شكوى المؤمن -1
النص الكتابي: أيوب 10
كيف نصف تاريخ البشرية , القديم , القديم والحديث المعاصر؟ هل هو عبارة عن تقدم مستمر في حقول العلم والفلسفة والاختراعات؟ أم عل هو سلسلة فوجع انقضت على الملايين من بني البشر في شتى أنحاء دنيانا؟
لست أود الظهور بمظهر المتشائم الذي ليرى إلا المشكلات العديدة التي تنهمر على الناس. أنا ملم كل الإلمام بالتقدم الباهر في مختلف حقول العلم والمعرفة وال تكنولوجيا ذلك التقدم الذي أضاف عاملا مهما ومساعدا لحياة البشر في أيامنا هذه ولكني لا أستطيع أن أتجاهل حدة الآلام التي لحقت والتي لا تزال تلحق بعدد لا تحصى من أقراني بني البشر. كيف أفهم كل ما يجري في هذا العصر من مآسي وكوارث ضمن معتقدي الشامل الفائقة , أجد نفسي معاصرا لمعضلات فكرية عديدة اذ أجد صعوبة كبيرة في كيفية تفهم مجرى تاريخنا المعاصر ضمن اطارايماني ز أنا لست مستعدا بأن أتركا يماني بالله عاى حدة وأنا أجابه مشكلة الآلام والعذابات التي يقاسيها أناس اليوم في بقاع شتى من عالمنا المتصاغر.
لا بد أنك لاحظت أيها المستمع الكريم عبارة عالمنا المتصاغر التي تفوهت بها منذ برهة وجيزة. لم أعن أن مساحة عالمنا قد تقلصت جغرافيا. ما أعنيه بعبارة عالمنا المتصاغر هو أن دنيانا هذه أصبحت صغيرة جدا نظرا لطرق المواصلات والاتصالات التي ننعم بها , فمن البديهي أن كلا من الراديو والتلفزة قد أحدثا ثورة فكرية ذات أبعاد كبيرة. فعندما كان الناس ي العصور القديمة يتأئرون من جراء الحروب والمجاعات والزلازل التي كانت تلق بهم لم يدر بذلك سوى المتضررين أنفسهم. أما الآن فإننا نقف على ما يجري في أقاصي الأرض في نفس اليوم وإيانا في نفس الساعة التي تتم بها الداث الهامة. وعندما ترينا شاشة التلفزيون صورا مريعة لأطفال يتضورون جوعا أو لآخرين لاقوا حتفهم من جراء هذا الجوع تصاب أنفسنا بذهول. وما أن نعود إلى توازننا الفكري حتى تبدأ عقولنا تسال وتتساءل عن سبب زمعنى كل ما حدث وصار. إن كان الله قديرا ومسيطرا ومهيمنا على مقدرات دنياه , لماذا سمح ل هكذا أمور مخيفة بأن تحدث؟ ألم يكن بوسع القدير أن يمنع الحروب والمجاعات والكوارث التي تنهك جسم البشرية في هذه السنين الأخيرة من القرن العشرين؟
وكما ذكرت في أكثر من مناسبة في هذه السلسة الجديدة من عظات ساعة الإصلاح. لن أسعى للوصول إلى حل مشكلة الفكرية والروحية اتكالا على آراء بشرية محضة بل أبني أفكاري على الوحي الإلهي ولاسيما على ذلك الجزء الذي نتأمل فيه في المدة الأخيرة أي سفر أيوب الصديق.
عاش هذا الرجل في أيام ما قبل الميلاد وكان غنيا جدا وكان له سبعة بنين وثلاث بنات. وكان الشيطان واقفا له بالمرصاد فسمح الله له بأن يسلب أيوب ماله وأولاده وصحته. لم يرتد أيوب عن إيمانه بالله ولكنه جاهد بكل قواه الفكرية والروحية ليعلم لماذا صار له ما صار ولم يستفد من مجيء أصدقائه الثلاثة لتعزيته لأنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه بأن إنسان ا كأيوب وقد حلت به تلك الكوارث لا بد أن يكون قد استحقها لشر كان قد عمله.
عبر أيوب في الفصل العاشر عن أفكاره المتشبعة قائلا:
1[قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ. أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي 2قَائِلاً لِلَّهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! 3أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِمَ أَنْ تَرْذُلَ عَمَلَ يَدَيْكَ وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ الأَشْرَارِ؟ 4أَلَكَ عَيْنَا بَشَرٍ أَمْ كَنَظَرِ الإنسان تَنْظُرُ؟ 5أَأَيَّامُكَ كَأَيَّامِ الإنسان أَمْ سِنُوكَ كَأَيَّامِ الرَّجُلِ 6حَتَّى تَبْحَثَ عَنْ إِثْمِي وَتُفَتِّشَ عَلَى خَطِيَّتِي؟ 7فِي عِلْمِكَ أَنِّي لَسْتُ مُذْنِباً وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِكَ.
وكما ذكرنا في عظتنا السابقة كان أيوب متيقنا ببراءته. لم يعن أنه كان كاملا كل الكمال ولكنه لم يشعر ولم يلم بأي خطأ معين كان قد ارتكبه لتحل عليه كل تلك النوائب. واذ كان أيوب مؤمنا كل الإيمان بقدرة الله وسلطانه على كل ما يجري في العالم , أحس وكأن الله صار خصما له نظر أيوب إلى حالته من وجه نظر تبسيطي أحادية بمعنى أنه تأمل خصما له. بقدرة الله اللامحدودة. طبعا الله على كل شيء قدير ولكن قدرة الله لا تصف كل الصفات الله , فهو عادل ومحب ورحيم. لم يتأمل أيوب في جميع صفات الله التي ورد ذكرها في الوحي ولذلك تساءل أما م الله قائلا: أحسن عندك أن تظلم؟ ألك عينا بشر أم كنظر الإنسان تنظر؟
انتقل أيوب بعد كلماته هذه انتقل إلى التأمل في عمل الله الخالق والمحب لمخلوقاته فرفع كلماته هذه إلى الله قائلا:
[يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعاً. أَفَتَبْتَلِعُنِي؟ 9اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَالطِّينِ. أَفَتُعِيدُنِي إِلَى التُّرَابِ؟ 10أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ؟ 11كَسَوْتَنِي جِلْداً وَلَحْماً فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ. 12مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي. 13لَكِنَّكَ كَتَمْتَ هَذِهِ فِي قَلْبِكَ. عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عِنْدَكَ. 14إِنْ أَخْطَأْتُ تُلاَحِظُنِي وَلاَ تُبْرِئُنِي مِنْ إِثْمِي. 15إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي. وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي. إِنِّي شَبْعَانُ هَوَاناً وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي. 16وَإِنِ ارْتَفَعَ رَأْسِي تَصْطَادُنِي كَأَسَدٍ ثُمَّ تَعُودُ وَتَتَجَبَّرُ عَلَيَّ! 17تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. مَصَائِبُ وَجَيْشٌ ضِدِّي.
لم يسر أيوب وهو يواجه حالته اليائسة , لم يسر على طريق الإلحاد المعاصر المنكر لله في أيامنا هذه. تابع أيوب مسيرته الإيمانية بالرغم من كل الظلمات المحيطة به موجها تساؤلاته إلى خالفه. اعترف أيوب بأن الله هو باره وصانعه. لماذا ظهر القدير وكأنه على وشك بأن يبتلعه؟ يعيده إلى التراب؟ قال أيوب لله: منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي. يقر هذا الإنسان المعذب , يقر بصلاح الله ورحمته وعنايته التي تشمل كل أيام يأته , ولكنه لا يفهم لماذا ظهر الله وكأنه قد انقلب عليه وصار ضدا له , وكأن القدير لا يسر إلا بإشباع عبده مذلة وهوانا ! حلل أيوب كل تفاصيل حياته وتأمل في كل ما فعله وقام به ولم يتذكر أي شر عمله لتصل حياته إلى هذا الحضيض.
الله هو الخالق والمعتني بمخلوقاته العاقلة والغير عاقلة. هذا هو أساس الإيمان وهذا كان معتقد أيوب. وما أن شهد بهذه الحقيقة الجوهرية حتى عاد إلى التأمل في حالته التي يرثى لها والتي لم يجد أي مخرج منها حسب تصوره ولذلك أفلتت من فمه هذه الكلمات الشديدة اللهجة الموجة إلى الله. قال أيوب المتوجع والغارق في بحر الألغاز:
18[فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ الرَّحِمِ؟ كُنْتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرُّوحَ وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ! 19فَكُنْتُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ فَأُقَادَ مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْقَبْرِ. 20أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟ اتْرُكْ! كُفَّ عَنِّي فَأَبْتَسِمُ قَلِيلاً 21قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ وَلاَ أَعُودَ. إِلَى أَرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ 22أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ الْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ وَإِشْرَاقُهَا كَالدُّجَى].
قد نتعجب من كلمات أيوب الصديق قائلين: كيف يتفوه مؤمن بهكذا كلمات وكيف يرجو لو مات منذ ولادته؟ نحن لا نستطيع أن نسبر غور آلام وعذابات أيوب أو أي إنسان آخر أن عاش في العصور السالفة أو أن كان من معاصرينا أو من معارفنا. فعندما تشتد آلام الإنسان , نعم حتى يلام الإنسان المؤمن بالله , فانه يفكر بهكذا أفكار سوداء لا لأنه يكره الحياة , بل لأنه لا يرغب في استمرارية حياة هي اقرب من الموت منها من حياة صحيحة. وكما ذكرنا في الماضي , لم يكن الوحي الإلهي قد أعطي بشكل تام في أيام ما قبل الميلاد وخاصة تلك المواضيع المتعلقة بالحياة بعد الموت. انحصرت تصورات أيوب ومعاصريه في كون مصير الإنسان بعد الموت مصيرا مظلما.
وعلينا أن نذكر إننا لا لنا بعد في القسم الأول من هذا السفر الإلهي ولذلك يجدر بنا أن نتحلى بالصبر منتظرين العظات المقبلة التي سترينا إن الله أعاد لأيوب صحته وكل ما كان قد خسره معلما إياه وإيانا أهمية الصبر والاتكال التام والمطلق على الله. وكذلك يجدر بنا أن نذكر أن الله أكمل وحيه في أيام المسيح وأعطانا صورة أكمل عن الحياة الدنيا وما ينتظرنا في المستقبل بعد انتقالنا من هذه الديار الفانية إلى ديار النعيم على شرط أن نكون من المؤمنين.
ومما ورد في الإنجيل المقدس بخصوص موضوعنا هذه الكلمات التي تفوه بها المسيح عندما توفي لعاذر أخ مريم ومرتا: (إنجيل يوحنا):
17فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ. 18وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. 19وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. 20فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. 21فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. 22لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ». 23قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ». 24قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». 25قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا 26وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟» 27قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ».
إن نور الوحي الكامل الذي أشع على عالمنا بمجيء المسيح إلى العالم يعطينا فكرة واضحة عن ذلك المستقبل الباهر الذي ينتظر كل مؤمن ومؤمنة بالمسيح يسوع المسيح المخلص. هذا لا يعني أن المؤمنين لا يختبرون العذابات في هذه الدنيا , على العكس , كثيرا ما يتألمون وخاصة من أجل إيمانهم ولشهادتهم أمام الملأ أنهم قد اختبروا خلاص الله. لكنهم يتتابعون مسيرتهم الإيمانية متحلين بالصبر ومتيقنين بأن النصر حليفهم مهما تلبدت سماؤهم بالغيوم الحالكة. ساعدنا الله لنضع ثقتنا التامة بالمخلص المسيح الذي يمسك بيدنا هذه الأيام العصيبة التي نعيشها قائدا إيانا إلى شاطىء الأمان في نعيم الله. ومن آمن بالمسيح وان مات فسبحيا , آمين.
- عدد الزيارات: 3863