Skip to main content

شهادة التلاميذ الأولين

وَاثْنَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ 36فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ». 37فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38فَالْتَفَتَ

إن الشهادة الحيّة تهيئ الطريق للإيمان الحي, ولن يكون الإيمان حيّاً إلا إذا اتصل بشخصيّة حية. ولن تكون الشخصية حية موضوع الإيمان الحي إلا متى كانت شخصية قوية وجامعة- كذلك كانت شخصية المسيح التي حجت إليها شخصيات كثيرة متباينة الجنسيات, والنزعات, والدرجات. فمن سمعان, ويوحنا, ونثنائيل, الذين يحملون أسماء عبرية[1], إلى أندراوس وفيلبس اللذين يحملان اسمين يونانيين. من بطرس المجازف المقحام, إلى نثنائيل الوداع, الجالس تحت تينة, إلى يوحنا ويعقوب ابني زبدى.

إذا تأملنا شهادات التلاميذ على المسيح, رأينا فيها تدرجاً متمشياً مع روح البشارة كلها. فمن شهادة اندراوس العامة: "قد وجدنا مسيا" عدد 41, إلى شهادة فيلبس المخصصة: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة" عدد 45, إلى شهادة نثنائيل العميقة "أنت ابن الله. أنت ملك اسرائيل" عدد 49.

وإذا نظرنا إلى الوسائل المختلفة التي بها دعا تلاميذ المسيح, وجدنا أنفسنا أمام غنى الحكمة الإلهية المتنوعة. فالطريقة التي بها اهتدى أحد التلاميذ إلى المسيح, هي غير الطريقة التي اهتدى بها الآخر. يوحنا وأندراوس أتيا إليه نتيجة شهادة أستاذهما, وتوطد إيمانهما به بعد محادثة هادئة تمت بينه وبينهما في البيت. وسمعان جاء إليه نتيجة شهادة أخيه, وتعمق إيمانه به بعد

يَسُوعُ

أن سمع منه كلمة فاحصة كشفت له ماضيه وحاضره ومستقبله في لحظة.وفيلبس الرجل العملى استأثرته شخصية المسيح القوية, فأقبل إليه نتيجة كلمة حاسمة لم تترك أمامه مجال للشك والتردد, ونثنائيل الوادع وجده نتيجة كلمة هادئة كالنسيم سمعها فملأت قلبه رجاء وعزاء. من التلاميذ من جاء إلى المسيح بدعوى من سواه, ومنهم من طلب المسيح باحثاً, ومنهم من دعاه المسيح بالذات. منهم من جاءه متسربلاً برداء الشك, ومنهم من جاءه مطمئناً واثقاً.

طليعة التلاميذ – يوحنا وأندراوس 1: 38 – 40 (أ) سؤال المسيح لهما: "...ماذا تطلبان". (ب) جوابهما على سؤال المسيح: "يا معلم أين تمكث" ع 38. (ج) دعوة المسيح لهما: "تعاليا وانظرا". (د) تلبيتهما للدعوة: "فأتيا ونظرا...." ع39. (هـ) اسم أحدهما: "كان أندراوس أخو سمعان..." ع40.

عدد 38 (أ) سؤال المسيح لهما: "فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما ماذا تطلبان؟".

سمع هذان التلميذان شهادة معلمهما المعمدان عن المسيح أنه خمل الله، فتركا معلمهما وتبعا فاديهما, ومنذ تلك اللحظة وهما إلى الآن يتبعان "الحمل الذي في وسط العرش وهو يرعاهما ويقتادهما إلى ينابيع ماء حيّة" (رؤ7: 17). كان هذان التلميذان يتبعان يسوع في وقت كان قد حول فيه وجهة عنهما ذاهباً في طريقه. إلا أن قلبه العطوف لم – ولن – يتحوّل عنهما, بل كان مراقبا مبادئ الحياة الجديدة وهي تدب في قلبهما كالنبتة الضعيفة

وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ فَقَالَ لَهُمَا

المحتاجة إلى أشعة الشمس لتقويها وتغذيها, وقطرات الندى لتنعشها وترويها. فحول المسيح وجهه إليهما وسلّط عليهما شعاعاً شافياً من أشعته النورانية المحيية قاصداً أن يشجع توجهات حياتهما الجديدة. "ونظرهما" – هذه الكلمة تفيد التفرس والإعجاب, والاهتمام (6: 5, 1يو 1: 1), "وقال لهما ماذا تطلبان" – هذه أول كلمة للمسيح في بشارة يوحنا. إن أولى كلماته في بشارة متى هي: "اسمع الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر" (مت 3: 15), وفي بشارة مرقس: "قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالأنجيل" (مر1: 15),وفي بشارة لوقا: "فقال لهما لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في مالأبي" (لو2: 49).

"التفت" ... "ونظرهما" ... "فقال لهما", هذه عبارات ثلاث تعين لنا الدرجات الثلاث التي بها عالج المسيح إيمان التلميذين في مهده. "التفت" – أراهما وجهه. "نظرهما" – رأى قلبيهما. "فقال لهما" – أراهما حقيقة قلبيهمل. "ماذا تطلبان" – كنّا ننتظر أن يسألهما المسيح قائلاً "من تطلبان" بدلاً من قوله "ماذا تطلبان". كأن يسألهما عن الشخص, لاعن الشيء الذي يطلباته. لكن للأسف كثيرون يقصدون المسيح لأنهم يطلبون عطاياه لا شخصيّته كم من كثيرين يطلبون الفادى من غير قصد معيّن. فهم كريشة في مهب الرياح وكغيوم من غير ماء. أن عارف القلوب تجلى لهذين التلميذين فرأيا فيه أكثر من "معلم", وان "حمل الله" تمثل لهما

«مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ: «رَبِّي (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟» 39فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ.

"كاهناً" فأحصى الكلى, وإن السيد ظهر لهاما ورفشه في يده لينقي بيدره الجديد.

لم يقصد المسيح بسؤاله أن يلقي العثرات أمامها, ولا مجرد فحص ولامجرد فحص غاياتهما, بل قصد أن يهيئ الطريق أمام أشواقهما الجديدة, يسندها في طفولتها, ويوجهها اتجاهاً آمناً مطمئناً.

(ب) جوابهما على سؤال المسيح: "فقالا ربي, الذي تفسيره يا معلم, أين تمكث". وحسنا أجابا. هل قدما هذا الجواب لأن المسيح فاجأهما بسؤاله فلم يجد أفضل من أن يجيب على سؤاله بسؤال آخر؟ أم أنهما أرادا أن يظهرا له أن قلبيهما محملان بالأشواق نحوه, وأن حديث الطريق لا يشبعهما لذلك طلبا فرصة خاصة في مكان هاديء؟ أم أنهما خافا لألّا يكون هو "عابر سبيل" ينظرانه الآن ثم يمضي عنهما غداً, فقصدا أن يتأكدا من محل إقامته؟ أم أنهما بسؤالهما هذا, قصدا أن يقولا له: "نريدك أنت. ولا نريد سواك. فقل لنا أين تمكث حتى نتملى برؤياك, ونشبع من سنا سناك"؟؟

الكلمات: - "الذي تفسيره يا معلم" من أقوال البشير. ولعل يوحنا فسر كلمة "ربي" لأنها كانت حديثة الاستعمال وقتئذ, فهي لم تستعمل إلا منذ أيام هليل, قبل المسيح بثلاثين عاماً.

عدد39. (ج) رد المسيح: "فقال لهما تعاليا وانظرا". إن سؤال المسيح الفاحص, ودعوته الحبية, يرمزان إلى عمل النعمة الذي يعمله

40كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ.

بروحه في قلوب الآتين إليه. الترجمة الحرفية للكلمتين "تعاليا وانظرا" هي "تعاليا الآن ومن ثم تنظران". هذه دعوة مزدوجة: "تعاليا" – دعوة إلى إطاعة الإيمان. "وانظرا" – دعوى إلى التعلّم, والطاعة دائما تسبق المعرفة. والإيمان يسبق العلم ويسايره هذه دعوى معجلة. لأن لمسيح خرج في الغد إلى الجليل (1: 43). فلو تأخر أو ترددا في قبول الدعوة لضاعت عليهما الفرصة إلى الأبد.

(د) إجابة الدعوة: "فأتيا ونظرا ومكثا". أطاعا. ونظرا. وانتظرا. وكما كانت الدعوى معجلة كذلك كانت تلبيتها. إن لذة هذه الزيارة بقيت عالقة في ذهن أحدهما – يوحنا البشير – إلى ما بعدها بستين عاماً لأنه ذكر موعدها بالضبط: "وكان نحو الساعة العاشرة" – بالحساب الأفرنكي الذي كان الرومان قد اعتمدوه. وهو يتفق والتوقيت المتبع الآن، أي قبل الظهر بساعتين. ويعتقد "ليتفوت" أنها الساعة العاشرة بالحساب اليهودي. أي قبل الغروب بساعتين، ويضيف إلى هذا، قوله: أن غد ذلك اليوم كان سبتاً. فلم يكن لديهما متسع من الوقت للسفر لذلك مكثا عنده حتى اليوم التالي. وما أجمل أن يصرف التلميذ أول سبت من حياته الجديدة في حضرة فاديه ومخلصه. إن السماء سبت أبدى لأنها تصرف بين يدي الله.

عدد 40. أندراوس "كان أندراوس أخو سمعان بطرس.. " واضح من هذا العدد، أن هذه البشارة كتبت في وقت كان قد صار فيه بطرس

41هَذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ فَقَالَ لَهُ

علماً من أعلام الكنيسة وأوسع شهرة من أندراوس حتى وُصف بأنه "أخو بطرس". ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن أندراوس دخل الإيمان قبل بطرس. فمن المحال عندنا أن يكون بطرس أساس الكنيسة.

عدد41. سمعان بطرس 1: 41 و42 "هذا وجد أولاً أخاه سمعان". (أ) ما ظفر به أندراوس: "هذا وجد أولا": ويستفاد من كلمة "أولاً", أن أول عمل قام به أندراوس بعد أن وجد المسيح – أو بالحرى بعد أن وجده المسيح – هو أنه وجد أخاه سمعان. وأيضاً أن كلاً من التلميذين ذهب مفتشاً على أخيه حتى يجده, فكان أندراوس السابق في هذا المضمار فوجد أولاً أخاه. أما التلميذ الآخر – يوحنا – فقد وجد أخاه فيما بعد. هذا برهان على تواضع يوحنا البشير في تسجيله حسنات غيره. "وجد" تنطوي هذه الكلمة على: البحث والسعي والجد المتواصل "ومن جد وجد".

ليست هذه المرة الأولى والأخيرة التي فيها أتى أندراوس بشخص إلى المسيح (أنظر يو6: 8, 14: 22). ومما يلفت أنظاراً أن أندراوس ووجد المسيح قبل أن يجد أخاه. إن الرابطة الروحية التي تربط الإنسان بالمسيح, أقرب, وأسبق, وأمتن من أية رابطة جسدية.

(ب) ما قاله أندراوس: "قد وجدنا مسياً" هذه شهادة النفس المتواضعة التي لم تحتكر امتياز هذا الاكتشاف لذاتها. فبدلاً من أن تقول "قد وجدت" أعطت لغيرها حقاً معها وقالت "قد وجدنا مسياً". هذه شهادة النفس الظافرة التي وجدت "اللؤلؤة الكثيرة الثمن". اكتشفت "الكنز المخفي". إن فرح هذه النفس أعظم من فرح أرشميدس باكتشافه العظيم. بل هذه شهادة النفس المتيقنة الواثقة مما

«قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ). 42فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ.

وجدت لأن "قد"حرف تحقيق. لا بل هذه شهادة النفس الباحثة المستنيرة "وجدنا مسيا". ومن العجب أن كلمة "مسيا" لم ترد على لسان أستاذه المعمدان. لكن أندراوس استطاع أن يفهم من الكتب أن "حمل الله" هو "مسيا المنتظر". الكلمة "مسيا" هي الصيغة اليونانية للكلمة الآرامية: "مشيحا", والعبرية: "مشيح", والعربية "مسيح" أي الملك العظيم الممسوح من الله والمنتظر من الشعب اليهودي, وفيه تتم نبوات العهد القديم. هذا المسيا كان منتظراً أيضاً من السامرين (4: 25). جاء في المدراش اليهودي شرحاً لما جاء قفي خروج 4: 22 ط بكر الله هو مسيا". وجاء في التلمود "إن اسم مسيا هو قبل كون العالم". ولأن يوحنا كان يكتب إلى الأمم, اضطر أن يفسر لهم كلمة "مسيا" اليهودية بقوله "الذي تفسيره المسيح".

عدد 42. (ج) ما فعله أندراوس: "فجاء به إلى يسوع" – وهذا يكفي. هذا عمل بسيط لكنه كامل. فإذا ما نجحنا في إحضار العطشان إلى الينبوع الصافي فقد عملنا كل مل يمكن عمله. هذا مثال لما ينبغي أن يعمله كل خادم للمسيح. فإذا لم يستطع أن يقدم المسيح للناس, فعليه أن يتقدم بالناس إلى المسيح.

إلى هنا ينتهي عما أندراوس ويبتدئ عمل المسيح. (أ) نظرة:

فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ).

"نظر إليه يسوع" – هذه نظرة مشجعة. ما أعظم الفرق بين هذه النظرة وبين تلك التي وجهها المسيح إلى بطرس بعد خطيته المعهودة (لوقا 22: 61)! (ب) إعلان: "أنت سمعان بن يونا" – هذا وصف لبطرس في ضعفه الحاضر. لأن سمعان تفسيره "المطواع، الضعيف، المستلين"، (جـ) نبوة وتشجيع ""أنت تدعى صفا" – هذا وصف لبطرس في قوته التي يمنحه المسيح إياها فيما بعد. كلمة "صفا" آرامية الأصل تقابلها في العربية: "كهف" وفي اليونانية "بطرس"[2] – أي "حجر". عجيب هذا الفرق بين حال بطرس ومآله. لكن لا يبقى وجه لهذا العجب متى ذكرنا أن حلقة الاتصال بينهما هي نعمة المسيح المحددة.

هذا برهان جديد على أن المسيح اتخذ لنفسه كل حقوق يهوه في العهد القديم. فكما دعا يهوه يعقوب إسرائيل. كذلك دعا المسيح سمعان بطرساً، على أنه لا فائدة من تغيير الاسم إلا إذا تغيرت الحياة. والمسيح هو المغير لهما كليهما.

43فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ

عدد 43. دعوة فيلبس 1: 43 و44 نحن الآن محاطون باكتشافات جديدة. دونها اكتشاف المريخ: أندراوس وجد بطرس، ويسوع وجد فيلبس، وفيلبس وجد نثنائيل.

"في الغد" – هذا هو اليوم الرابع منذ أرسل الفريسيون وفدهم إلى يوحنا المعمدان. "أراد يسوع" أي وضع في فكره كما يفيد الأصل. إذاً دعوة المسيح لفيلبس لم تكن أمراً ارتجاليا، ولا فكرة بنت ساعتها، بل كانت نتيجة تفكير وتدبير سابقين. هذه الحادثة تصلح لأن تعتبر رمزاً لدعوة الله للمؤمنين (رومية 8: 30). ويعتقد هنستنبرج أن المسيح وضع في فكره أن يذهب إلى الجليل إتماماً للنبوات القديمة القائلة بأن الجليل يكون مهبطاً لخدمة مسيا. ويعتقد آخرون أن المسيح قصد أن يفسح مجالاً لخدمة المعمدان، ولعله قصد أن يرجع إلى الجليل لينتظر هناك ريثما يحين موعد الفصح فيذهب إلى أورشليم في العيد. "فوجد فيلبس – فقال له اتبعني" – إذاً يكون فيلبس[3] أول شخص دعاه المسيح بالذات بقوله: "اتبعني" فالثلاثة الأولون – أندراوس، ويوحنا وبطرس – وجدوا المسيح. لكن فيلبس قد وجده المسيح. في كل هذا

فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». 44وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. 45فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ

يصدق القول: "نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". كلمة واحدة قالها المسيح لفيلبس: وكذلك لمتى أيضاً مت 9: 9، "اتبعني" (فيها خلاصة الحياة المسيحية) فهل فهم فيلبس في الحال كل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من أتباعه إلى جشيماني وإلى الجلجثة، وإلى القبر، وإلى المجد؟ أم فهم منها أن المسيح يدعوه ليتبعه في رحلته إلى الجليل وكفى؟

عدد44. موطن فيلبس "وكان فيلبس من بيت صيدا.." – ومعناه محل الصيد – "من مدينة أندراوس وبطرس" يا لها من مدينة عجيبة خرج منها كثيرون من خير صيادي الناس. لم يذكر البشير شيئاً عن نفسه ولا عن موطنه، تواضعاً منه كعادته. وقد اندثرت مدينته وذهبت معالمها ولم يبق منها سوى أكوام معروفة بـ "تل حوم". أما مدينة فيلبس فهي "بيت صيدا" الجليل، الواقعة في الجهة الغربية من نهر الأردن قرب بحيرة طبرية بقرب "خان منية". "وهي غير بيت صيدا" الواقعة شرقي الأردن قرب مصبه في بحر طبرية. ويظن طمسون الرحالة أن ليس إلا بيت صيدا واحدة وأنها عند "أبي زاني"الحالية، بجانب مصب الأردن في بحر طبرية.

عدد 45. نثنائيل – أول ثمرة التين الناضجة 1: 45- 51 إن أول تلميذ وجد المسيح، وأول تلميذ وجده المسيح، صار كلاهما مبشرين ناجحين. فأندراوس وجد سمعان، وفيلبس وجد نثنائيل. كلمة "نثنائيل" – عبرية تقابلها في اليونانية "ثيودور" المعربة بـ "تاوضروس". ومعناها "عطية الله". نثنائي المذكور في بشارة يوحنا هو برثولماوس المذكور في سائر البشائر.

وَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ

لأن ذكره في اسنهلال بشارة يوحنا وفي خاتمتها (1: 45 و21: 2) يدل على أنه كان ذا مقام ممتاز بين التلاميذ. ولأن سائر البشيرين ذكروا اسم برثولماوس بجانب اسم فيلبس (مت 10: 3 ولو 6: 14 ومر 3: 18) وكذلك فعل يوحنا باسم نثنائيل. فمن المرجح جداً أن نثنائيل هو برثولماوس، سيما وأن برثولماوس ليس اسماً بل كنية ومعناه: بن تلماي – أي "ابن الحارث" وربما عرف في بعض الأوساط باسمه "نثنائيل" وفي البعض الآخر بكنيته: "ابن الحارث".

لقد اتخذ دعوة نثنائيل دورين: أحدهما تمهيدي – حدث بينه وبين فيلبس 1: 45 و46. وثانيهما نهائي حدث بينه وبين المسيح 1: 47 – 51.في الدور الأول نرى نثنائيل متحيراً في شكله. وفي الدور الثاني نرى نثنائيل باحثاً, ومتعجباً, ومعجباً, ومؤمناً.

الدور الأول – نثنائيل متحيّر في شكله 1: 45 و46. هنا نرى (1) كلام فيلبس مع نثنائيل: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء". يقول البشير: "المسيح وجد فيلبس" عدد 43 – هذا هو الصوت. ويقول فيلبس: "وجدنا المسيح" ع45 – هذا هو الصدى. هذه شهادة (أ) المتواضع: "وجدنا" لا "وجدت" (ب) الباحث عن الحق: "الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء"(ج) المدقق في بحثه: "يسوع بن يوسف" – كما كان يظن – "الذي من الناصرة" – بذلك قد ربط القديم بالجديد (د) الفرح باكتشافه.

يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ». 46فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «تَعَالَ وَانْظُرْ». 47وَرَأَى يَسُوعُ

عدد 46. (2) رد نثنائيل: "أمن الناصرة..." هذا هو الجواب المتحير في شكله. مع أن الجليلين كانوا وقتئذ محتقرين لخشونتهم, وعدم تهذيبهم, لكنا نرى هنا جلياً يحتقر الناصرة. والإنجيل نفسه لا يضع الناصريين في مكان يحسدون عليه, فالمسيح تركهم وفضل أن يعيش بين أهل كفرناحوم (مت 4: 13), ولم يقدر أن يعمل معجزات في الناصرة بسبب عدم إيمان أهلها. (مت 13: 58). وفي ذات يوم شرعوا في قتل المسيح الذي هو مفخرة وطنهم (لو 4: 29). ولعل نثنائيل قصد أن يقول آمن الجليل الحقير – والناصرة جزء منه – يمكن أن يكون شيء صالح؟ فيكون قد فاه بهذه الكلمة من قبيل التواضع والتعجب, لا من قبيل التحقير – لأنه هو أيضاً جليلي.

عدد. الدور الثاني – نثنائيل باحث 1: 47 – 51. في هذا الدور نرى طابع التدرج المطبوعة به كل البشارة. نلاحظ هذا التدرج في اختبارات نثنائيل, وفي إعلانات المسيح لنثنائيل. في اختبارات نثنائيل نراه مقبلاً عدد47, فمتعجباً عدد48, فمؤمناً مقراً بإيمانه عدد 49. وفي إعلانات المسيح نراه معلناً حقيقة نثنائيل للواقفين معه عدد 47, ثم مظهراً قوتّه الفاحصة لنثنائيل عدد 48, ثم واعداً إياه بإعلانات أعمق وأتم في المستقبل القريب والبعيد عدد 50 و51.

نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ

الكلمة المركزية في هذا الفصل هي: "إسرائيلي", وهي عبرية معناها "يسود الله". إنها تصوّر لذاكرتنا يعقوب أبا الأسباط, الذي أعطى هذا اللقب المجيد بعد صراع عنيف, فناله بضعفه لا بقوته. إن ما جاء في يو 1: 47 عن إسرائيل الجديد, يقابله ما جاء في تكوين 32, عن إسرائيل القديم, وما جاء في يو 1: 51 يتمشى مع ما جاء في تك 28. تمت مصارعة الأول وهو منفرد في وحدته, كذلك كانت مصارعة الثاني. على أن مصارعة يعقوب تمت في ظلمة الليل, لكن مصارعة نثنائيل تمت في نور النهار, وهو جالس تحت ظل تينته – والتينة ترمز إلى الهدوء والاطمئنان. وتحت تينة أيضاً اهتدى أغسطينوس إلى الله. كان يعقوب إسرائيل محاطاً بشكوكه ومخاوفه كذلك كان نثنائيل. نال يعقوب لقب "إسرائيل" من شخص عجيب، هو الله – الإنسان، أو الإله المتأنس إذ قيل له: "جاهدت مع الله والناس"، وكذلك نال نثنائيل لقب "إسرائيلي حقاً" من المسيح الذي هو الله المتجسد (يوحنا 1: 14).

حوار بين المسيح ونثنائيل. لنتأمل في هذا الحوار البديع فنلاحظ (أ) المسيح ناظراً إلى نثنائيل في وقت إقبال نثنائيل إليه: "ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليه" – هذه نظرة مزدوجة – ظاهرية وباطنية. فالمسيح رأى نثنائيل كما يراه أي إنسان، ورأى أعماق نفسه كما يراه الله وحده. "مقبلاً إليه" – إقبالاً مزدوجاً: بالجسد، وبالروح. (ب) المسيح شاهداً عن نثنائيل "هوذا إسرائيلي حقاً لا غش فيه" أي هذا هو الإسرائيلي الروحي، المخلصظ، الحقيقي (رو 2: 29). هل في هذا القول مفاضلة ما، بين

فَقَالَ عَنْهُ: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ». 48قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ». 49فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!»

إسرائيل الجديد – نثنائيل، وبين إسرائيل القديم – يعقوب، الذي كان معجوناً بالمكر والدهاء؟ أم هذه عبارة تفسيرية لما قيل عن إسرائيل القديم في تك 25: 27، فيكون معناها: "هو ذا إسرائيلي بالحق"؟ يغلب على اعتقادنا أن المعنى الثاني هو أقرب الاثنين إلى الصواب (ج) نثنائيل متعجباً من علم المسيح الفاحص.

عدد 48. نثنائيل يتعجب لما أدرك نثنائيل أن المسيح عالم بحقيقة قلبه، ملكه العجب فقال له: "من أين تعرفني؟" هذه – ولا شك – معرفة إعجازية إلهية. وإلا لما أثارت تعجب نثنائيل واندهاشه.

(د) جواب المسيح على تعجب نثنائيل "قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك" – من هذا الجواب نرى أن المسيح أجاب على تعجب نثنائيل بما يزيد هذا التعجب لا بما يزيله. لأن المسيح أعلمه أن له قوة إلهية خارقة تجتاز الأبعاد المسافات، وتخترق حجب أوراق التين الخضراء. فهو يعلم كل شيء لأنه يرى كل شيء.

عدد 49. (هـ) تعجب نثنائيل ينقلب إعجاباً، وإيماناً، وإقراراً: "يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل". في هذا الإقرار ثلاث كلمات – كل منها تصف المسيح في ناحية معينة: "معلم"، "ابن الله"، "ملك

50أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا!» 51وَقَالَ لَهُ: «ﭐلْحَقَّ

إسرائيل". "معلم" – هذا هو اللقب الذي كان المسيح معروفاً به عند عامة الناس. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح معلم فقد اعترف ضمناً بأنه تلميذ لهذا المعلم. "ابن الله" هذا وصف للمسيح في شخصه الإلهي الذي له طبيعة واحدة مع الله. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح ابن الله فقد اعترف ضمناً بأنه متعبد له. "ملك إسرائيل" – هذا وصف للمسيح في وظيفته الإلهية. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح "ملك إسرائيل" فقد اعترف ضمناً بأنه عبد له. هذا برهان جديد على أن نثنائيل هو "إسرائيلي حقاً لا غش فيه". كأن نثنائيل قصد أن يقول للمسيح: "إذا كنت أنا إسرائيلياً، فأنت ملك إسرائيل، بل ملكي أنا". نثنائيل هو آخر التلاميذ الذين أتوا إلى المسيح – في هذا الإصحاح – لكنه كان أسبق التلاميذ إلى الاعتراف بلاهوت المسيح، وسمو ملكوته. إذاً قد صار الآخرون أولين. وإذا كان كثيرون يقعون في شك بعد إيمان، فإن نثنائيل قد ارتقى إلى الإيمان بعد الشك، ومن عجائب الاتفاق أن غرة هذه البشارة ترينا تلميذاً قد شك ثم آمن، وأن خاتمها تتوج بتلميذ كان مؤمناً، فشك ثم عاد إلى الإيمان – توما. وربما كان أقوى أنواع الإيمان، ذاك الذي يتوطد بعد شك.

عدد 50 و51 (و) المسيح يعد نثنائيل بإعلانات أجل وأكمل، في المستقبل البعيد عدد 50، والقريب 51. إن ما رآه يعقوب إسرائيل في حلم الليل: "سلماً منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وملائكة الله

الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً

صاعدة ونازلة عليها" سيحققه نثنائيل – الإسرائيلي الروحي – في وضح النهار. وما السلم التي رآها يعقوب سوى رمز ليسوع المسيح المتجسد، الذي يسمو بلاهوته إلى أعلى السماوات، ويلامس بناسوته أعماق الأرض. لقد فتحت الخطية هوة عميقة بين السماء والأرض. وفي العهد القديم، سمح الله لبعض بني البشر أن يروا شعاعاً ضئيلاً من أنوار التجسد الذي ملأ هذه الهوة. فرأى يعقوب في حلمه شعاعة من التجسد، ولمح أيوب بصيصاً منه، لكن الطريق بين السماء والأرض كان غير مطروق إلى أن جاء "الطريق والحق"، والحياة، وفي غرة خدمة المسيح الجهرية – عند المعمودية – انفتحت السماء وانفرجت شفتاها عن قبلة الأرض، وفي جشيماني ظهرت الملائكة خادمة لابن الإنسان، وعند مجيئه ثانية ستنفتح السماء، ويظهر منها رب الأكوان، حاملات تعطفات السماء على الأرض، ومبلغاً أشواق الأرض إلى السماء، بل مصيراً الأرض سماء.

لأول مرة في هذه البشارة نسمع الفادي يقول: "الحق الحق"، ولأول مرة فيها نسمعه يقول عن نفسه إنه: "ابن الإنسان"، بهذا اللقب تختتم قائمة الألقاب التي خلعت على المسيح في هذا الإصحاح: "حمل الله": (29 و36)، "ابن الله": (34 و39)، "مسياً": (41 و45)، "ملك إسرائيل" (49) "ابن الإنسان": (51).وقد ورد هذا اللقب 79 مرة في البشائر: 11مرة في يوحنا، 12 في مرقس، 26 في لوقا، و30 في متى. ولم يرد لها ذكر في العهد القديم سوى مرة واحدة في دانيال 7: 13. ومما يستحق الاعتبار، أن هذا اللقب قد خلعه المسيح على نفسه ولم يجسر أحد سواه أن

وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ».

يطلقه عليه[4]. ويغلب على اعتقادنا أن التلاميذ لم يجسروا أن يطلقوا هذا اللقب على المسيح، تحاشياً من نغمة الاتضاع التي تحيط بهذا اللقب. غير أنه لقب ممتاز ومجيد. فهو يتميز عن القول: "ابن الله" في كونه ينبر على الجانب الإنساني في المسيح. وعن القول: "ابن داود" في كونه يشير إلى سعة شخصية المسيح التي تضم كل البشرية معاً. وعن القول: "ابن آدم" في كونه ينبر على المجد الذي كلل به المسيح المتألم، الكامل, وقصارى القول: أن ما قصده المسيح بهذا اللقب هو مشاركته لنا في اللحم والدم، على كيفية تجعله ممثلاً للبشرية جمعاء، وفيه نرى الصورة الممتازة التي كانت تظل عليها البشرية ولم تخطئ، والحالة المجيدة التي ستصير إليها بعد إتمام الفداء في المجد.

أليس من الملذ أن نذكر أن المكان الذي رأى فيه يعقوب حلمه، هو بيت أيل – نفس المكان الذي كان المسيح واقفاً فيه مع نثنائيل، في طريقه من اليهودية إلى الجليل؟؟!!.


[1] لمعرفة معنى كل اسم بالذات انظر شرح بشارة لوقا المؤلف صحيفتي 155 و156

[2] قد يلذ لنا أن نعرف أن الكلمة التي استعملت لبطرس في الأصل هي "بتروس" ومعناه حجر، لا "بترا" التي معناها صخرة، وليس من المعقول أن الكلمة الثانية هي التي قيلت لبطرس لأنها مؤنثة.. إننا نسوق هذا الحديث للذين يعتقدون أن بطرس هو الصخر الذي بنى عليه المسيح كنيسته. ونؤكد لهم أن الصخر إنما هو إيمان بطرس بأن المسيح هو ابن الله. وأما بطرس، فمعناه "حجر" – لا أقل ولا أكثر.

[3] بملاحظة المواضع الأخرى التي ورد فيها ذكر فيلبس في هذه البشارة، يتضح لنا أن فيلبس كان رجلاً حكيماً – في ص6: 5 تنكشف لنا حكمته العملية في تقدير حساب النفقة، وفي 12: 21 و22 تنجلي لنا حكمته في السياسة والتصرف مع الناس، وفي 14: 7 تظهر لنا حكمته المنطقية في حسبانه أن رؤية الله تكفي لحل جميع الأسرار والألغاز. ويحدثنا التاريخ أن فيلبس صار أحد الأنوار المتلألئة في آسيا. وهو غير فيلبس المبشر الذي تبأت بناته (أعمال 8و 21: 8).

[4] إلا في المرتين اللتين ورد فيهما هذا اللقب على لساني أسطفانوس (أعمال 7: 56)، ويوحنا البشير في الرؤيا (رؤيا 1: 13)، لأن ذكرهما لهذا اللقب كان تردياً لصدى صوت المسيح من قبيل الاقتباس ليس إلا، علاوة على أنه لا يحسب مقاساً لندورته.

  • عدد الزيارات: 6632