Skip to main content

الدرس الأول

مقدمة عامة

عندما ابتدأنا بدراسة رسائل العهد الجديد لاحظنا أن الرسول بولس كتب أكثرها. وكذلك نلاحظ في قائمة أسفار العهد الجديد أن رسلاً آخرين كيعقوب ويوحنا وبطرس كتبوا بعض رسائل العهد الجديد. ولكن هناك رسالة واحدة لا نعرف من كتبها بالضبط وهذه هي "الرسالة إلى العبرانيين". ويمكن ملاحظة ذلك في كتابنا المقدس باللغة العربية، فمع أن بقية رسائل العهد الجديد تحمل أسماء كاتبيها إلا أن هذه معنونة فقط بكلمات ثلاث: الرسالة إلى العبرانيين. وقبل أن نستمر في بحثنا في أمور هذه الرسالة علينا أن نذكر أن الروح القدس الذي أوحى بمحتويات جميع أسفار الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا أثناء حقبة طويلة من الزمن شاء بأن يعطينا سفراً واحداً من أسفار العهد الجديد بدون أن نعرف كاتبه البشري. وكما أن الله كلم مستلمي هذه الرسالة في العصر الرسولي وأعطاهم تعليمات ذات أهمية كبيرة هكذا أنه تعالى يتكلم معنا في هذه الأيام وبواسطة هذه الرسالة. وغايتنا الرئيسية هي التعرف على محتويات كلمة الله لنعيش حسب مبادئها السامية ولنصل في النهاية إلى موطننا السماوي حيث سبقنا إليه جميع المؤمنين منذ فجر التاريخ ومن شتى الأمم والشعوب.

1. كاتب الرسالة: نجد اسم بولس الرسول في مطلع كل رسالة من رسائله الكنسية والشخصية لكننا لا نجد اسم كاتب هذه الرسالة لا في أولها ولا في آخرها ولا في أي جزء منها. وهكذا نحن لا نعرف من كتب هذه الرسالة ولكننا نعرف بالتأكيد أنها جزء لا يتجزأ من الكلمة الإلهية وهي لذلك ليست أقل قيمة من أسفار الكتاب الأخرى بالرغم من جهلنا لاسم كاتبها. وهنا نذكر باقتضـاب أن الكنيسـة المسيحية القديمة وخاصة في القسم الشرقي منها نظرت إلى الرسالة إلى العبرانيين وكأنها كتبت بواسطة بولس الرسول في العبرية وأن الطبيب لوقا نقلها إلى اليونانية. ولكننا نسرع إلى القول بأن ذلك لم يكن معتقد الكنيسة الرسمي ولكن رأى بعض معلميها المشهورين وخاصة في مدرسة الإسكندرية الشهيرة. وعلّم آخرون أن برنابا المذكور في سفر أعمال الرسل كتبها، واعتقد المصلح الشهير مارتن لوثر أن أبلّس المذكور أيضا في سفر الأعمال كتبها.ولكن من المستحسن أن لا نجزم في هذا الأمر ونكتفي بما نجده في عنوان الكتاب بلغتنا العربية وننظر إلى الرسالة لا رسالة هذا أو ذاك بل كالرسالة إلى العبرانيين.

2. مستلمو الرسالة: مع أن رسالتنا معنونة باسم الرسالة إلى العبرانيين إلا أننا نجهل بالتمام مكان إقامتهم بالضبط. فالبعض قال أن مستلمي هذه الرسالة كانوا من الذين اعتنقوا المسيحية وكانوا أصلاً من اليهود القاطنين في بلاد فلسطين، وآخرون ظنوا أن هؤلاء المؤمنين من أصل يهودي كانوا من سكان أنطاكية السورية أو أفسس في آسيا الصغرى أو الإسكندرية أو رومية. وهنا لا نقدر أن نجزم في هذا الموضوع بل نقول: كان مستلمو هذه الرسالة قد اعتنقوا ديانة المسيح بعد زيارتهم للأرض المقدسة وبعد رجوعهم إلى مكان إقامتهم خارج فلسطين تعرّضوا لخطر كبير وذلك هو الارتداد عن المسيحية والرجوع إلى اليهودية. فقد كانت موجة الاضطهاد تزداد وتكبر وكان المؤمنون في كل مكان يتعرضون لعنف شديد. وأخذ أعضاء هذه الكنيسة من أصل عبري يتساءلون فيما إذا كان اعتناقهم للمسيحية أمراً حسناً.

3. تاريخ كتابة الرسالة إلى العبرانيين: مع أننا لا نقدر أن نجزم في هذا الموضوع أيضا إلا أننا نميل إلى الاعتقاد بأنها كتبت بين عام 60 و 70 بعد الميلاد وأن خراب مدينة القدس لم يكن قد حدث و إلا فإن كاتب الرسالة لكان قد ذكر ذلك الأمر الهام أيضاً.

4. سبب كتابة الرسالة وخلاصة محتوياتها: كان كاتب الرسالة إلى العبرانيين على علم بالخطر المحدق بالمؤمنين من ناحية إيمانهم وثباتهم في الإنجيل. ويظهر أنهم كانوا قد فكروا بالارتداد عن المسيحية نظراً لعدم وجود مكانة ذات شأن لجماعة الإيمان في أرجاء إمبراطورية رومية الشاسعة. وهكذا أخذ الكاتب على عاتقه (بإلهام ووحي روح الله القدوس) الكتابة عن موضوع العهد الجديد الذي جاء المسيح لتنفيذه،ومقارنته بالعهد القديم الزائل.وكانت غايته ليس فقط إظهار الأمور المتشابهة بين العهدين بل أيضاً الفروق الكبيرة بينهما. فبينما كان الله في العهود السابقة يتكلم بواسطة الأنبياء مع شعبه ويعطيهم التعليمات المتعددة بخصوص حياتهم ومستقبلهم نرى أن الله تكلم أخيراً لا بواسطة أنبياء بل بواسطة ابنه الوحيد.وهذا الوحي هو نهائي وتام ولذلك لا يجدر بالمؤمنين أن يرجعوا إلى الوراء ويجدر بهم ألا يكتفوا بما أوحى به الله في أيام ما قبل المسيح حارمين أنفسهم من وحي الله التام. وكذلك يجدر بالمؤمنين أن يتأملوا في أمر ليس بأقل أهمية وهو موضوع الفداء. إن ديانة العهد القديم (أي أيام ما قبل المسيح) كانت ديانة طقوس ورموز وعلامات حسية وكانت تشير بأسرها إلى عمل كان سيتم في المستقبل،إلى عمل خلاص كان سيقوم به مسيح الرب. ولكن العهد الجديد لا يتكلم بواسطة رموز بل يشير إلى ما حدث في وسط العالم وفي ملء الزمن، إنه يشير إلى ما قام به السيد المسيح من عمل خلاصي وفدائي على صليب الجلجثة وبذلك تمم كل ما كانت ترمز وتشير إليه طقوس العهد القديم. وإن كان المؤمنون يتعجبون الآن لسبب عدم تأسيس ملكوت المسيح بشكل ظاهري ومجيد فعليهم أن يذكروا أن المسيح في مجيئه الأول إنما كان في حالة الإتضاع وأن ملكوته الآن ليس ظاهراً بشكل حسي ومجيد لأن ذلك لن يتم إلا متى عاد المخلص إلى العالم في اليوم الأخير. وكما تألم المسيح هكذا على المؤمنين أن لا يتهربوا من التألم في سبيله. وكذلك يجدر بنا نحن المؤمنين أن نتذكر أن الذين أرضوا الله في أيام العهد القديم كانوا رجال ونساء الإيمان. علينا أن نسير في هذه الحياة بواسطة الإيمان التام والمطلق بالله وبمواعيده التي ستتم في المستقبل. وهنا نعطي هذا التعريف الحي للإيمان. "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" (عبرانيين11: 1)

وكذلك يحذرنا كاتب هذه الرسالة من مغبة الارتداد أو الحياة بدون إيمان حي بالله وبكلمته المقدسة. فمع أن جميع بني اسرائيل رأوا خلاص الرب عندما أنقذهم من يد فرعون إلا أن أكثريتهم الساحقة ماتت في البرية ولم يدخلوا أرض الميعاد لأنهم عاشوا وماتوا بدون إيمان حي بالله. فإن كان الله قد عاقب غير المؤمنين في تلك الأيام بهذه الصورة وذلك بسبب موقفهم من وحيه الجزئي أفلا ينتظر من الله (الذي لا يتغير) أن يعاقب الذين يرتدون عن الإيمان بوحيه النهائي في المسيح ؟

  • عدد الزيارات: 5119