Skip to main content

كيف يتبرر الإنسان عند الله؟ -2

النص الكتابي: أيوب 9

عندما نلقي نظرة خاطفة على القرن العشرين نلاحظ تواً ظاهرة قوية جدا تميزه عن القرون الماضية ألا وهي انتشار نظرات حياتية أو إيديولوجيات دهري. وما أعنيه بكلمة دهرية هو ذلك المنظور الحياتي الذي يعطي دنيانا هذه الأهمية الكلية وكأنه ليس وجود لله ولا للعالم غير المنظور. وقد سيطرة هذه الفلسفات الحياتية على عقول وقلوب الملايين من الناس إلى أن ظهر إفلاسها المدقع في أوائل التسعينيات عندما لفظت أنفاسها في بقاع مختلفة من عالمنا. والإنسان  مهما غرق في بحر المادية يبقى مخلوقا صنعه الله على صورته وشبهه كما ورد في توراة موسى وهو لن يعرف السلام الحقيقي إلا متى عاد إلى ربه معترفا ببرنامجه الخلاصي.

ومن جراء انتشار الدهرية وخاصة في العالم الفكري وفي المؤلفات المتعددة التي ظهرت في أنحاء عديدة من دنيانا قل التفكير السليم بخصوص الله وتظاهر إنسان  اليوم وكأنه سيد حياته المنطق. وما أكثر العبارات التي يتلفظ بها البعض وهم يظهرون ازدراءهم بكل ما له علاقة بأمور الغيب أي بأمور ما فوق الطبيعة!وعندما يواجه الناس مشكلات ذات أبعاد هائلة كانتشار وباء الإيدز أو السيد أي مرض نقص المناعة المكتسب، لا يفكر العقل لدهري بالشريعة ألاهية التي تحرّم الخطايا الجنسية وتأمر بالطهارة والعفة. كل ما نسمعهن دعاة مكافحة هذا الطاعون المعاصر هو ضرورة اتخاذ بعض الاحتياطيات الوقائية أثناء ممارسة الجنس المحرم !

ولكننا ما أن نعود إلى الأخذ بأهمية النظرة الحياتية الإيمانية تواجهنا صعوبات عقائدية وعملية عديدة. فعندما نقر بالله وبسيطرته على جميع مقدرات العالم، نجابه معضلة الشر والآلام التي تقض مضجع البشرية منذ فجر التاريخ. كيف يمكننا أن نفهم وجود هذه الأمور المحزنة في عالم خلقه الله القدوس؟ وتزداد حدة مشكلتنا عندما تنقض النوائب و الكوارث على خائفي الله والمتعبدين له. ونحن نبحث في هذا الموضوع الهام لا من وجهة نظر فلسفة بشرية معينة بل بناء على تعاليم الوحي الإلهي. وهكذا نعود إلى دراستنا لسفر أيوب الصديق. عاش هذا الرجل الشهم في القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية قبل مئات السنين من أيام المسيح.وكان الله قد منّ عليه بالخيرات العديدة ووهبه سبعة بنين وثلاث بنات.

ادعى الشيطان بأن أيوب كان يتقي الله نظرا للخيرات الزمنية التي استلمها من ربه. فظهر أمام عرش الله قائلا: هل مجانا يتقى أيوب الله؟ أليس انك سيجت حوله وحول بيته وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمل يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن أبسط الآن ومس كل ما لديه فانه يجدف عليك.

سمح الله للشيطان بأن يسلب أيوب ثروته وبنيه وبناته وكذلك صحته إذ ضرب الشيطان أيوب بمرض خبيث يشبه داء البرص. جاء أصحاب أيوب من أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية لمواساته وتعزيته ولمنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه وصاروا ينتقدونه انتقادا مرا. وكان رأيهم أن الإنسان  المعذب لابد أن يكون قد استحق ما صار له وما عليه إلا أن يتوب عن غيّه طالبا الرحمة من الله. لم يقبل أيوب هذا التحليل التبسيطي لمشكلة الآلام والعذابات بل ثابر على شهادته بأنه لم يعمل أي شيء خاص لتنهمر عليه هذه الويلات. وكانت مشكلة أيوب العقائدية هي أن أصحابه الثلاثة تكلموا بأنصاف الحقائق لا بالحقيقة بأسرها نظرا لأنهم كانوا يتكلمون على اجتهادا تهم الخاصة لا على الوحي الإلهي الذي ينجي الإنسان  من التفكير الخاطئ.

 ومما قاله أيوب في الفصل التاسع من سفره وأجابه على وعظ بلدد الوحشي:

2[صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا. فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإنسان  عِنْدَ اللهِ؟ 3إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ. 4هُوَ حَكِيمُ الْقَلْبِ وَشَدِيدُ الْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ 5الْمُزَحْزِحُ الْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ. الَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ 6الْمُزَعْزِعُ الأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا 7الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ. 8الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ. 9صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ. 10فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ.

أقر أيوب الصديق بكلماته هذه، أقر بأن هناك هون شاسع بين الإنسان  والله. فعندما يقف الإنسان  أمام الله كيف يستطيع أن يتبرر أي أن يعد نفسه بارا وخاليا من كل خطيئة أو إثم أو معصية؟ والوصف الشعري الذي وهبنا إياه أيوب لقوة الله وجبروته وتعاليه على دنيانا هذه يعد من أروع ما كتب في تاريخ البشرية. ونحن أهل القسم الأخير من القرن العشرين، نحن الذين بهرنا من كثرة الاختراعات البشرية، علينا أن نتذكر أنه مهما تفنن الإنسان  في مبتكراته إلا أنها كلا شيء بالنسبة لما قام به الله في عمل الخليقة وفي ما يقوم به في كل يوم بل في كل لحظة في اعتنائه بأمور هذا الكون الشاسع الذي يعج بالملايين من النجوم الهائلة الأحجام.

ولم يكتف أيوب بالكلام عن قوة الله الظاهرة في أرضنا وفيما يحيط بها من أفلاك وسيارات بل ذهب إلى الكلام عن موقف الإنسان  المؤمن من الله باريه فقال:

11[هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ. 12إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ 13اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ. 14كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ. 15لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي. 16لَوْ دَعَوْتُ فَاسْتَجَابَ لِي لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي. 17ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ. 18لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي وَلَكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ. 19إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ يَقُولُ: هَئَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ 20إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي؟ وَإِنْ كُنْتُ كَامِلاً يَسْتَذْنِبُنِي.

شهد أيوب بكلماته هذه، شهد بأنه كان كل شيء عندما تأمل في قدرة الله وعظمته وحكمته التي لايمكن للعقل البشري بأن يتفهمها بصورة تامة. وبكلمة مختصرة: ما إن وقف أيوب أمام الله وتأمل في صفاته الكاملة حتى أقر واعترف بأنه لا يقدر أن يتجادل مع الله أو يطلب من القدير أن يقدم حسابا له على كل ما يجري ويتم في دنيانا هذه. لا يتبرر الإنسان  أمام الله بناء على بره المزعوم. كان أيوب يشعر كل الشعور بأنه لم يكن كاملا، لكنه في نفس الوقت لم يكن ملما بأي شر أو معصية أو إثم كان قد ارتكبه لتنهال عليه الويلات من كل حدب وصوب. فما إن انتهى من تأملاته في عظمة الله ومجده حتى نظر إلى نفسه وأخذ يندب أيامه المليئة بالأتراح فقال:

21[كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي. 22هِيَ وَاحِدَةٌ. لِذَلِكَ قُلْتُ إِنَّ الْكَامِلَ وَالشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا. 23إِذَا قَتَلَ السَّوْطُ بَغْتَةً يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ الأَبْرِيَاءِ. 24الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ. يُغَشِّي وُجُوهَ قُضَاتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَإِذاً مَنْ؟ 25أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ تَفِرُّ وَلاَ تَرَى خَيْراً. 26تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ الْبَرْدِيِّ. كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى صَيْدِهِ. 27إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي. أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَبْتَسِمُ 28أَخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي عَالِماً أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي. 29أَنَا مُسْتَذْنَبٌ فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثاً؟ 30وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالأَشْنَانِ 31فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي. 32لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إنسان اً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. 33لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! 34لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. 35إِذاً أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ. لأَنِّي لَسْتُ هَكَذَا عِنْدَ نَفْسِي.

لم ينكر أيوب، لم ينكر أنه كان بحاجة ماسة إلى رحمة الله وغفرانه. لكن مشكلته تمحورت في عدم مقدرته على فهم قضاء الله في هذا العالم. إذ كثيرا ما ظهر له أن الله يعامل الكامل والشرير وكأنه لا فرق بينهما. وهنا كلمة كامل تعني الكمال النسبي، لا الكمال المطلق، الكمال الذي يحصل عليه المؤمن المتعلق بالله وبكلمته الخلاصية. وإذ ثابر أيوب الصديق على

يضع يده عليه وعلى الله. عبرت هذه الكلمات عما كانت تصبو إليه نفس أيوب المعذبة. ياليت هناك وسيط بين الله والإنسان  ليساعده على الحصول على الغفران التام وعلى فهم بعض أسرار وألغاز الحياة الدنيا !

وما كانت تصبو إليه نفس أيوب وغيره من أتقياء أيام ما قبل الميلاد صار حقيقة واقعة عندما وفد عالمنا هذا يسوع المسيح مرسل الله الذي أتم خلاصنا بموته على الصليب وبقيامته من بين الاموات. وعندما نتأمل في هذا العالم الخلاصي الفريد نصفه أيضا كعمل الوسيط الذي عينه الله ليصالحنا معه. لأن كل بشري هو ملوث بالخطيئة الموروثة عن معصية آدم وبحاجة إلى التخلص منها. وفر هذا الموضوع كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلا:

11وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. 12وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً. 13لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، 14فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ! 15وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ - إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ - يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ.

فما تمناه أيوب منذ آلاف السنين تم في حياة المسيح وموته وقيامته من بين الاموات وأصبح بذلك وسيطا لعهد أفضل ! وإذ نحيا نحن بعد نحو ألفي سنة من تتميم مواعيد الله في المسيح يسوع، نذهب إلى وسيطنا وشفيعنا الوحيد في كل مناسبة ولا سيما عندما تمر حياتنا بمشكلات عديدة لا نرى مخرجا منها. لسنا إذن وحيدين في دنيا الآلام و العذابات بل يأتي المسيح إلى نجدتنا متى أمنا به و يمكننا من تكميل مسيرتنا الإيمانية حتى نصل إلى شاطئ الأبدية فننعم آنئذ بالسلام التام في حضرة الله، آمين.

  • عدد الزيارات: 4275