موت المسيح على الصليب
الإنجيل حسب يوحنا 19: 23-42
من البديهي أن يرغب الإنسان في قرارة قلبه بأن يفهم أمور الحياة التي يحياها. وعلاوة على ذلك، يحاول الإنسان أن يفهم المواضيع التاريخية التي كان لها تأثير كبير على حياة البشرية منذ فجر التاريخ. مثلاً إن تفحصنا تاريخ الشعوب نلاحظ أن البعض عوملوا بطريقة تخالف قوانين العدل والاستقامة. مثلاً حوكم سقراط متهماً بجريمة إفساد عقول الجيل الناشئ وأعطي سماً ليقضي على حياته مع أنه كان من أعظم مفكري وفلاسفة الإغريق. فإن حاولنا أن نفهم قضيته قد نأتي ببعض التفاسير التي تشرح لنا ما حدث له وفيما إذا كان من الممكن له بأن يتجنب ذلك الموت المريع. ولكن الحقيقة التاريخية الناصعة هي أن سقراط مات كضحية لتعنُّت وتزمُّت معاصريه ولعدم انفتاحهم لرؤية حياتية مختلفة عن تلك التي كانوا يتعلقون بها. نحن مهما جاهدنا لن نفلح في تغيير الماضي ولذلك يجدر بنا أن نقبل حوادث التاريخ كما جرت.
وهكذا عندما ندرس سيرة المسيح لا بد لنا من المجيء إلى اليوم الذي صلب فيه خارج أسوار المدينة المقدسة. وكنا قد لاحظنا بأن محاكمة المسيح لم تجر بمقتضى الشريعة الموسوية التي كان رؤساء كهنة إسرائيل يخضعون لمبادئها. اتهموا المسيح بتهمة دينية مدعين بأنه له المجد جدف على الله عندما قال عن نفسه بأنه كان ابن الله. ولكنهم نظراً لعدم تمتعهم بالاستقلال لم يكونوا قادرين على تنفيذ حكم الإعدام بالسيد المسيح. فجاؤوا به إلى ممثل رومية وطلبوا منه أن يحكم على المسيح بالموت. لم يقبل بيلاطس تهمتهم الأولى التي كانت ذات صبغة دينية فادعوا بأن المسيح كان ينادي بالثورة على رومية لأنه كان يقول عن نفسه بأنه ملك اليهود. وعندما سمع بيلاطس بهذه التهمة، استجوب المسيح عن هذا الموضوع وفهم بأن الملكوت الذي كان المسيح ينادي به لم يكن ملكوتاً أرضياً أو دنيوياً بل سماوياً. لكن الوالي الروماني كان ضعيفاًً وخاف من حدوث شغب في القدس نظراً لاقتراب عيد الفصح. فاستسلم بيلاطس لرغبات زعماء اليهود الدينين وأمر بأن يصلب المسيح وأن يطلق سراح مجرم خطير كان اسمه باراباس.
نجابه هنا المعضلة التاريخية الكبرى: كيف سمح الله القدير وهو المسيطر على جميع مقدرات التاريخ بأن يعامل المسيح بهذه الطريقة الشائنة وبأن يقتل على الصليب؟ جاء المسيح من السماء إلى عالمنا هذا ليكفر عن خطايانا وذنوبنا وآثامنا ومعاصينا. ولم يكن موته على الصليب بمثابة فشل خطة الله أو برنامجه لعالمنا هذا. فمع أن كل ما قام به رؤساء الكهنة والكتبة للحصول على قرار إعدام المسيح صلباً كان مخالفاً للشريعة الموسوية وللقانون الروماني فإن الله جعل من هذه الأمور جزءاً لا يتجزأ من برنامجه لفداء العالم من براثن الشيطان ومن عبودية الخطية. لم تفاجئ حوادث الأسبوع الأخير في سيرة المسيح الله القدير، وكان أنبياء العهد القديم أو النظام القديم قد تنبأوا عنها. وصف الرسول يوحنا ما جرى للسيد المسيح في يوم الجمعة العظيمة:
أما الجند فلما صلبوا يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل جندي قسم. وأخذوا القميص أيضاً وكان القميص بدون خياطة منسوجاً كله من فوق إلى أسفل. فقال بعضهم لبعض: لا نشقه بل لنقترع عليه، لمن يكون. ليتم الكتاب الذي قال: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى ثوبي ألقوا قرعة. هذا ما فعله الجند.
نلاحظ أن الكتاب المقدس أتى على ذكر تفاصيل الحوادث التي جرت حول الصليب. وهذا يدل بصورة قاطعة أن موضوع صلب المسيح كان معروفاً لدى أنبياء الله في أيام ما قبل الميلاد. لا يعني ذلك أن الذين طلبوا موت المسيح وألحوا على الوالي الروماني بأن يصلب الناصري أصبحوا بلا ذنب. كلا، ما أعنيه هو أن صلب المسيح لم يكن موضوعاً فجائياً جرى بدون أن يكون قد ذكر في أسفار الوحي في أيام ما قبل الميلاد.
لم ينس السيد المسيح له المجد وهو مسمَّر على خشبة الصليب والذي كان يشعر بآلام رهيبة لا تطاق، لم ينس أمه الحنونة بل كما كتب الرسول يوحنا:
وكانت أم يسوع وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية واقفات عند صليبه. فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي يحبه واقفاً بالقرب قال لأمه: يا امرأة هوذا ابنك! ثم قال للتلميذ: هذه أمك! ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى بيته الخاص.
واستطرد يوحنا الرسول واصفاً لنا ما حدث على خشبة الصليب:
وبعد هذا إذ رأى يسوع أن كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال: أنا عطشان. وكان إناء موضوع هناك مملوءاً خلاً، فوضعوا إسفنجة مملوءة خلاً على زوفا وأدنوها من فمه. فلما أخذ يسوع الخل قال: لقد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح.
حفظت لنا في نص الإنجيل هذه الكلمات ذات الأهمية العظمى. ورأى المسيح يسوع أن كل شيء قد كمل أي أن تدبير الله لفداء العالم قد تم وكان على وشك بأن يصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأرض المقدسة، بل من تاريخ البشرية جمعاء. فكانت كلمات المسيح الأخيرة قبل موته على الصليب: لقد أكمل! لقد تمت جميع نبوات أسفار العهد القديم عن تدبير الله الخلاصي لصالح البشرية المعذبة. جميع رموز وشعائر العبادة التي كانت تجري في الهيكل المقدس تمت أيضاً في حياة وموت المسيح على الصليب. قال المسيح: لقد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح.
ونتعلم أيضاً من النص الكتابي أن الذين طلبوا موت المسيح على الصليب كانوا متدينين للغاية ولكن تدينهم كان سطحياً. فمن جهة لم يتأخروا عن طلب إعدام إنسان بريء مظهرين بذلك قساوة قلوبهم، ومن جهة أخرى أظهروا تشبثهم بأهداب الشريعة الموسوية:
وإذ كان يوم الاستعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب (أي أجساد المسيح واللصين اللذين صلبا معه) في السبت –فإن ذلك السبت كان يوماً عظيماً- سأل اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا من هناك. فجاء الجند وكسروا ساقي الأول والآخر اللذين صلبا معه. أما يسوع فلما انتهوا إليه ورأوا أنه قد مات، لم يكسروا ساقيه. لكن واحداً من الجند طعن جنبه بحربه فخرج للحال دم وماء (أي أن جسد المسيح كان بالفعل قد أظهر دلائل الموت). والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم أنه يقول الحق لكي تؤمنوا أنتم أيضاً. فإن هذا ما جرى ليتم الكتاب الذي قال: إنه لا يكسر عظم منه. ويقول أيضاً كتاب آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه!
ثم إن يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ ليسوع ولكن خفية خوفاً من اليهود، طلب إلى بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع. فأذن له بيلاطس. فجاء وأخذ جسده. وأقبل أيضاً نيقوديمس الذي كان قد جاء إلى يسوع ليلاً أول مرة، وأحضر مزيجاً من المر والعود نحو مئة رطل. فأخذا جسد يسوع ولفاه في لفائف كتان مع الأطياب على حسب عادة اليهود في الدفن. وكان الموضع الذي صلب فيه بستان وفي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط. وإذ كان هذا يوم استعداد اليهود وكان القبر قريباً، وضعا يسوع هناك.
وهكذا فإننا عندما نتأمل في سيرة السيد المسيح ونصل إلى الأسبوع الأخير من حياته على الأرض نصاب بصدمة هائلة عندما نقف على تسليمه إلى أيدي أعدائه والحكم عليه بالموت من قبل والٍ روماني والمجيء به إلى أكمة الجمجمة خارج أسوار القدس حيث صلب مع مجرمين. وتزداد حيرتنا عندا نقرأ في الإنجيل المقدس بأن المسيح مات على الصليب وأنه دفن في قبر منحوت كان قريبا ً من مكان الصلب. كيف يمكن لذلك أن يتم والله هو المسيطر على التاريخ؟ أيمكن لمسيح الله أن يموت أو يقتل وهو في عامه الثالث والثلاثين؟
تزداد حيرتنا وتكبر دهشتنا عندما نتأمل في موضوع موت المسيح على الصليب ولكننا إذا وضعنا هذه الحوادث التاريخية ضمن إطار الوحي الإلهي الكامل كما قام بذلك الرسول يوحنا في نص الإنجيل، نرى أن كل ما جرى للمسيح تم بمقتضى علم الله السابق وتدبيره العجيب. مات المسيح عنا مكفِّراً عن خطايانا العديدة، وكان ملماً في جميع أيام حياته بأن الموت ينتظره، أي الموت على الصليب. وكان السيد له المجد قد علَّم في بدء سيرته أهمية موته الكفاري عندما قال لنيقوديمس وهو أحد رجال الدين اليهود الذي كان قد جاء لمقابلته تحت جناح الظلام:
وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فإنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فإن الله لم يرسل الابن إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم. فمن يؤمن به لا يدان ومن لا يؤمن فقد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. آمين
- عدد الزيارات: 15785