دنيا الشقاء -2
عندما هاجم الشيطان أيوب في جسده حلّ به مرض يشبه البرص فقالت له امرأته:
[أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ! جَدِّفْ عَلَى اللهِ وَمُتْ!] 10فَقَالَ لَهَا: [تَتَكَلَّمِينَ كَلاَماً كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟] فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ.
سمع أصحاب أيوب الثلاثة بكل ما حلّ به فجاؤوا ليرثوا له وليعزّوه: "وَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكُوا وَمَزَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ جُبَّتَهُ وَذَرُّوا تُرَاباً فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ لأَنَّهُمْ رَأُوا أَنَّ كَآبَتَهُ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدّاً".
لا يطلب منا الوحي الإلهي بأن نسكت تساؤلاتنا أو نخمد شعورنا بالإحباط والفشل تجاه نوائب الحياة. وتتعاظم مشكلتنا كمؤمنين بالله، تتعاظم لأننا نقر من جهة بسلطان الله على كل شيء ومن جهة أخرى لا نفهم لماذا سمح الله القدير بأن تنقض علينا فواجع الحياة، وتشتد المعركة الروحية التي نخوض غمارها ونحن نصارع الشرور المنصبّة علينا شاعرينا بوطأتها الشديدة وكأننا قد غرقنا في بحر الفشل . فتفلت من شفاهنا كلمات شديدة الوطأة . وهذا ما حدث لأيوب الصديق .
فبعد وصول رفاقه الثلاثة وصمتهم لمدة سبعة أيام وسبع ليال، لم يستطع أيوب بأن يكبت جماح أفكاره المكتظة بتساؤلات عديدة، فما كان منه إلا أن فتح فاه وسبّ يومه قائلاً :
3[لَيْتَهُ هَلَكَ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ وَاللَّيْلُ الَّذِي قَالَ قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ! 4لِيَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمُ ظَلاَماً. لاَ يَعْتَنِ بِهِ اللهُ مِنْ فَوْقُ وَلاَ يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ. 5لِيَمْلِكْهُ الظَّلاَمُ وَظِلُّ الْمَوْتِ. لِيَحُلَّ عَلَيْهِ سَحَابٌ. لِتُرْعِبْهُ كَاسِفَاتُ النَّهَارِ. 6أَمَّا ذَلِكَ اللَّيْلُ فَلْيُمْسِكْهُ الدُّجَى وَلاَ يَفْرَحْ بَيْنَ أَيَّامِ السَّنَةِ وَلاَ يَدْخُلَنَّ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ. 7هُوَذَا ذَلِكَ اللَّيْلُ لِيَكُنْ عَاقِراً! لاَ يُسْمَعْ فِيهِ هُتَافٌ. 8لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ. 9لِتُظْلِمْ نُجُومُ عِشَائِهِ. لِيَنْتَظِرِ النُّورَ وَلاَ يَكُنْ وَلاَ يَرَ هُدْبَ الصُّبْحِ 10لأَنَّهُ لَمْ يُغْلِقْ أَبْوَابَ بَطْنِ أُمِّي وَلَمْ يَسْتُرِ الشَّقَاوَةَ عَنْ عَيْنَيَّ.
تأمل أيوب في حياته بعد انقضاض كل الويلات عليه، بعد أن خسر أمواله وبنيه وبناته وصحته، تأمل فيما وصل إليه من شقاء وتعاسة وأخذ يندب حاله ويتمنّى لو لم تحبل به أمه ولو لم يولد. آه، يا ليت لم أوجد، هذا كان لسان حال أيوب . أما كان من المستحسن له لو لم يرى نور النهار ؟ هكذا أفكار وهكذا كلمات وفدت على الكثيرين من بني البشر، نعم حتى على الذين واللواتي يؤمنون بالله ويدينون بسلطانه على كل ما في الوجود .
أن يفكر الإنسان المؤمن بهكذا أفكار لأمر طبيعيّ بمعنى أن كل بشريّ وحتى المؤمن أيضاً، هو كائن يشعر بمحدوديته وبضعفه اللامتناهي تجاه نوائب الحياة . وتحت وطأتها تتشعب أفكاره ويبحث عن منفذ ليخرج منه ويتخلّص من آلامه المبرحة ومن تعاسته الهائلة، فيتمنى بالمستحيل : أي عدم وجود الموجود، فمجيئنا إلى هذه الدنيا ليس بأيدينا، ومع أن والدينا هم سبب ولادتنا إلا أن وراء ذلك تكمن الإرادة الإلهية التي شاءت بأن نولد ونحيا من زمن معين وفي مكان معيّن . لا ينفعنا التمادي في طلب المستحيل، ومع ذلك نجد أن أيوب الصديق تابع صراخه قائلاً:
11لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟ عِنْدَمَا خَرَجْتُ مِنَ الْبَطْنِ لِمَ لَمْ أُسْلِمِ الرُّوحَ؟ 12لِمَاذَا أَعَانَتْنِي الرُّكَبُ وَلِمَ الثُّدِيُّ حَتَّى أَرْضَعَ؟ 13لأَنِّي قَدْ كُنْتُ الآنَ مُضْطَجِعاً سَاكِناً. حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحاً 14مَعَ مُلُوكٍ وَمُشِيرِي الأَرْضِ الَّذِينَ بَنُوا أَهْرَاماً لأَنْفُسِهِمْ 15أَوْ مَعَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ ذَهَبٌ الْمَالِئِينَ بُيُوتَهُمْ فِضَّةً 16أَوْ كَسِقْطٍ مَطْمُورٍ فَلَمْ أَكُنْ كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرُوا نُوراً. 17هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغَبِ وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. 18الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعاً. لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. 19الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ.
عندما يكفهر جوّ الحياة فلا يرى الإنسان منفذاً للنجاة، تخطر على باله أفكار كالتي وردت على أيوب والتي تفوّه بها والتي حفظت لنا ضمن سفر الوحي . وهذا يعني أن الله القدير لا ينظر إلينا شذراً ولا يحتقر إنسانيتنا بل يسمح لنا بأن نتفوّه بهكذا أفكار لا لنغرق في بحر اليأس والقنوط بل لنصل في النهاية وبمعونته إلى طلب النجاة منه والركون إلى مشيئته المقدسة . ليس الفصل الثالث من سفر أيوب كل ما في هذا الكتاب بل علينا أن ننتظر حتى نصل إلى نهايته لنرى عاقبة هذا المناضل الشهم الذي لم ينتصر عليه الشيطان بل صار هو من الظافرين .
استمر أيوب في المقطع الأخير من الفصل الثالث من سفره متسائلاً عن جدوى الحياة في دنيا مليئة بالآلام والمشقّات:
[لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ وَحَيَاةٌ لِمُرِّي النَّفْسِ؟ 21الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ وَيَحْفُرُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكُنُوزِ 22الْمَسْرُورِينَ إِلَى أَنْ يَبْتَهِجُوا الْفَرِحِينَ عِنْدَمَا يَجِدُونَ قَبْراً. 23لِرَجُلٍ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ وَقَدْ سَيَّجَ اللهُ حَوْلَهُ. 24لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي 25لأَنِّي ارْتِعَاباً ارْتَعَبْتُ فَأَتَانِي وَالَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ. 26لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ وَقَدْ جَاءَ الْغَضَبُ].
ذكرنا في عظة سابقة أن أيوب عاش في أيام ما قبل الميلاد وفي القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية . تعذّب هذا الرجل المؤمن عذابات مريرة ليس فقط مما حدث له من نوائب بل لأن أصدقاءه الذين جاؤوا لتعزيته انقلبوا عليه وانتقدوه كما سنرى في عظاتنا المقبلة . وعلينا أن نتذكر بأننا نحيا في زمن اكتمال الوحي الإلهي، فقد وفد المسيح عالمنا ومات عنا مكفراً عن خطايانا وفتح لنا باب النعيم . وبكلمة أخرى، لقد منحنا الله كمال وحيه وأظهر لنا أهمية الحياة التي تنتظرنا بعد أن تنتهي مسيرتنا في هذه الدنيا . فعندما نواجه مشكلات الحياة المعاصرة علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الدروس التي نتعلّمها من سفر أيوب وكذلك من بقية أسفار الكتاب وخاصة من النور الوضّاح الذي يشع من شخصية المسيح يسوع ومن عمله الخلاصي، هذا لا يعني أن نكرر واقعية الآلام التي تصاحب كوارث الحياة الدنيا، بل نقول لأنفسنا ونشهد لمعاصرينا بأن النجاة تنتظرنا إذا ما ثابرنا على مسيرتنا الإيمانية . ولقد وضع الرسول بولس موضوع آلام الحياة ضمن الإطار الأوسع أي ضمن هذه الحياة والحياة التي ستظهر على أكملها متى عاد المسيح إلى عالمنا في اليوم الأخير فكتب في الفصل الثامن من رسالته إلى أهل الإيمان في رومية :
"18فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا. 19لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ. 20إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ - لَيْسَ طَوْعاً بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا - عَلَى الرَّجَاءِ. 21لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. 22فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. 23وَلَيْسَ هَكَذَا فَقَطْ بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. 24لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟ 25وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ."
آمين
- عدد الزيارات: 5450