ما هو الإنسان ؟ -1
النص الكتابي: أيوب 7
لست أعلم فيما إذا كانت هذه المرة الأولى التي تستمع فيها إلى موعظة مبنية على سفر أيوب الصديق أم لا؟! لقد ابتدأت منذ بضعة أسابيع في سلسلة جديدة من عظات ساعة الإصلاح أبحث فيها عن التعاليم والعبر التي نستقيها من هذا الكتاب الذي أوحى به الله في أيام ما قبل الميلاد. على كل حال،إن كنت قد سمعتني أنادي بمحتويات سفر أيوب لأكثر من مرّة ربما قد تقول في نفسك: لماذا يستمر المذيع في الكلام عن مصائب أيوب من أسبوع إلى آخر؟ أليست هناك مواضيع أخرى تجلب للقلب السعادة والاطمئنان؟ لما الاستمرار في الكلام عن سيرة أحد رجال الله الذي عاش منذ آلاف من السنين والذي مني بمصائب قلما حلت بغيره من بني البشر؟
وجوابي على هذا السؤال وعلى ما يشابهه من أسئلة قد تخطر على بال المستمعين يقع في قسمين:
أولاً: شاء الله القدير وهو العليم باحتياجاتنا نحن بني البشر،شاء فأوحى بكتاب أو سفر كبير بحث فيه موضوع سرّ الآلام والعذابات التي تلحق بالمؤمنين السائرين على طريقه القويم. فإن كنت قد كرّست نفسي للمناداة بكلمة الله وإن قادني الله منذ مدة قصيرة إلى دراسة سفر أيوب وإذاعة عدّة عظات مبنية عليه، لا أظن أنني بحاجة للدفاع عن هذا القرار. الله أعلم مني ومنك باحتياجاتنا الروحية.
ثانياً: علّمتني اختباراتي الحياتية التي عاصرت قسماً كبيراً من القرن العشرين ومطالعاتي لتاريخنا الحديث والمعاصر في بلاد الشرق، علّمتني بأن حياة العديدين منا كانت محيطة بفواجع ذات أبعاد هائلة. وليس ذلك فقط بل يشاركني بعض المستمعين الأعزاء بهمومهم ومشكلاتهم الشخصية والعائلية والتي تطلعني بكل موضوعية أننا لا نحيا في عالم مفروش بالورود والرياحين، بل العديدون منا ذاقوا ولا يزالون يذوقون الأمرّين في دنيانا هذه. فإن كنت كمؤمن بالله وبسلطانه اللا محدود على التاريخ أجابه كل هذه التحديات والتساؤلات، يترتّب عليّ أن أحاول فهم سر الآلام لا بناء على فلسفات منبعها عقل الإنسان المحدود بل وحي الله المنير. هذا إذن ما قادني إلى البدء بتأملاتي في سفر أيوب والذي يحثّني على التعليق على فصوله العديدة.
ونظراً لأن بعض مستمعينا الكرام لم يسمعوا هذه البرامج من أولها فإنني أعيد ذكر بعض الأمور الهامة المختصة بأيوب الصديق. عاش هذا الرجل في القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية وكان الله قد أنعم عليه بثروة طائلة ومنحه سبعة بنين وثلاث بنات. ادعى الشيطان بأن تقوى أيوب كانت تعود إلى هذه النعم والبركات الزمنية التي نالها من الله وأن أيوب كان سيحود عن الإيمان فيما لو خسر هذه البركات. سمح الله للشيطان بأن يسلب أيوب ثروته وبنيه وبناته فلم يحد أيوب عن طريق الإيمان. وأخيراً ضرب الشيطان أيوب بمرض عضال يشبه البرص.
جاء رفاق أيوب لتعزيته ولكنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه مدّعين بأن أيوب كان مستحقاً لجميع تلك الضربات التي حلّت به. لم يقبل أيوب تعليل رفاقه لحالته الصعبة واستمر في تساؤلاته عن سبب كل الضربات التي حلّت به. قال في فاتحة الفصل السابع:
[أَلَيْسَتْ حَيَاةُ الإنسان جِهَاداً عَلَى الأَرْضِ وَكَأَيَّامِ الأَجِيرِ أَيَّامُهُ؟ 2كَمَا يَتَشَوَّقُ الْعَبْدُ إِلَى الظِّلِّ وَكَمَا يَتَرَجَّى الأَجِيرُ أُجْرَتَهُ 3هَكَذَا تَعَيَّنَ لِي أَشْهُرُ سُوءٍ وَلَيَالِي شَقَاءٍ قُسِمَتْ لِي. 4إِذَا اضْطَجَعْتُ أَقُولُ مَتَى أَقُومُ. اللَّيْلُ يَطُولُ وَأَشْبَعُ قَلَقاً حَتَّى الصُّبْحِ. 5لَبِسَ لَحْمِيَ الدُّودُ مَعَ الطِّينِ. جِلْدِي تَشَقَّقَ وَتَقَيَّحَ. 6أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنَ الْمَكُّوكِ وَتَنْتَهِي بِغَيْرِ رَجَاءٍ.
كانت حياة أيوب قبل انهمار المصائب على رأسه، كانت حياة سعيدة رغيدة رافقتها نوع من الروتينية الجميلة. أما الآن وقد اكفهرّ جوّ حياته وانهمرت عليه النوائب بشكل فجائي، صار ينظر على حياته من وجهة نظر الفقراء والمعدومين الذين يكافحون من أجل كسب قوتهم اليومي وهم لا يدرون ماذا يخبّىء لهم الغد من مصاعب وأتراح. حياة الإنسان حياة جهاد مستمر وكأن قد تعيّن له أشهر سوء وليال شقاء. ونظراً للآلام المبرحة التي كانت تصاحب مرض أيوب كان يترجى بأن يجلب له الليل الراحة، ولكن النوم كان يهرب منه فصار ليله طويلاً مشبعاً بالقلق، فانتظر الصبح لعلّله يجد فيها الخلاص. فما لبث أمله بأن ذهب أدراج الرياح. لأنه ما أم بزغ نور الصباح وأخذ يتأمل في جسده حتى هاله ما كان يشاهده ! أيامه كانت مسرعة بخطى وئيدة نحو الموت والاضمحلال.
وهنا نذكر أنه في أيام الوحي الأولى أي في أيام ما قبل الميلاد، لم يكن الله قد أعلن بعد وبصورة واضحة وجلية حقيقية القيامة التي تنتظر كل بشري في اليوم الأخير. علينا أن نأخذ هذه الحقيقة المستقاة من أسفار العهد القديم لنفهم فقدان الإشارة إلى عقيدة القيامة من بين الأموات. هذا لا يعني بأن المؤمنين والمؤمنات في أيام ما قبل الميلاد كانوا أقل إيماناً منا نحن الذين نعيش في أيام ما بعد الميلاد. ما أعنيه هو أننا إذ نعيش بعد نحو ألفي سنة من أيام السيد المسيح، لدينا كمال الوحي الإلهي في أسفار الإنجيل أو العهد الجديد ونعلم بأن مصير الإنسان ليس الاندثار والاضمحلال بل هناك قيامة، قيامة سعيدة للمؤمنين والمؤمنات وقيامة رهيبة للذين لم يتصالحوا مع الله.
تابع أيوب رثاء حياته قائلاً في القسم الثاني من الفصل السابع:
7[اُذْكُرْ أَنَّ حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ وَعَيْنِي لاَ تَعُودُ تَرَى خَيْراً. 8لاَ تَرَانِي عَيْنُ نَاظِرِي. عَيْنَاكَ عَلَيَّ وَلَسْتُ أَنَا! 9السَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ. هَكَذَا الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ. 10لاَ يَرْجِعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ. 11أَنَا أَيْضاً لاَ أَمْنَعُ فَمِي. أَتَكَلَّمُ بِضِيقِ رُوحِي. أَشْكُو بِمَرَارَةِ نَفْسِي. 12أَبَحْرٌ أَنَا أَمْ تِنِّينٌ حَتَّى جَعَلْتَ عَلَيَّ حَارِساً؟ 13إِنْ قُلْتُ: فِرَاشِي يُعَزِّينِي مَضْجَعِي يَنْزِعُ كُرْبَتِي 14تُرِيعُنِي بِالأَحْلاَمِ وَتُرْهِبُنِي بِرُؤًى 15فَاخْتَارَتْ نَفْسِي الْخَنْقَ وَالْمَوْتَ عَلَى عِظَامِي هَذِهِ. 16قَدْ ذُبْتُ. لاَ إِلَى الأَبَدِ أَحْيَا. كُفَّ عَنِّي لأَنَّ أَيَّامِي نَفْخَةٌ! 17مَا هُوَ الإنسان حَتَّى تَعْتَبِرَهُ وَحَتَّى تَضَعَ عَلَيْهِ قَلْبَكَ 18وَتَتَعَهَّدَهُ كُلَّ صَبَاحٍ وَكُلَّ لَحْظَةٍ تَمْتَحِنُهُ! 19حَتَّى مَتَى لاَ تَلْتَفِتُ عَنِّي وَلاَ تُرْخِينِي رَيْثَمَا أَبْلَعُ رِيقِي؟ 20أَأَخْطَأْتُ؟ مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ يَا رَقِيبَ النَّاسِ! لِمَاذَا جَعَلْتَنِي هَدَفاً لَكَ حَتَّى أَكُونَ عَلَى نَفْسِي حِمْلاً! 21وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي لأَنِّي الآنَ أَضْطَجِعُ فِي التُّرَابِ؟ تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ!].
مستمعي الكرام. ليست هذه الكلمات التي اقتبسناها كلمات إنسان غير مؤمن بالله. مشكلة أيوب هي أنه مع إيمانه بالقدير اختبر مصائباً قلّما حلّت ببشريّ. وإذ لم يكن ضوء الحي الكامل قد سطع في أيامه بخصوص القيامة عبّر عن أفكاره السوداء قائلاً: السحاب يضمحلّ ويزول، هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد، لا يرجع إلى بيته، ولا يعرفه مكانه بعد.
قد نتعجب من هذه الكلمات التي تفوّه بها أيوب قائلين: كيف تجرّأ على قول ذلك في حضرة الله؟ والجواب هو: لقد سمح الله له بأن يتكلم على تلك الطريقة لأن الله مهتم بنا نحن البشر ولا يعاملنا وكأننا أعداؤه بل يطلب خيرنا الزمني والأبدي. وكما ذكرت في أكثر من مناسبة لقد حفظت لنا هذه كلمات أيوب في سفر أو في كتاب مقدّس لنعلم أنه يجوز لنا أن نسأل ونتساءل بخصوص مشكلات الحياة ونوائبها بشرط أن نبقى على منصة الإيمان وننتظر من الله، لا من فلسفات البشر وآرائهم الواهية، العون والنجاة !
وإذ نعيش نحن في أيام اكتمال الوحي الإلهي ونظراً لأننا نتمتّع بالنور الوضاح الذي شعّ على عالمنا بمجيء المسيح يسوع إلى دنيانا وتتميمه للعمل الخلاصي الذي أنيط به وذلك بواسطة آلامه وموته وقيامته، فإننا ننظر إلى التعليم المتكامل بخصوص مسيرتنا في هذه الدنيا، ذلك التعليم الكائن على صفحات العهد الجديد، أي كتب الوحي التي أعطانا إياها الله في القرن الأول الميلادي. كتب الرسول بولس في القسم الأخير من رسالته الأولى إلى جماعة الإيمان في كورنثوس قائلاً:
20وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. 21فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإنسان بِإنسان أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. 22لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. 23وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ. 24وَبَعْدَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ لِلَّهِ الآبِ مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. 25لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. 26آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ.......
35لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟» 36يَا غَبِيُّ! الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ. 37وَالَّذِي تَزْرَعُهُ لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَحَدِ الْبَوَاقِي. 38وَلَكِنَّ اللهَ يُعْطِيهَا جِسْماً كَمَا أَرَادَ......
42هَكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. 43يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ......
ونظراً للقيامة السعيدة التي تنتظر المؤمنين والمؤمنات بالمسيح يسوع قال الرسول بولس: 57وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 58إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ.
آمين.
- عدد الزيارات: 4080