ما هو السبب؟ -1
النص الكتابي: أيوب 8
عندما تنهمر المتاعب على الإنسان وصار ينوء تحت حملها يجابه تواً موضوعين رئيسيين:
1: كيفية مجابهة هذه المصاعب والتغلّب عليها أو تخطيطها للمثابرة على مسيرته الحياتية. هذا أمر هام لا يستطيع المعذّب أن يتركه ليوم آخر. وفيما هو يعمل جهده للوصول إلى حل معقول يكون مفكراً في نفس الوقت بموضوع آخر ليس أقل أهمية من الموضوع الأول وهو:
2: ما هو السبب الذي يكمن وراء كل ما صار وحدث له؟ وبكلمة أخرى لماذا حلّت به هذه النوائب؟ وإن كان هذا الإنسان مؤمناً بالله وسائراً على طريقه المستقيم تكبر مشكلته لأنه إذ ذاك لا يستطيع أن يفهم كيف سمح الله القدير سمح لهذه الأمور المحزنة بأن تنقض على خائفه انقضاض الصاعقة؟
وليست هذه أسئلة نظرية بل تنبعث من معترك الحياة اليومية التي يحياها خائفو الله والسائرون على طريقه القويم. وكما ذكرت في عظة سابقة، تردني رسائل من مستمعينا الأعزاء يشاركون فيها بمشكلاتهم الحياتية الحادة. عبؤهم ثقيل وهم يعملون للتخلّص منه ويتوقون من قرارة قلوبهم للوصول إلى فهم سبب متاعبهم ومصاعبهم.
ونظراً لأهمية هذه الموضوع أعطانا الله كتاباً مقدّساً ضمن أسفار العهد القديم حيث تبحث فيه مشكلة العذابات والآلام التي تحل ببني البشر. وهذا هو سفر أيوب الذي هو جزء من كتب الوحي التي أعطانا إياها الله في أيام ما قبل الميلاد. وكنا قد ابتدأنا منذ بضعة أسابيع في البحث في تعاليم هذا السفر راجين بأن تؤول هذه العظات لتقوية إيماننا ولتعزيتنا في هذه الأيام العصيبة التي نمرّ بها في لأواخر القرن العشرين.
وبما أن بعض المستمعين الكرام لم يسمعوا هذه العظات من أولها نعود إلى ذكر بعض الأمور الهامة التي تعلّمناها من الفصول السبعة الأولى من سفر أيوب الصديق. عاش هذا الإنسان في أيام ما قبل الميلاد في القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية وكان من أغنى رجال المشرق. وقد وهبه الله سبعة بنين وثلاث بنات وكانت حياته حياة رغيدة ولم يسمح لثروته بأن تصبح عائقاً بينه وبين ربه وإلهه بل كان يتعبد لله. وفي كل أسبوع كان يقدّم محرقات لله عن بنيه وبناته قائلاً: ربما أخطئ بنيّ وجدّفوا على الله في قلوبهم. هكذا كان يفعل أيوب كل الأيام.
لكن الشيطان عدوّ الله والإنسان ، كان واقفاً لأيوب بالمرصاد. مثل في أحد الأيام أمام عرش الله واشتكى على أيوب قائلاً: "هل مجاناً يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيّجتَ حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية؟ ولكن ابسط الآن يدَكَ ومسَّ كل ما له فإنه في وجهك يجدّف عليك."
سمح الله للشيطان بأن يسلب أيوب ماله وبنيه وبناته وفي النهاية سمح الله بأن يسلب الشرير صحة أيوب فصار هذا الأخير مصاباً بداء البرص.ومهما صار لأيوب فإنه لم ينكر الله ولم يتفوّه في بادئ الأمر بأية كلمة سلبية.
جاء أصحاب أيوب لتعزيته وكان لسان حالهم أن الإنسان يتعذّب في هذه الدنيا بمقدار الآثام والمعاصي والشرور التي كان قد ارتكبها. هذه كانت نقطة انطلاق تفكيرهم. وهكذا ما رأوا أيوب في حالته التعيسة حتى هالهم الأمر وجلسوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليال صامتين بدون أن يتفوّهوا بكلمة واحدة. وبعد أن تكلّم أيوب عن مصيبته وذكر عدم فهمه لكل ما صار له أخذ أصدقاؤه الثلاثة، أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماتي، أخذوا يوجهّون إليه الانتقادات اللاذعة لأنهم، حسب منظورهم الحياتي، حكموا على أيوب مسبّقاً مستنتجين بأنه كان مذنباً وإلا لما لحق به ما لحق ولما انهالت عليه الكوارث من كل حدب وصوب. طبعاً كان أيوب يجهل الدور الهام الذي لعبه الشيطان في مصائبه وكذلك تجاهل أصحاب أيوب الثلاثة استقامة أيوب وأكدّوا بأن سبب عذاباته كان في أيوب نفسه. وبعد أن دافع أيوب عن نفسه في الفصل السابع جاء دور رفيقه بلدد فقال له مؤنباً:
2[إِلَى مَتَى تَقُولُ هَذَا وَتَكُونُ أَقْوَالُكَ رِيحاً شَدِيدَةً! 3هَلِ اللهُ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ أَوِ الْقَدِيرُ يَعْكِسُ الْحَقَّ؟ 4إِذْ أَخْطَأَ إِلَيْهِ بَنُوكَ دَفَعَهُمْ إِلَى يَدِ مَعْصِيَتِهِمْ. 5فَإِنْ بَكَّرْتَ أَنْتَ إِلَى اللهِ وَتَضَرَّعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ - 6إِنْ كُنْتَ أَنْتَ زَكِيّاً مُسْتَقِيماً فَإِنَّهُ الآنَ يَتَنَبَّهُ لَكَ وَيُسْلِمُ مَسْكَنَ بِرِّكَ. 7وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدّاً.
كان أصحاب أيوب يتألمون في المصائب التي ألمّت به ويعلّلونها على أساس إنها حدثت نظراً لعمل شرير خاص اقترفه أبناء أيوب. عدّوا جميع احتجاجات أيوب وكأنها مجرّد كلمات فارغة، كريح شديدة ! كان منطق بلدد الشوّحي يسير على هذا النمط: مات بنو وبنات أيوب ميتة مريعة، إذن لا بد أنهم كانوا خطأة، أثمة، فجار. ولكن أيوب كان يعلم علم الأكيد أن أبناءه وبناته لم يكونوا عصاة متمرّدين على شريعة الله. كان منطق بلدد ورفيقه منطقاً خاطئاً لأن الإنسان لا يعاقب دوماً في هذه الدنيا بصورة متناسبة مع أخطائه ومعاصيه. يتعذّب العديدون من الأبرياء بدون سبب يدرونه. هذا هو اختبار العديدين من أناس الله الأتقياء.
وناشد بلدد أيوب بأن يبكّر متضرّعاً إلى القدير ليبعد عنه جميع هذه الشرير التي أحاقت به لكن هذه النصيحة لم تكن في محلّها لأن أيوب كان بالفعل يصلّي إلى الله ويدعو باسمه ويقدم الذبائح بصورة مستمرة ومنتظمة. وبكلمة أخرى لم يكن بحاجة إلى نصيحة بلدد وكأنه لم يكن عابداً لله بصورة مستقيمة. لم يفكر أيوب بأنه كان بغنى عن تعزية أصحابه ولكنه لم يكن بحاجة إلى محاضرات طويلة وعريضة عن كيفية التقرّب من الله ونيل رضاه.
تابع بلدد محاضرته ولم يكن موقفه من أيوب موقف الرفيق الذي يؤاسي رفيقه ويظهر تكاتفه معه في آلامه بل وجّه محاضرته بصورة فوقية مشدداً بصورة مستمرة على منطقه الخاطئ والملخّص بأن المعذّب لا بد أن يكون قد استحق ما وقع عليه من نوائب لأنه كان قد ارتكب معصية معيّنة. وجهة نظر بلدد كانت مبنية على أن تصفية الحسابات تتم بصورة جازمة في هذه الدنيا فقط ! وهكذا استمر قائلاً لأيوب المعذّب:
8[اِسْأَلِ الْقُرُونَ الأُولَى وَتَأَكَّدْ مَبَاحِثَ آبَائِهِمْ. 9لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ. 10فَهَلاَّ يُعْلِمُونَكَ. يَقُولُونَ لَكَ وَمِنْ قُلُوبِهِمْ يُخْرِجُونَ أَقْوَالاً قَائِلِينَ 11هَلْ يَنْمُو الْبَرْدِيُّ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْقَعِ أَوْ تَنْبُتُ الْحَلْفَاءُ بِلاَ مَاءٍ؟ 12وَهُوَ بَعْدُ فِي نَضَارَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ يَيْبَسُ قَبْلَ كُلِّ الْعُشْبِ. 13هَكَذَا سُبُلُ كُلِّ النَّاسِينَ اللهَ وَرَجَاءُ الْفَاجِرِ يَخِيبُ 14فَيَنْقَطِعُ اعْتِمَادُهُ وَمُتَّكَلُهُ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ! 15يَسْتَنِدُ إِلَى بَيْتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ. يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلاَ يَقُومُ. 16هُوَ رَطْبٌ تُجَاهَ الشَّمْسِ وَعَلَى جَنَّتِهِ تَنْبُتُ أَغْصَانُهُ. 17وَأُصُولُهُ مُشْتَبِكَةٌ فِي الرُّجْمَةِ فَتَرَى مَحَلَّ الْحِجَارَةِ. 18إِنِ اقْتَلَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ يَجْحَدُهُ قَائِلاً: مَا رَأَيْتُكَ. 19هَذَا هُوَ فَرَحُ طَرِيقِهِ وَمِنَ التُّرَابِ يَنْبُتُ آخَرُ.
ثابر بلدد على مهاجمة أيوب مستعيناً بأسلوب أدبيّ منمّق. فادعى بأنه غير ملمّ بأمور الحياة كما يجب ولذلك استشهد بحكمة القدماء طالباً
من أيوب أن يستجوب تلك الحكمة الموروثة عنهم ليرى من جديد أنه لابد أن يكون هناك سببا معينا لالآمه وعذاباته لقد استحقها أولاده لأنهم لابد من أن يكونوا المعصية. ولم تكن لدى بلدد أية قرينة تثبت تلك الجريمة المزعومة. لننسى شهود عيان ولنؤكد صحة فلسفة أصحاب أيوب المعذب يستحق عذابه لأنه هونتيجة حنمية لمعصية اقترفها المعذب. هذا التفكير الذي كان يدور في حلقة مفرغة كان تفكيرا عميقا إلا أن بلدد ورفيقه ردداه بصورة مستمرة. رجاء الفاجر يخيب. هذا أكيد , هذا صحيح , ولكن يا صاحبنا بلدد , لماذا قفزت من ذها القول الصائب إلى تأكيد بأن أولاد أيوب كانواقد نسوا الله أو تناسوه في حياتهم؟ ألا تظن بأن الحياة الدنيا مكتنفة بأسرا وألغاز لا يستطيع العقل البشري سبر غورها؟ لما لا تقر بمحدوديتك وتشهد بأن الحكمة لله وحده فقط؟ وأنهى بلدد محاضرته بكلام صحيح في جوهره ولكنه لم يكن منطبقا على حالة أيوب: [هُوَذَا اللهُ لاَ يَرْفُضُ الْكَامِلَ وَلاَ يَأْخُذُ بِيَدِ فَاعِلِي الشَّرِّ. 21عِنْدَمَا يَمْلَأُ فَمَكَ ضَحِكاً وَشَفَتَيْكَ هُتَافاً 22يَلْبِسُ مُبْغِضُوكَ خِزْياً. أَمَّا خَيْمَةُ الأَشْرَارِ فَلاَ تَكُونُ].
وهنا لا بد من تكرار ما ذكرناه منذ بدء هذه السلسة الجديدة من العظات المبينة على سفر أيوب: كان أفق أيوب منحصرا فيما كان الله قد أوحى به في تللك الأيام أي أن أمور الحياة الآتية لم تكن واضحة. ولذلك كان قديسو أيام ما قبل الميلاد أي أيام النظام القديم , كانوا يقفون حائرين تجاه معضلات الحياة الدنيا والمصائب التي تلم بالمؤمنين والمؤمنات. ناضل أيوب وغيره من رجالات تلك الأيام ناضلوا نضالا شديدا ليحلوا مشكلة العذاب والآلام وحفظت لنا أقوالهم وثمار نضالهم الروحي ضمن الأسفار المقدسة. ونحن الذين من علينا الله أن نعيش في ايام ما بعد الميلاد , فانه تعالى منحنا بأن نستفيد من الضوء الوضاح الذي وفد عالمنا بمجيء المسيح يسوع إلى عالمنا لتنفيذ تدبيره أو برنامجه الخلاصي. قد تم ذلك في آلامه و موته
الكفاري وقيامته من بين الاموات.هذا ليعني أن وطأة المصائب في أيامنا هذههي أقل من أيام أيوب الصديق ولكننا نعلم أولا: أن المعذبين لم يكونوا قد استحقوا عقاباتهم بصورة أوتوملتيكية.كثيرا يسمح الله للابرياء بأن يتألموا.وثانيا يعد الله المؤمنين والمؤمنات بالخلاص التام في اليوم الأخير. وقد جاء هذا الوصف المعزي في آخر سفر من أسفار الوحي ,في سفر رؤيا يوحنا:
1ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. 2وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. 3وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ. 4وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». 5وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً». وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ». 6ثُمَّ قَالَ لِي: «قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّاناً. 7مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلَهاً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. 8وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي».
- عدد الزيارات: 4116