمزاً لها. فكأنما المسيح قصد أن يعلن لأولئك المعيدين أنه هو الصخر الحقيقي الذي كانت صخرة البرية رمزاً له. هذا يؤيده قول بولس الرسول: "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم. والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4), ويدعمه قول المسيح نفسه: "إن عطش أحد " . لأن مياه العيد لم تكن ليشرب منها كل من

وَيَشْرَبْ. 38مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ

عطش, بل كانت تقدم سكيباً. وأما ماء الصخرة في البرية فقد شرب منها العطاش, ثم عادوا إلى عطشهم السابق , فماتوا

يتضمن هذا الخطاب – دعوة, ووعداً, ولكل منهما شطران الشطر الأول, شرط. والثاني جوابه. وشطرا الوعد يوضحان شطري الدعوة.

(أ) الدعوة: "إن عطش أحد" – هذا هو الشرط. "فليقبل إلي . . ." – هذا جواب الشرط. (ب) الوعد: "من آمن بي" – هذا هو الشرط ". . . تجري من بطنه" - هذا جواب الشرط. وهذه الأربعة الأشطر, سائرة في نظام تدرجي. فالعطش يؤدي إلى الإقتبال إلى المسيح والإرتواء منه, والاقتبال إلى المسيح يتطور فيصير إيماناً به. والإيمان به يكافىء بما هو أفضل من الارتواء – أن يصير المؤمن نبعاً فياضاً وصخراً حياً, يتفجر منه ماء حي لإرواء الآخرين.فالتعطش إلى المسيح هو الإيمان في درجته الإبتدائية. والإرتواء منه هو مكافأة هذا الإيمان الإبتدائي. والإيمان بالمسيح هو ثمرة الإقتبال إليه, وإرواء الأخرين هو نتيجة طبيعية للإرتواء الروحي. إن قوله: "كما قال الكتاب", يصف ما بعده لا ما قبله, ولا يشير بالضرورة إلى قول معين بنصه, بل إلى روح الكتاب (انظر إشعياء 44: 3؛ 55: 1 و58: 11؛ يوئيل 3: 18؛ زكريا 14: 8؛ حزقيال 47: 1).

ولعل أقرب الأقوال إليه , ما جاء بصدد الصخرة في البرية: "يخرج منه ماء"

أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ». 39قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ

(خروج 17: 6), "فخرج ماء غزير" (عدد 20: 11). إن قول المسيح هذا برهانا ضمنيا على حقيقة لاهوته. لأنه من يستطيع أن يروي عطش كل البشرية ويملأ احتياجاتها إلا الله وحده؟!!

عدد 39. (2) تعقيب البشير على خطاب المسيح 7: 39. "قال هذا عن الروح الذي . . . ". إن خير مفسر لكلمات المسيح هو أقرب التلاميذ إلى قلبه- يوحنا الذي عرف معنى هذه الكلمات وتشبع بقوتها اختباريا. وإن أصدق مفسر لكلمات يوحنا هو الاختبار المجيد الذي حصل عليه الرسل في يوم الخميس "استقر" الروح القدس على كل واحد منهم و "امتلأ الجميع منه". إن الإيمان بالمسيح هو الوسيلة المثلى الامتلاء من الروح القدس. وعندما يملأ الروح القدس قلب المؤمن يصير فيه "ينبوعاً حيا ينبع إلى حياة أبدية" (4: 14). إن الوقت المقصود في قوله: "مزمعين أن يقبلوه", يشير إلى يوم الخمسين. فمع أن التلاميذ نالوا نصيبا من الروح القدس مذ آمنوا بالمسيح, إلا أنهم لم يمتلئوا بالروح إلا يوم الخمسين. فقد يحل الروح القدس في قلب المؤمن, من غير أن يكون قلب المؤمن ممتلئاً به. وقد يمتد الزمن بين الاختبارين إلى بضع سنوات – كما في اختبار الرسل. وقد يكون بضعة أسابيع- كما في اختبار أهل السامرة, وسكان أفسس (أعمال 8: 17 و19: 1 - 7), وقد يقتصر على ثلاثة أيام- كما في اختبار بولس الرسول (أع 9: 17).

لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ.

وقد يملأ الروح القدس قلب المؤمن يوم حلوله فيه بالذات – كما في اختبار كرنيليوس (أع 10: 44).

أما سبب عدم امتلاء التلاميذ بالروح القدس وقت كلام المسيح, بدلاً من يوم الخمسين, فقد ذكره البشير في قوله: "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد. لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد". كان ينبغي أن يكمل عمل المسيح الفدائي, قبل أن يحل عصر الروح القدس في الكنيسة. لأن أهم عمل يقوم به الروح القدس هو تخصيص فوائد الفداء لكل مؤمن. فمع أن الروح القدس كان موجودا وعاملا في بعض الأفراد, لكنه لم يعط بملئه وفيضانه, ليكون نائب المسيح في كنيسته على الأرض, إلا بعد أن قبلت ذبيحة المسيح الكفارية. وعلامة قبولها: قيامته وصعوده. إن قوله: "لم يكن قد مجد بعد"يشير إلى صلب الفادي الذي ختم بقيامته وتوج بصعوده. هذه حقيقة تاريخية: إن الروح القدس لم يعط بملئه الفياض إلا بعد أن جلس المسيح عن يمين العظمة في الأعالي, فأرسله إلى الكنيسة. وهي أيضاً حقيقة اختبارية. فلن يملأ الروح قلباً, إلا إذا كان المسيح ممجداً في ذلك القلب. على قدرة ما نعطي من قلوبنا للمسيح, يعطينا الروح القدس من المسيح. فعلى قدر ما نفرغ نمتلئ. وبقدار ما نخضع نرفع.

هذه أول مرة ذكر فيها "تمجيد" المسيح بحصر اللفظ في هذه البشارة

40فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكلاَمَ قَالُوا: «هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ». 41آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ».

عدد40. (3) تأثرات الجموع المختلفة 7: 40 -44. كان البشير حريصا على تسجيل التأثرات المختلفة التي بدت من الجموع, لكي يرينا أن الحنطة والزوان كانا ينميان معاً, وإن طريق المسيح إلى الصليب صار معبداً, وأن حفيظة اليهود صارت تمتلئ تدريجياً بالمواد الملتهبة, منتظرة فرصة يقدح فيها شرر ضئيل فتندلع نيرانها.

بعد أن سكن صوت المسيح, وارتفعت أصوات كثيرة بأقوال متضاربة شبيهة بأصوات الأمواج الكثيرة بعد ارتطامها بالصخر.

وفي هذه الأعداد (7: 40-44), يحمل إلينا البشير أربعة أصوات: فالصوتان الأولان منبعثان من أشخاص أحسنوا الظن بالمسيح ولو أن كلمتهم لم تجتمع على رأي واحد. والصوتان الأخيران منبعثان من قوم معارضين.

(أ) صوت الفريق الأول: "لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي"- المتنبأ عنه في تث 18: 15, والذي ظنه بعضهم شخصاً مستقلاً عن المسيح, ومهيئاً الطريق قدامه – على رتبة يوحنا المعمدان (انظر شرح 1: 21 و6: 14). لقد تكون هذا الاعتقاد في نفوسهم, بعد سماعهم, كل الخطابات التي فاه بها المسيح أثناء العيد, لا نتيجة خطاب اليوم الأخير وحده. هذا ما تفيده العبارة: "هذا الكلام", كما وردت في الأصل.

عدد41. (ب) صوت الفريق الثاني. "آخرون قالوا هذا هو المسيح".

وَآخَرُونَ قَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ 42أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ؟» 43فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ. 44وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ

كلمة: "قالوا" كما هي في الأصل تعني أنهم ظلوا يرددون هذا القول كعقيدة راسخة في أذهانهم. هذان هما الفريقان اللذان أحسنا الظن بالمسيح.

(ج) عدد 42. صوت الفريق الثالث. اكتفى هذا الفريق بالتساؤل والاعتراض: "وآخرون قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي. ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود قيها يأتي المسيح"؟.

عدد 43. انشقاق الجميع بسببه. لم يرغب البشير أن يرد على هذا الاعتراض, لأنه رآه يحمل في نفسه حجة بطلانه. أن قليلاً من المعرفة يريكم يا أيها المعترضون أن المسيح ولد في بيت لحم, لأنه من نسل داوود حقاً(مز 132: 11وأرميا 23: 5وإشعياء 11: 1و10وميخا5:: 2و1 صم 16 مع متى ص 1و2ولوقا 1و2). فمع أنه عاش في الجليل إلا أنه ولد في بيت لحم.

عدد 44.(د) صوت الفريق الرابع. "وكان قوم منهم"- غير الخدام الموفدين من السنهدريم – "يريدون أن يمسكوه" –إما بتحريض من خدام السنهدريم, أو وبتطوعهم ليقدموه إلى أنفسهم للمحاكمة, أو ليوقعوا به الأذى من تلقاء ذواتهم (عدد 30و32) "ولكن لم يلق أحد عليه الأيادي" تهيباً من

عَلَيْهِ الأَيَادِيَ.45فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» 46أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ

هالة المجد الذاتي التي كانت تحف به, تخوفاً من حماسة الجماهير المعجبة به, فاستكانوا أمام العناية الربانية الخفية: "لأن ساعته لم تأت بعد".

(ب) التئام مجمع السنهدريم 7: 45-52. ما أمر الحقد! إنه يبعث بالقوانين, ويزيل الفوارق والحدود! فعلى خلاف أحكام الناموس التئام المجمع السنهدريم في اليوم الأخير العظيم من عيد المظال, على زعم كون ذلك اليوم "سبتاً". وعلى خلاف ما بين الكهنة والفريسيين من خلاف المستحكم. التئام شملهم في انتظار تقرير الخدام الذين أرسلوا القبض على يسوع إن حقدهم على المسيح قد كسر أحكام الناموس, وأزال ما بين هاتين الطائفتين من فوارق وحدود. فالحقد الذي يفرق بين القلوب المتحابة, هو ذاته الذي يجمع بين القلوب المتنابذة, ولكن إلى حين. حتى يقضي الوطر, فتعود القلوب إلى ما كانت عليه من تحاسد وتنابذ.

عدد 45. (1) عودة خدام السنهدريم واستجوابهم. عاد الخدام من مهمتهم التي كلفوا بها (عدد 32)"فجاءوا إلى رؤساء الكهنة الفريسيين"- لا بخف حنين بل بشهادة الحق واليقين (عدد 46)."فقال هؤلاء لهم لماذا لم تأتوا به" – كأن السنهدريم لم يوصهم أن يفحصوا الأمر بل أن يكلبوه بالقيود, مذنباً كان أم بريئاً.

عدد 46. (2) جواب الخدم المفحم "أجاب الخدام: لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان"هذه لطمة على وجه أعضاء السنهدريم,

هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». 47فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ 48أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ 49وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ

موجهة إليهم من خدامهم, ولو دروا بها لتركوا كراسي القضاء, بعد أن صاروا متهمين : "لم يتكلم قط إنسان "- ولا أنتم أيها العلماء الحكماء أساتذة الناموس وحملة مفاتيح المعرفة.

هذه شهادة غير مقصودة من الخدام, على أن المسيح أعظم من إنسان. أنهم بقولهم هذا كانوا أحكم من أنفسهم. فإذا كان البطل يجعل الإنسان جباناً, فإن الحق يلبسه قوة الأبطال.

عدد 47. (3) جواب الفريسيين (7: 47-50) "فأجابهم الفريسيون ألعلكم". كان لكلمات الخدام وقع أليم على قلوب الفريسيون, مدعى العلم. إن في جوابهم خليطاً من (أ) اتهام: "ألعلكم أنتم أيضاً- يا من اتخذناكم عدتنا في الهجوم عن المسيح-"قد ضللتم" كغيركم (عدد 12). إذا كان كل الضلال من هذا النوع, فيا ليت جميع الناس يضلون! هذا الضلال هو الهدى بعينه.

عدد 48. (ب) تخوف وفزع 7: 48 "ألعل أحداً من الرؤساء"؟ أي نعم! والجواب في عدد 50. فالذي تحذرون قد وقع.

عدد 49. (ج)سب وشتم "ولكن هذا الشعب الذي لا يا فهم الناموس هو ملعون". ليس في الدنيا أضعف من إنسان تستد أمامه مسالك الحجج

النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». 50قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً

المقنعة, فيلجأ إلى السب والشتم, سوى إنسان يستتر وراء حق مزيف. هذه خطية الفريسيين المزدوجة, تلقاء الخدام. ولعل الفريسيين استندوا في قولهم هذا, إلى قول الرابيين: "من المحال أن يكون الجاهل قديساً. لأن العلماء يحظون وحدهم بالقيام من الأموات". إذا كان خدامكم جهلة يا أيها الفريسيون فمن المسئول عن جهلهم سواكم ألستم مكلفين من قبل الله تعليمهم الحق؟ لكن هو التعصب قد أعمى بصائر هؤلاء الفريسيين, فظنوا أن معرفة الناموس لا تتأتى إلا على طريقتهم هم, زمن خالف تفسيرهم, فهو جاهل للناموس, وإن الناموس الذي يشهد للمسيح ليس في نظرهم ناموساً, لأن المسيح كسر ناموس السبت, كما يزعمون.

عدد 50و51. (4) احتجاج نيقوديموس. "قال لهم نيقوديموس" في هذا العددين نجد (أ) وصفاً مزدوجاً لنيقوديموس (عدد 50)(ب) صيغة احتجاج نيقوديموس (عدد 51).

(أ) وصف مزدوج لنيقوديموس- إن جانبه الأول هو:"الذي جاء إلى يسوع ليلاً"- هذا هو اللقب الذي خلعه البشير على نيقوديموس فلابسه في الثلاث المرات التي ورد فيها اسمه في بشارته (3: 1؛ 7: 50؛ 19: 39). ما أعظم الفرق بين نيقوديموس الإصحاح السابع, و نيقوديموس الإصحاح الثالث! لقد نما إيمانه وازدهر وبدأت براعمه تتفتح. فينشر منها عبير جميل, وفي الإصحاح التاسع عشر نرى الإيمان المزدهر وقد جاد بأطيب الثمر, فصار

وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: 51«أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟» 52أَجَابُوا: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟

ثمره "طيباً"(19: 39). الجانب الثاني من الوصف: "وهو واحد منهم" – هذا جواب يوحنا البشير على تخوف الفريسيين المذكور في العدد 48.

(ب) صيغة احتجاج نيقوديموس(عدد 51): "ألعل ناموساً يدين . . "؟ من فمهم دانهم نيقوديموس, فألصقوها بالخدام ظلماً, فصاروا مستحقين لعنة أشر. قالوا عن الخدام: "هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون", فقال لهم نيقوديموس: "ألعل ناموساً الذي نتهم غيرنا بالتعدي عليه, يدين إنساناً لم يسمع منه"(تث 1: 16و17؛17: 8؛19: 15)أم هل نحمي الناموس من غيرنا, ولا نحميه ن أنفسنا؟ فيا حماة الناموس احموا من أنفسكم أولاً. ويا من تعتقدون أنكم أنتم الناموس متأنساً, ارفعوا عن أنفسكم الشريفة أذى أنفسكم الخبيثة. كلمة:"ناموس" في هذا العدد, تعني الناموس ممثلاً في هؤلاء الفريسيين الذين تصدروا للحكم باسم الناموس.

عدد 52 (ج) جواب الفريسيين:"أجابوا وقالوا له:".يتضمن جوابهم: (أ)تعنيفاً لنيقوديموس:"ألعلك أنت أيضاً من الجليل"! عجباً أنهم لم يتزحزحوا عن اعتقادهم الخاطىء بأن المسيح جاء من الجليل(عدد41) فحكموا على أنفسهم بالجهل في وقت ينسبون فيه الجهل إلى خدامهم. فكانوا خدامهم أحكم منهم. وكم من خدام في لباس سادات. وسادات في ثياب خدام!في تعنيفهم لنيقوديموس, اتهموا بالتحيز للمسيح, كأنه من بلده

فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». 53فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ.

وعشيرته. فدلوا بكلماتهم هذه على تخوفهم من أن يكون نيقوديموس موالياً للمسيح سراً. (ب)حكماً مطلقاً: "فتش وانظر إنه لم يقم نبي من الجليل"-مساكين! لقد أعمامه التعصب فجهلوا – أو تجاهلوا – أن يونان النبي قام من الجليل.وما قولهم في ناحوم, وإيليا, وهوشع؟! ولنفرض جدلاً أنه لم يقم نبي في الجليل في الماضي, فمتى كان الماضي حكماً مطلقاً على المستقبل؟ ومن أرهم أن المسيح قام من الجليل لقد كانوا عائشين في الماضي, مع أنهم محسوبين ظلماً على حاضرهم. وكذلك يفعل التعصب فعله في القلوب! هذا هو العمى الاختياري!.

عدد 53. كلمة تاريخية. بهذه الكلمة التاريخية, يختتم هذا الإصحاح, ويستهل الإصحاح التالي. إنها تصور لنا جمهور المعيدين, وقد حلوا مظالهم, وقفل"كل واحد" منهم راجعاً"إلى بيته". كما تصور لنا أعضاء السنهدريم وقد استولت عليهم خيبة مرة فعجزوا عن مقاومة الحكمة التي فاه بها نيقوديموس ولم يستطيعوا أن يصدروا حكماً. وكأن روح من ظنوه جليلياً, قد أبكمت عواطفهم الجامحة, كما أسكتت وأبكمت عواصف البحر الثائرة,فتركوا مجمعهم حيارى مضطربين: "ومضى كل واحد إلى بيته".

رجل واحد هو نيقوديموس, قال كلمة هادئة, فصارت هادية للجمع بأسره. فقد تجد واحداً واقفاً منفرداً, لكنه يكون أغلبية متى كان في جانب الحق. وقد يتفوه به رجل واحد بكلمة واحدة,فيحول تيار اضطهادات لا حصر لها, إلى اتجاه جليل ومجيد.

  • عدد الزيارات: 4382