Skip to main content

محبة المسيح

كيف نصف عالمنا اليوم؟ هل هو في سلام ووئام؟ وماذا سيكون مستقبل البشرية ونحن نقترب بخطى وئيدة من نهاية القرن العشرين؟ تراودنا أفكار كثيرة ومبعثرة عندما نتأمل في حالتنا الحاضرة وقد صرنا عاجزين عن وصف عالمنا إذ تكاثرت فيه المشاكل البشرية وتشابكت إلى درجة لم تعرف في الماضي. وقد دبّ اليأس في قلوب الناس إذ نلاحظ هذه الظاهرة في بعض الكتابات النثرية منها والشعرية والتي يعرب فيها أصحابها عن قنوط تام وعن تشاؤم هائل بخصوص عالمنا.

كيف نصف عالمنا اليوم؟ يكمن جوابنا في النظرية الحياتية التي ندين بها. هل نحن كائنات نعيش على أرض لا تتحكم فيها إلا قوى بشرية؟ أم هل هناك من يشرف على أمور دنيانا ويسيّر دفّة التاريخ بمقتضى برنامج معيّن؟ إن كنا قد قبلنا النظرة الحياتية السائدة في كثير من أصقاع العالم والتي تصف العامل البشري وكأنه واقع وحداني برز إلى حيّز الوجود نظراً لقوّة عبثية, فإنه من البديهي أن يكون جوّنا الفكري ملبّداً بالغيوم السوداء. ونكون مضطرين آنئذ إلى التكهن عن مصير البشرية بناء على اختباراتنا في هذا القرن ولاسيما في القسم الثاني منه. وما نتعلّمه من حوادث التاريخ المعاصر هو أن الإنسان لا يعامل قرينه الإنسان بصورة إنسانية بل صار متفنّناً في طرق الاضطهاد والتنكيل بغيره من بني البشر.

ولكننا إذا تسلّحنا بإيماننا بالله القدير وأخذنا ننظر إلى التاريخ البشري القديم منه والحديث والمعاصر من منظور الوحي الإلهي تحرّرنا من نظرة تشاؤمية للمستقبل وصرنا عاملين على نشر خبر الله المفرح بأنه تعالى لم يترك عالمنا لمصير مخيف بل كان ولا يزال يعمل لإنقاذ الناس من شرورهم وآثامهم جاعلاً منهم أكثر إنسانية في معاملاتهم مع بعضهم البعض.

وهذه النظرة الحياتية تنبعث من الوحي الإلهي الوارد على صفحات رسالة بولس الرسول إلى جماعة الإيمان في مدينة أفسس الكائنة في آسيا الصغرى. كان بولس الرسول قد كرّس حياته للمناداة بالإنجيل في سائر بقاع المتوسّط. ولكن المناداة بالإنجيل وقبول المسيح يسوع كمخلّص من الخطية وكسيّد للحياة لا يعني أن مشكلات الحياة تختفي فجأة. من صار من أتباع المخلّص يعيش ضمن إطار حياتي من صنع الله والذي ينبئ بمجيء ذلك اليوم الذي يكمّل فيه الله جميع مواعيده التي أعطاها للمؤمنين به. ومع أن معضلات الحياة لا تختفي كما ذكرنا آنفاً, إلا أن المؤمن يعلم علم اليقين أن سياسة أمور الدنيا والهيمنة على تاريخ البشرية هي تحت سلطة الله المطلقة. هذا لا يعني أننا نكون قد ألغينا العامل البشريّ في التاريخ. ما نعنيه هو أنّ كل شيء في دنيانا يبقى ضمن نطاق سلطة الله وإن تمرّد الإنسان وثورته على النظام الإلهي لن يمنع القدير من تتميم برنامجه الإنقاذي والخلاصي لهذا العالم. يقوم الله بتتميم وتنفيذ برنامجه هذا من فرط محنتّه الفائقة لنا نحن البشر. على هذا الأساس نلاحظ أن الرسول بولس أنهى القسم الأول من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس (وهو القسم العقائدي) قائلاً:

لهذا السبب, أجثو على ركبتيّ أمام الآب, الذي منه تسمّى كل أسرة في السماوات وعلى الأرض, ليهب لكم بحسب غنى مجده, أن تتأيّدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن, ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم.

ضمن عالم مليء بالمشاكل والمعضلات, نادى الرسول بولس بكلمة الإنجيل أي بالخبر المفرح عن خلاص الله الذي أتمّه في المسيح يسوع, فآمن البعض وانضموا إلى جماعة الإيمان في أفسس. كان ذلك بمثابة الخطوة الأولى في مسيرتهم الإيمانية. وإذ كان الرسول قد أعلمهم عن غنى المسيح في القسم الأول من الفصل الثالث من رسالته, كان لا بد له من أن يتجه إلى الله القدير بدعاء حارّ ليهب الله المؤمنين والمؤمنات نعمه وبركاته التي كانت ستساعد أهل الإيمان للبلوغ إلى غايتهم. هبات الله هي مجانية ونعمه لا تعدّ ولا تحصى. ابتهل الرسول إلى ربه خالق الكون وباري البشر, بشتى أصنافهم وأوطانهم, ليهب المؤمنين بأن يتأيدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن ومعنى هذه العبارة هي أن يتسلح المؤمنون بروح الله القدوس في حياتهم الداخلية أي في باطنهم ليختبروا ما وعدهم به الله. وإذا قاموا بذلك يحلّ المسيح في قلوبهم بالإيمان. هذه الكلمات هامة للغاية, فهي لا تعلّم حلولاً تنعدم فيه الشخصية البشرية أو تصبح بدون إرادة خاصة بها. ذكر الرسول أن هذا الحلول يتمّ بواسطة الإيمان. أي أن حلقة الوصل بين المؤمن ومخلّصه المسيح هي الإيمان الذي يحفظ للمؤمن بتمام شخصيته وللمسيح يسوع بتمام أقنومه. ليس في هذا المفهوم الرسولي للحلول أي مجال لذوبان الشخصية البشرية في المسيح المخلّص!

تشير هذه الكلمات إذن إلى بدء علاقة روحية حيوية بين المخلّص والمؤمن, علاقة بدأت بالإيمان وتستمر بالإيمان وتكمل بالإيمان. وهذه العلاقة الروحية تنمو وتترعرع بصورة مستمرة. وتكلّم الرسول عن غايتها قائلاً:

حتى إذا ما تأصّلتم في المحبة وتأسّستم عليها, تستطيعون أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلّو والعمق, وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة, لكي تمتلئوا إلى ملء الله. وللقادر أن يصنع ما يفوق جداً كل ما نطلب أو نفتكر, بحسب القوة العاملة فينا, المجد في الكنيسة, وفي المسيح يسوع, إلى جميع أجيال أبد الدهور, آمين.

فحلول المسيح في قلوب المؤمنين والمؤمنات وبواسطة الروح القدس له غاية معيّنة ألا وهي أن يعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة! المحبة هي أساس ودافع الحياة, أي تلك المحبة النابعة من معرفة واختبار محبة المسيح لنا نحن البشر تلك المحبة التي تفوق المعرفة. فمهما حاولنا وجاهدنا لن نستطيع سبر غور المحبة اللانهائية التي بها أحبنا يسوع المسيح. لقد أحبنا المخلّص نحن بني البشر الذين أخطأنا ضد الله وكسرنا وصاياه وتعدّينا على شرائعه وأحكامه. فمع أننا كنا نستحق غضب الله وعقابه الأبدي, عاملنا الله معاملة تفوق تصوّراتنا عندما أرسل ابنه الوحيد إلى عالمنا ليموت عنّا مكفّراً عن جميع خطايانا وآثامنا ومعاصينا. يناشدنا الرسول بولس بأن نتأمل ملياً في محبة المسيح لنا لكي نمتلئ إلى ملء الله. وهذه العبارة تشبه ما ورد سابقاً عن حلول المسيح في قلوب وأفئدة المؤمنين والمؤمنات. لا يعني هذا الامتلاء إلى ملء الله ما علّمه بعض الفلاسفة والمجتهدين أي ذوبان الشخصية البشرية في الذات الإلهية. هكذا آراء بعيدة كل البعد عن تعاليم الكتاب المقدس التي تشدّد على وجود فارق جوهري وحدّ لا يخترق بين الذات الإلهية والذات البشرية المخلوقة. فما يعنيه الرسول هو أن تتحقق في حياة المؤمن تلك العلاقة الحيوية الإيمانية بين الله والذين اختبروا خلاصه الجبّار الذي تمّ في المسيح يسوع والذي ينادي به في خبر الإنجيل.

وبعد أن تفوّه الرسول بولس بهذه الكلمات الباهرة أنهى القسم الأول من رسالته ممجّداً الله الذي يمنح عباده وخائفيه فوق كل ما يحلمون به وقائلاً:

وللقادر أن يصنع ما يفوق جداً كل ما نطلب أو نفتكر, بحسب القوّة العاملة فينا, المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع, إلى جميع أجيال أبد الدهور, آمين.

  • عدد الزيارات: 5523