Skip to main content

شهادة يوحنا المعمدان

1: 37-19

شهادة يوحنا المعمدان أمام الوفد السنهدريمي 1: 19-28

شهادة يوحنا المعمدان في محضر المسيح 1: 29-37

أ- شهادة يوحنا المعمدان أمام الوفد السنهدريمي 1: 19-28

نجح يوحنا المعمدان في خدمته، فذاع صيته وملأ الأسماع. وانجذبت إليه جماهير غفيرة، فاهتز لنجاحه مجمع السنهدريم اليهودي. وكان مؤلفاً من

حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ

سبعين شيخاً، يرأسهم عظيم الكهنة. وأعضاؤه يؤلفون من ثلاث فئات: (1)

"رؤساء الكهنة"- من المتقاعدين والقائمين بالخدمة الكهنوتية، من العائلة الكهنوتية العليا (2) "شيوخ الشعب" – وهم خدام الهيكل من اللاويين (3) "الكتبة" وهم العارفون بالشريعة وأحكامها والمخصصون رسمياً للتعليم بها. وبالإجمال كان هذا المجمع اليهودي صورة منقحة لمجلس الشيوخ القديم (عدد11: 16).

إلى الآن كان مجمع السنهدريم متغاضياً عن وجود يوحنا المعمدان وعن عمله، ولكن إذ وجد أن الشعب قد بهر بخدمة يوحنا، وأن بعضاً ظنه المسيح المنتظر. واضطر السنهدريم إلى أن يتدخل في الأمر ليوقف تيار الأقاويل التي يسهل انتشارها سيما في الشرق. وقد جاء في "المشنا" أن محاكمة رئيس سبط من الأسباط، أو أي نبي كاذب، أو أي رئيس من رؤساء الكهنة، من اختصاص مجلس الواحد والسبعين(سنهدريم1: 5).

لقد كانت هذه نقطة فاصلة في خدمة يوحنا. بل كانت محكاً صادقاً لأخلقه. لأن الأفكار كانت مشبعة وقتئذ بانتظار مسياً (المسيح) الموعود به في الأنبياء. فلو كان المعمدان ممن يستهويهم النجاح، لا ندفع مع التيار وأجاب على الفور بأنه هو المسيح، فيفوز بإعجاب الجماهير. لكن المعمدان كان أرفع واثبت من ذلك بكثير، فأجابهم جواباً صريحاً قاطعاً. ولاشك في أن شهادة يوحنا لها قيمة ممتازة، لأنها شهادة رسمية أمام وفد رسمي.

عدد19. كلمة تاريخية. "وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت". يقدم لنا هذا العدد-1- وصفاً للمستجوبين: "كهنة ولاويين" – بخلاف الصدوقيين الذين لم يبالوا

كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟»

بأخبار نجاح يوحنا، لأنهم كانوا يستمدون من رومية السياسية. أما الكهنة واللاويون فكانوا يستمدون سلطتهم من وظيفتهم الدينية. وقد كانت منوطة بهم خدمة الهيكل. وهم الذين حملوا التابوت قديماً (يشوع3: 3). أليس من العجيب أن اللاويين يتفقون مع الكهنة ضد يوحنا المعمدان وهو لاوي مثلهم (لوقا1: 5)؟ وكذلك يعمل التعصب في القلوب فيطمس البصائر ويعوج الضمائر. هذه هي المرة الوحيدة، التي وردت فيها كلمتا "كهنة ولاويين" متحدتين معاً في العهد الجديد.

كان اللاويون والكهنة موفدين رسمياً من اليهود في أورشليم. والكلمة "يهود" – يحصر اللفظ وبحسب اشتقاقها- تعني الخارجين من سبط يهوذا. لكنها أطلقت بعد السبي على كل الأمة الإسرائيلية، لأن الراجعين إلى بلادهم، بعد السبي، كان جلهم من سبط يهوذا. وهي في هذه البشارة –إلا في موضع واحد 4: 9- تعني الكتلة اليهودية المعادية للمسيح، وعلى الغالب تستعمل عن رؤساء الكهنة. وليس من الغريب أن يطلق يوحنا البشير –وهو يهودي- كلمة "يهود" على الفئة المعادية للمسيح، لأن هذه الكلمة فقدت قوتها المميزة لليهود كجنس، بعد أن خربت أورشليم، فصارت تطلق على الفئة المتعصبة التي صلبت المسيح. وقد وردت 70 مرة في هذه البشارة (ب) وقت استجوابهم ليوحنا" "حين". لم يعين البشير موعد هذا الاستجواب بالضبط، وفي الغالب قد وقع بعد معمودية المسيح مباشرة.

لأن شخصية "المسيح" لم تتعين لدى يوحنا إلا عند المعمودية (ج) مصدر وفادتهم" "من أورشليم". (د) موضوع استجوابهم: "من أنت"؟ كان استجوابهم يحوم حول شخصية المعمدان، ليصلوا منها إلى معرفة شخصية مسيا (المسيح) المنتظر. وسنرى في عدد 24 أن اليهود وضعوا في

20فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ.

استجوابهم فخاً أمام يوحنا المعمدان ليوقعوه فيه، فيما إذا رفض أن يعرفهم بشخصه.

تناول يوحنا المعمدان في شهادته أما الوفد اليهودي الرسمي، أمرين:

أولاً: حقيقة القيامة 1: 20-23. سلبياً: 1: 20-21

وإيجابياً: 1: 22 و23

ثانياً: حقيقة رسالته 1: 24-27

عدد20. أولاً: حقيقة قيامته20: 23. إن شهادة يوحنا المعمدان هي غرة تاريخ الإنجيل. وهي تعين أول مرة سمع فيها رؤساء اليهود كلمة الإنجيل مواجهة. فهي أول شاهد يقوم في وجههم يوم الدين.

"فاعترف ولم ينكر، وأقر أني لست أنا المسيح". "اعترف، ولم ينكر، وأقر" – ثلاث كلمات- الكلمتان الواقعتان في الطرفين هما إيجابيتان والكلمة المركزية سلبية. وذكرت الثلاث معاً لتوكيد استعداد يوحنا، وصراحته ويقين شهادته. باعترافه اظهر استعداده. وبعدم إنكاره بين صراحته. وفي إقراره قدم برهاناً على إيقانه من شهادته. "اعترف" – هذا قول بلا إبطاء. "ولم ينكر" – هذا اعتراف بلا إخفاء. "هذا أقر" – يقين بجرأة وإباء.

لشهادة يوحنا جانبان- سلباً: (1) "لست أنا المسيح" عدد20 (2) "لست أنا ايليا" عدد21 (1) (3) لست أنا النبي21 (ج) إيجابياً. "صوت.." ع 22 و23.

21فَسَأَلُوهُ: «إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لاَ».

عدد 21. الجانب السلبي-1: 20و21 كان الكتبة يعملون أن إيليا ينبغي أن يأتي قبل المسيح (مت17: 10) ولهذا الاعتقاد الخاطئ أسانيد كثيرة في التلمود، اغلبها ناشئ عن سوء فهم ملاخى4: 5. ولو كان في نية يوحنا المعمدان أن يخدع أولئك المستجوبين، لتمسك بأهداب قول المسيح في مت11: 14 وأجابهم بالإيجاب. لكنه كان يعلم علم اليقين، أن المسيح تكلم مجازياً قاصداً "روح" إيليا لا "ذات" إيليا (لو1: 17). أن المستجوبين كانوا يتكلمون حرفياً، قاصدين "شخص إيليا بالذات". لذلك كان يوحنا جريئاً وصريحاً في قوله "لست أنا". جاء في التلمود: سوف يظهر إيليا قبل مسياً ويقول لهذا: "أنت طاهر"، ولذلك "أنت نجس".

لم يكتف المستجوبون بهذا الجواب. وكيف يسكتون ولم يزل في جعبتهم بعض السهام؟ لذلك سألوه قائلين "النبي أنت"؟ لاشك أنهم قصدوا "النبي" الذي تنبأ عنه موسى بقوله "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون (تث18: 15). وفي هذه المرة أيضاً كان جواب يوحنا صريحاً قاطعاً "لا".

قد استنتج بعضهم خطأ، أن " النبي" هو ذاك الذي ظهر في بلاد العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد الميلاد. ويظهر بطلان هذا الاستنتاج من الاعتبارات الآتية":

(أ) واضح من سؤال هؤلاء الفريسيين أنهم كانوا يقصدون نبياً يأتي قبل المسيح ليهيئ الطريق له، وأما نبي العرب فقد ظهر بعد المسيح بزمان هذا مقداره.

(ب) أن الأخوة المقصودين بقوله "من أخوتك" هم الأخوة الأقربون لا البعيدون، بدليل قوله: "من وسطك" أي من أخوتك العائشين معك من بني اسحق لا من بني إسماعيل – الأخوة البعيدين. لأن إسماعيل لم يكن أخاً شقيقاً لإسحق، ولأن نسله كانوا عائشين بعيداً عن الإسرائيلي، فلا يمكن أن ينطبق عليهم القول "من وسطك".

(ج) تقرر التوراة صراحة أنه لن يقوم نبي من إسماعيل لأن الله قطع عهده مع اسحق لا مع إسماعيل- (تك17: 18-21و21: 10-12). (أطلب سورة العنكبوت آية27).

(د) مكتوب عن النبي الذي تنبأ عنه موسى أنه "مثل" موسى. وموسى كان عالماً لكن ذلك النبي كان أمياً (سورة الأعراف 156و160). وموسى عمل معجزات كثيرة (سورة الأعراف 101-116و160)والقرآن نفسه يشهد أن نبي العرب لم يعمل معجزات (سورة الأعراف 126-129 والاسراء59).

(هـ) من أهم أوصاف النبي الذي تنبأ عنه موسى "أن الرب يقيمه لإسرائيل" وأنهم يسمعون له "يقيم لك..له تسمعون". وواضح أن نبي العرب ظهر للعرب لا لليهود، ولم يستمع اليهود لرسالته. لكن المسيح قيل فيه عند المعمودية "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.. له اسمعوا" (مر9: 2 ولوقا9: 35).

22فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» 23قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا

ومما يستدعي الملاحظة أن جواب يوحنا كان في كل مرة يزداد اقتضاباً واختصاراً عن المرة السابقة لها- فمن قوله "أني لست أنا المسيح". إلى قوله "لست أنا"، إلى قوله"لا". هل الثلاث الكلمات "اعترف"، "ولم ينكر"، "وأقر" تسير بالتتابع مع جواب يوحنا في كل مرة من الثلاث المرات التي أجاب فيها على أسئلة الموفدين من اليهود؟!!

ع 22و23 الجانب الإيجابي "فقالوا له..قال أنا صوت".

استنفذ أولئك الموفدون سهامهم التي كانوا محتفظين بها في جعبتهم. فلم يبق لديهم إلا أن يجعلوا المعمدان نفسه يقرر حقيقة أمره بطريقة إيجابية: "من أنت لتعطي جواباً للذين أرسلونا. ماذا تقول عن نفسك"؟ فأجابهم جواباً لم يقل في صراحته ومضائه عن أجوبته السابقة، مقتبساً من اشعياء النبي (اش40: 3). بذلك أقام المعمدان حجة دامغة على أن له شخصية مستقلة عن أحد الأنبياء السابقين، وعلى ان مقامه مكين، يرتكز إلى أساس متين في العهد القديم. "أنا صوت صارخ في البرية". ترمز" البرية" إلى (أ) الجفاف- معطشة بلا مطر. (ب) الجدوب-تربة بلا ثمر. (ج) التيه- واد بلا ممر. هكذا كانت خدمة المعمدان لشعب في برية حسا ومعنى.

العبارة "كما قال أشعيا النبي" – من كلام المعمدان لا من تفسير البشير (مت3: 3 ومر1: 3) والاقتباس مأخوذ من الترجمة السبعينية. وقد اقتبسه أيضاً يوستنيان الشهيد.

قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ». 24وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ 25فَسَأَلُوهُ: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟»

في هذا الجواب يتمثل أمامنا ملك شرقي في موكبه. والمنادى يتقدم طليعته صارخاً "هو ذا الملك القادم! فأعدوا الطريق أمامه".

بل في هذا الجواب أخفى المعمدان ذاته وأظهر حقيقة رسالته. أما إخفاؤه ذاته فواضح من قوله "أنا صوت" وأما إظهاره حقيقة رسالته فمستفاد من اقتباسه كلمات نبي قديم له اعتبار عظيم لدى السائلين.

ع24و25. ثانياُ: شهادة المعمدان بحقيقة رسالته 1: 24-27 (أ) الدور الأول من استجوابهم 1: 24و25 (ب) جوابه 1: 26و27

(أ) الدور الأول من استجوابهم 1: 24و25. " وكان المرسلون من الفريسيين" – تمييزاً لهم عن الصدوقيين الذين كان يتألف منهم أيضاً مجمع السنهدريم. وقد كان هؤلاء المرسلون الفريسيون مطبوعين بطابع التعصب الفكري لدرجة أنهم خرجوا عن حدود مهمتهم التي انتدبوا لها، فبدلاً من أن يكتفوا بأن يستجوبوا المعمدان عن شخصه، شرعوا يستجوبونه عن معموديته. ولابد أن معموديته جرحت كبريائهم، لنهم كانوا يعتقدون أن المعمودية هي الباب الذي منه يدخل الأممي إلى الدين اليهودي ولعلهم استنتجوا مما جاء في حزقيال 36: 25 واشعياء 52: 15 وزكريا13: 1 أنه لابد من معمودية ممتازة يقوم بها "مسيا" أو النبي الذي يهيئ الطريق له، لذلك سألوه قائلين: "فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح، ولا إيليا، ولا النبي"؟

26أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي

يلاحظ لوثر أن نغمة كلام الفريسيين قد تغيرت ابتداء من عدد 25. قبلاً كان كلامهم مسبعاً بروح المسالمة، والآن أضحوا ينفثون تهدداً ومقاومة (لو 7: 30).

(ب) جواب المعمدان 1: 26و27 "أجابهم يوحنا قائلاً.." – هذا جواب حكيم في أسلوبه، قوي بصراحته، جارح بصرامته. بهذا الكلام أجابهم المعمدان عما كان يجب عليهم أن يسألوا عنه، لا عما سألوا عنه بالذات. وكأني به، يقول لهم "تسألونني عن المعمودية، على اعتبار أنها عمل خاص بعصر المسيح؟ هوذا المسيح قائم الآن في وسطكم. إذاً لست أنا نبياً مخبراً عن مجيئه العتيد، إنما أنا مبشر بحضوره الآن. لا تهتموا بمعموديتي فهي من ماء. بل بمعموديته هو، فهي من نار.". إذا كان تعصب الفريسيين قد أنساهم حدود مأموريتهم، فأن حب يوحنا المعمدان للمسيح، قد أنساه عظمته الذاتية فانطلق لسانه متدفقاً كالسيل، شاهداً لمقام المسيح الممتاز وسمو طبيعته.

طبيعة معمودية يوحنا ع26و27. لهذا الجواب، طرفان وقلب. طرفاه يصفان (أ) حقيقة معمودية يوحنا: "أنا اعمد بماء"ع26. فهي إذاً معمودية رمزية، تمهيدية، خارجية. (ب) مقام يوحنا: "لست بمستحق أن احل سيور حذائه" ع27 – هذا مقام الخادم الوضيع. جاء في التلمود: يجب على التلميذ أن يقوم لمعلمه بكل الخدمات التي يقوم بها الخادم لسيده- ماعدا حل سيور حذائه. لكن يوحنا تخطى هذا الاستثناء وحسب نفسه غير مستحق أن يحل حذاء سيده. فهو إذاً اقل من تلميذ- انه خادم وضيع.

لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 27هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ». 28هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي

أما قلب هذا الجواب فأنه يرينا: (أ) المسيح حاضراً: "في وسطكم قائم" ع26. كلمة "قائم" تفيد الجلال، والثبات، ومقام الامتياز (مر11: 25و1 تي3: 8) (ب) المسيح مستتراً: "لستم تعرفونه" ع26.

لم يأت المسيح بمظهر الملوك، بل جاءنا وضيعاً، "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه". إذا كانت هذه العبارة تصف المسيح في بساطة ظهوره، فهي أيضاًَ تصف الغفلة التي كانت مستولية على أذهان أولئك الفريسيين الذين تصدروا زعامة الشعب. وكم كان جارحاً لهم أن يسمعوا من فم المعمدان هذه الكلمة: "لستم تعرفونه"، في وقت كانوا يدعون فيه أنهم "حملة مفاتيح المعرفة"ز وكم من المرات يكون المسيح في وسطنا ونحن لا نعرفه، إما لخطية فينا، أو لغلاظة قلوبنا، أو بسبب غشاوة المادة التي على عيوننا

(ح) المسيح منتظراً: "يأتي بعدي ع27- باعتبار الزمن، وكان هذا طبيعياً، لأن خدمة المعمدان كانت ممهدة لعمل المسيح. (د) المسيح منتصراً ممجداً: "صار قدامي" ع27 باعتبار الدرجة والمقام، لأن المسيح كائن قبل كل الدهور، "وفيه يقوم الكل، لكي يكون هو متقدماً في كل شيء" (كو1: 17و18).

ع28. مكان لقاء المرسلين بالمعمدان_ "هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد". "بيت عبرة" معناها: "بيت العبور" وهي واقعة جنوبي بحر الجليل على بعد 14 ميلا. ويعتقد بعض الثقات أنها هي "بيت عنيا" الثانية الواقعة على الشاطئ الشرقي لنهر الأردن، حيث كان

عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. 29وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ

يمكن عبور النهر لقلة عمق مياهه هناك. ولهذا كان ذلك المكان يسمى أيضاً "بيت عبرة" ويميل أوريجانوس المصري إلى الرأي الأول. وعلى كل فإن معنى الكلمتين واحد. لأن "بيت عنيا" كلمة أرامية – "بيت أنية" – أو "بيت السفينة" – أي "بيت المعدية" أو "عبور النهر". وهذا هو نفس المعنى الذي تحمله كلمة : "بيت عبرة".

(ب) شهادة يوحنا المعمدان في محضر المسيح 1: 29 – 34

انصرف هذا الوفد اليهودي المعمدان, فانصرف هو أيضاً إلى عمله, وفي غد ذلك اليوم وقد بدأت شمسه أن تميل وراء الأفق, أقفلت الجماهير المعتمدة من يوحنا, رجوعاً إلى المدن والضياع التي منها أتوا, فلم يبق مع المعمدان سوى تلاميذه وحدهم. وفي تلك الساعة الرهيبة بسكونها, المهيبة بعزلتها, أقبل المسيح وعلى محياه ترتسم علائم الظفر والفوز, وهو خارج من برية اليهودية حيث ظفر بالشيطان في معركة فاصلة, وهو على أتم الاستعداد أن يقدم نفسه حملاً فدائياًَ ليرفع خطية العالم. ومن غرائب الاتفاق أن تجربة الشيطان للمسيح في البرية, تمت في يوم تجربة الفريسيين ليوحنا المعمدان. ولا فرق بين المجرب في الحالين: سوى أن إبليس كان شيطاناً سافراً لكن الآخرين كانوا شياطين مقنعة.

وفيما كان المسيح مقبلاً إلى يوحنا – في طريقه من برية اليهودية إلى الجليل – استقبله يوحنا بشهادة جديدة معلنة (أ) كفاية كفارته "هوذا حمل الله" ع 29 (ب) سمو رفعته "هذا هو ......" ع30 و31 (ج) حقيقة مسيحيته "وشهد يوحنا قائلاً.." ع 32 و33 (د) امتياز بنوته "وأنا قد

مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ

رأيت وشهدت" ع34. ويجمل بنا الآن أن نذكر الدرجات التي ارتقت وتدرجت عليها شهادة المعمدان عن المسيح: فمن وصفه إياه بكلمات عامة: "الذي يأتي بعدي" ع15, إلى تعيين شخصه بالذات بقوله: "في وسطكم قائم" ع26, إلى شهادته بكفارته ع29, إلى اعترافه بمسيحيته ع33, حتى بلغ الدرجة القصوى في سلم شهادته إذ نادى بلغة الوثائق المقتنع بامتياز بنوة المسيح: "وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله"ع34.

ع29. (أ) كفاية كفارة المسيح: "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم".

"هو ذا" – تقال هذه الكلمة لتوجيه الالتفاف إلى شخص عجيب, أو إلى ضالة كان ينشدها أحدهم فوجدها, أو للفت النظر إلى شخص قريب. وهنا نطق بها المعمدان موجهاً أنظار تلاميذه – والعالم أجمع – إلى أعجب شخصية في التاريخ, وإلى الحمل الممتاز الذي كانت ترمز إليه ذبائح العهد القديم فوجده هو, إذ كان منه قاب قوسين أو أدنى.

"حمل الله" الحمل المعين من الله والمقدم من الله, والمقبول من الله,أكان يوحنا مشيراً إلى حمل الله الذي رمز الحمل الذي قدم بدل اسحق (تك 22: 13) أم إلى الذي رمز إليه حمل الذبيحة اليومية (خروج 29: 48)؟ أم إلى الذي أشار إليه حمل الكفارة, ويوم الفصح كان آنئذ قريباً؟ (2: 12 و13)؟ أم إلى الحمل الذي تنبأ عنه أشعياء

الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.

إش 53: 7)[1] وكان فكر المعمدان مشتغلاً وقتئذ بنبوات أشعياء (1: 23) أم إلى الحمل العظيم الذي نسب إلى اسم الجلالة؟ أم إلى كل هذا معاً؟؟؟ ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن الصفة الممتازة التي يقصدها يوحنا في الحمل هي تضحيته. فمع أن الحمل صامت، ووديع، وكامل، لكن وجه الشبه الرئيسي هو الكفارة. إن مركز الدائرة في المسيحية، هو المسيح. ومركز الدائرة في حياة المسيح هو الصليب. "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فالصليب أولاً، ثم الكمالات الأدبية الأخلاقية. إن إنشودة المسيحية الخالدة هي "مات لأجلي".

"الذي يرفع" – أي الذي يحمل على عاتقه، ويزيل خطية العالم، ليطرحها في برية النسيان (إش 53: 11). وهي في اللغة الأصلية تفيد الدوام المتواصل. إن رفع الخطية لا يقف عند حد مغفرتها، بل يقصد به أيضاً كسر شوكتها وسحق قوتها وإبطال سلطتها. "خطية العالم" – استعملت هنا كلمة "خطية" بالمفرد لا بالجمع للدلالة على أصل الخطيّة, ومبدأها, ونبعها, فشجرة التين يقال لها "تينة" مع أن ثمارها يقال لها "تين". كأن كل خطايا الجنس البشري تجمعت على شخص واحد, كما تتركز أشعة الشمس وتتجمع

30هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. 31وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ.

في نقطة واحدة هي نقطة الاحتراق. "والعالم" هو البشرية البعيدة عن الله, المتمردة عليه, والمحبوبة منه, على رغم كل هذا (3: 16). ومن العجيب أن يوحنا المعمدان, وهو يهودي, وقد ارتفع ببصره فتخطى حدود اليهود وقال "العالم".

إن كفارة المسيح كافية شافية. فهي كافية للجميع, وشافية للمؤمنين بها فقط.

عدد 30 (ب) سمو رفعة المسيح "هذا هو.." 30 و31. هذه نغمة المؤمن, الواثق مما يقول. (انظر عدد 7 و8 و15 و19 و24).

"قلت عنه" – في اليوم السابق عدد 15. "رجل" – وفي اليونانية تعني أفضل من رجل. استعملها هوميروس بمعنى "الأمير". وفيما بعد صارت لقباً تقابله كلمة "نبيل" في العربية. واستعملت أيضاً بمعنى "البطل" كما يقول عن رجل شريف مقدام: "هذا رجل". وهي تطلق على الإنسان في سموه ورفعته. "صار قدامى" – في المقام. "لأنه كان قبلى" – منذ الأزل.

عدد 31. جهل المعمدان لحقيقة المسيح "وأنا لم أكن أعرفه ...." يظهر لأول وهلة من متى 3: 14, أن المعمدان كان يعرف المسيح, فكيف يقول هنا أنه "لم يكن يعرفه"؟ المعرفة المقصودة هنا هي معرفته بأن يسوع هو المسيح المنتظر – معرفته من حيث رسالته ومسيحيته. لا من حيث شخصه حسب الجسد. لأنه من الطبيعي أن يكون المعمدان قد عرف يسوع حسب الجسد لما بينهما من صلة القرابة, لكنه ظل يجهل أن يسوع هو

لَكِنْ لِيُظْهَرَ لِإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ». 32وَشَهِدَ يُوحَنَّا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ.

المسيح ابن الله, "حتى رأى الروح نازلاً مثل حمامة من السماء ومستقراً عليه" "لكن ليظهروا" – هذا هو الغرض الثاني من خدمة المعمدان, والغرض الأول هو إعداد الطريق أمام المسيح الملك. الكلمة "ليظهروا" كثيرة الورود في كتابات يوحنا البشير (2: 11, 3: 21, 7: 4, 9: 3, 17: 6 و21: 1 و14 و1 يوحنا 1: 2 و2: 19 و28, 3: 2 و5 و8 و9 ورؤ 3: 18, 15:4) ولعله أخذها عن أستاذه يوحنا المعمدان, "إسرائيل" – بحسب استعمالها في هذه البشارة تعني العنصر الروحي الرشيد في الأمة اليهودية (1: 49 و3: 10 و12: 13).

عدد 32 (ج)حقيقة مسيحية المسيح: "وشهد يوحنا قائلاً..." 1: 32 و33. هذه شهادة مبنية على ما رأته العينان "قد رأيت", وما سمعته الأذنان "قال لي", وعلى فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل حجة. "رأيت" – معناها في الأصل "تفرست". لم يتحقق من الرؤيا ويميزها سوى المسيح والمعمدان (مت 3: 16 و17 ومرقس 1: 10 و11 ولوقا 3: 21) إن روح الله الذي به يقترب الناس من الله, قد استقر على كلمة الله الذي به يقترب الله من الناس. "حمامة" هذه ترمز إلى اللطف, والطهارة والوداعة, وعدم الأذى.[2] الكلمة "استقر" تحمل أفكارنا إلى يوم الخمسين

33وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. 34وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ

حين استقر الروح في الكنيسة التي هي جسد المسيح (أعمال 2: 3) كما استقر هنا على رأس المخلص. في العهد القديم كان الروح القدس يعطى لأجل خدمة خاصة, لكنه استقر الآن على شخص المسيح. "الذي أرسلني" – الله الآب – الأقنوم الأول في اللاهوت. هذا العدد الواحد يحمل إشارة إلى عمل الله الواحد, المثلث الأقانيم: "الذي أرسلني" – الله الآب, "الروح" – الله الروح القدس الأقنوم الثالث. "عليه" الله الابن الذي هو الأقنوم الثاني. فالأقنوم الأول أرسل. والأقنوم الثاني مسح بالروح القدس. والأقنوم الثالث نزل. ولقد تعمّد المسيح بالروح القدس, لأنه هو سيعمد غيره بالروح القدس. وهنا فضل خدمة المسيح على خدمة المعمدان. خدمة المعمدان بماء – خدمة رمزية, خارجية, جسدية, وقتية. لكن خدمة المسيح بنار _ خدمة جوهرية, داخلية, روحية, دائمة.

(عدد 34 – د – امتياز بنوة المسيح: "وأنا قد رأيت وشهدت" 1: 34 هذا ناتج عن شهادة المعمدان – أن المسيح هو ابن الله بكيفية ممتازة لا يدانيه فيها سواه. إن جميع المؤمنين يحسبون أبناء الله بالتبني فقط لأنهم كانوا غرباء عن الحظيرة السماوية فأدخلهم الله إليها بفضل نعمته. لكن المسيح هو ابن الله بالجوهر, والذات, والطبيعة. فهو صورة الله غير المنظور. وهو بهاء مجده. ورسم جوهره, وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.

أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ». 35وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ

هذه خاتمة شهادة المعمدان التي أدّاها للمسح بلسانه, وقد أردفها بشهادته التي قدمها بموته واستشهاده.

ج- الشهادة الثالثة التي أدّاها يوحنا المعمدان

شهادته أمام تلميذيه: اندراوس ويوحنا البشير 1: 35 – 37

ها قد بلغنا الآن, نقطة الاتصال بين خدمة يوحنا المعمدان وخدمة المسيح. بل هذا ملتقى العهد القديم بالعهد الجديد. لأن اثنين من تلميذ المعمدان صارا تلميذين للفادى. وهذه أكبر مكافأة لخدمة المعمدان: أن اثنين من تلاميذه نقلا من القسم الإعدادي إلى القسم العالي. بل هذا مظهر من مظاهر الخلق المتين الذي تحلى به المعمدان إذ قبل على نفسه أن يخسر اثنين من أحب تلاميذه إليه – خسارة هي نعم الربح للمعمدان فلأنها دليل على تقدير سيده لخدمته, وأما للتلميذين فإنهما صارا فيما بعد رسولين, بل عمودين في هيكل الكنيسة الأبدي, بل لؤلؤتين لامعتين في تاج الخلود.

أن الطابع العام الذي طبعت به هذه البشارة – التدرج, قد طبعت به أيضاً دعوة التلميذين إلى المسيح. كانا تلميذين للمعمدان. ثم وجهت أنظارهما إلى المسيح حمل الله عدد 29 و36, ثم دعيا إلى البيت الذي كان المسيح ساكناً فيه عدد 39, ثم شاهدا معجزاته فرأيا مجده 2: 11.


[1] يقول ابربنئيل وهو أحد أحبار اليهود: "قال الراب يوناثان من عزئيل أن الإصحاح الثالث والخمسين من أشعياء يشرح آلام "مسيا" المنتظر. ويؤيد هذا, آراء كبار أحبارنا, تباركت ذكراهم".

[2] للمزيد من الإيضاح انظر شرح بشارة لوقا على صحيفتي 94 و95

  • عدد الزيارات: 8615