غنى المسيح
تشمل اهتمامات الإنسان المعاصر حقولاً عديدة من الحياة. وإذا ما تصفحّنا الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية نقف على أخبار تختص بالمؤتمرات والندوات التي تعقد للبحث في كيفية مواجهة تحدّيات العصر. ومن أهم ما نجابهه في عقد التسعينات هو موضوع البيئة وكيفية الحفاظ عليها والتغلّب على مشكلة التلوّث. لم يعط الناس أية أهمية لموضوع البيئة والتلوث في مطلع القرن العشرين. ولكننا الآن وقد تزايد عدد سكان الأرض بشكل لم يعرف له مثيل منذ فجر التاريخ وكثرت استعمالات الطاقة في عدة نواحي الحياة ولاسيما في المواصلات البرية والبحرية والجوية, صرنا نلاحظ تأثير التلوّث على الأرض بأسرها.
وكم تأسّفت لدى مطالعتي لبحث ورد فيه بأن البحر المتوسط هو أكثر بحار الدنيا تلوّثاً. ولقد قدّرت إحدى الجهات المسئولة بأن أزمة التلوّث في هذا البحر الجميل وصلت إلى درجة لا تطاق وذلك لأن كمية المواد الملوّثة التي تلقى في المتوسط تقارب 12 مليون طن في كل سنة!
وتابعت الأخبار عن خطر آخر يهدد جميع سكان الأرض ألا وهو وجود فجوة في غطاء الأوزون الذي يحيط بالكرة الأرضية والذي يحمينا من الإشعاعات الضارة. وما أعنيه هو أن الغاز المستعمل للتبريد قد سبّب الفجوة المذكورة فصارت أشعة الشمس فوق البنفسجية تخترق جوّنا وتسبّب أمراضاً خطيرة كسرطان بشرة الجسد.
ولست أود الاسترسال في إضافة تحدّيات أخرى نواجهها في العقد الأخير من القرن بل أود معالجة هذا الموضوع الحيوي الهام: هل البشر هم الوحيدون المهتمون بمصير أرضنا أم هل هناك من يهتك بنا ويعمل لخيرنا؟ وإذا ما تفحصنا ما يكتبه مفكّرون وعلماء عديدون لا بد لنا من الإقرار بأنهم ينظرون إلى عالمنا هذا كعالم خاضع للإنسان وللإنسان فقط. وبعبارة أخرى النظرة الحياتية الشاملة التي يدين بها الكثيرون من أقراننا بني البشر هي نظرة لا دينية بحتة لا مجال فيها لله ولا لبرنامجه الإنقاذي.
وعندما أنادي باتكالية عالمنا هذا على الله لا أكون ملغياً للدور الهام الذي يلعبه الإنسان في تسيير أمور عالمنا. فمن جراء تأثير الفلسفات الإلحادية المتعدّدة التي طغت على العالم الفكري, صار البعض يخالون بأن الإقرار بالله وبتيسيره لأمور العالم يتطلّب إلغاء الإنسان. هذه التهمة باطلة من أساسها. لا يلغي الله الإنسان الذي خلقه ومنحه السلطة بان يهيمن على العالم بطريقة رشيدة ومسؤولة. التفوه بهكذا آراء إنما يدل على مقدار ابتعاد الإنسان عن خالقه وتوغّله في دياجير الظلام. لا يهمل الله الإنسان بل يسعى لخيره منذ فجر التاريخ. فما أن ثار الإنسان الأول على صانعه حتى بادر الله بالكلام عن تدبيره الخلاصي العظيم الذي كان سيظهر بكل وضوح لدى مجيء المخلّص المسيح.
وما أن وفد المسيح عالمنا وأتمّ عمله الفدائي بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات حتى أرسل رسله للمناداة بالخبر السار المعروف أيضاً بالإنجيل. كان الله القدير قد صمّم على إنقاذ دنياه من براثن الشيطان حتى قبل إنشاء العالم. موضوع الخلاص إذن قديم ويسبق التاريخ البشري- بالنسبة لله.
ذهب بولس إلى البلاد المتوسطية ونادى بالخبر المفرح فآمن العديدون من أهل تلك البلاد بالمسيح وانضموا إلى عضوية جماعة الإيمان التي عرفت أيضاً باسم الكنيسة. ومن هذه الكنائس الفتية التي تأسست كانت كنيسة أفسس في إقليم آسيا الصغرى. وبعد أن ترك بولس ذلك الإقليم وتابع مسيرته الإنجيلية تعرّض لاضطهادات شديدة أدّت به إلى السجن. كتبت الرسالة إلى أفسس إبان سجنه من قبل السلطات الرومانية. وظن البعض من مؤمني أفسس أن حالة بولس هذه كانت تتعارض كلياً مع كونه رسولاً للمسيح وخادماً لله القدير. فكتب لهم بولس في فاتحة الفصل الثالث لتطمينهم على مصير الإنجيل وعن النصر النهائي الذي كان سيتمّمه انتشار الإنجيل في سائر أنحاء المعمورة.
لهذا السبب, أنا بولس, أسير المسيح يسوع من أجلكم قد سمعتم بتدبير نعمة الله التي وهبت لي لأجلكم. فإني بوحي أوتيت معرفة السرّ كما كتبت قبلاً بالإيجاز, ومنه إذا ما قرأتموه تقدرون أن تدركوا فهمي لسرّ المسيح. وهذا السر لم يعلن لبني البشر في أجيال أخرى, كما قد أعلن الآن بالروح لرسله القدّيسين وأنبيائه, أي أن الأمم بالإنجيل من أهل الميراث وأعضاء في الجسد وشركاء الموعد في المسيح يسوع, الذي صرت أنا خادماً له, بحسب موهبة نعمة الله التي أعطيت لي بعمل قدرته. فلقد أعطيت لي , أنا أصغر القديسين جميعاً, هذه النعمة أن أبشّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى, وأنير الجميع فيما هو تدبير السرّ المكتوم منذ الدهور في الله خالق كل شيء بيسوع المسيح. لكي تعلم الآن حكمة الله المتنوّعة لدى الرئاسات والسلطات في علياء السماوات بواسطة الكنيسة, بحسب القصد الأبدي الذي أجراه في المسيح يسوع ربّنا, الذي بإيماننا به لنا فيه جراءة وثقة في الاقتراب منه. فلذلك أطلب إليكم أن لا تيأسوا بسبب آلامي لأجلكم التي هي مجدكم.
كان الرسول قد أتى على ذكر تدبير الله الأزلي في فاتحة الرسالة ولكنه عاد الآن للكلام عن هذا الموضوع لتشجيع أهل الإيمان في أفسس وخاصة بعد سماعهم أن السلطات الرومانية كانت قد زجّته في السجن بدون سبب شرعي. فمع أهمية تفاصيل الحياة الدنيا التي يحياها المؤمنون والمؤمنات إلا أن مسيرة التاريخ ليست تحت سيطرة وهيمنة أعداء الله من شياطين وبشر. وبالرغم من كثرة المآسي والفواجع التي ألمّت ولا تزال تلّم بعالمنا هذا, إلا أنه يبقى تحت سلطة الله. والتاريخ بأسره سائر باتجاه ذلك اليوم العظيم, يوم إعلان نصر الله النهائي على سائر قوى الشرّ والظلام. وإلى أن يأتي ذلك اليوم, على سائر المؤمنين والمؤمنات, إن كانوا من أهل القرن الأول الميلادي أو من معاصرينا في أواخر القرن العشرين, أن يتحلّوا بالصبر ويكتسوا بالرجاء المنبعث من يقينهم بأن الله كان ولا يزال المسيطر على الموقف.
وكما ذكرنا في أكثر من مناسبة, انحصرت معرفة الله في أيام ما قبل المسيح في ذريّة إبراهيم من اسحق ويعقوب. كان ذلك الترتيب مرحلياً مقتصراً على أيام ما قبل الميلاد. وكان الله قد صمّم في أزمنة ما قبل التاريخ بأن يصبح شعبه من سائر الأقوام والأجناس بعد قدوم المسيح إلى عالمنا. لم يدر بهذا الموضوع بنو البشر ودعاه بولس سراً بمعنى أنه لم يكن أي بشري قادر على التكهّن به. أوحى الله بهذا الموضوع لعبيده الأنبياء والرسل. وكما قال الرسول بولس:
قد أعلن الآن بالروح لرسله القديسين وأنبيائه, أي أن الأمم بالإنجيل من أهل الميراث وأعضاء في الجسد وشركاء الموعد في المسيح يسوع.
فالسرّ الذي أوحى به الله لبولس ولغيره من الرسل والأنبياء هو أن الأمم, أي الشعوب المختلفة والغير منبثقة من صلب إبراهيم واسحق ويعقوب, هم من أهل الميراث أي الحصول عل تتميم مواعيد الله في حياتهم أي اختبار الخلاص العظيم الذي أتمّه المسيح يسوع.
كان هذا التعليم الرسولي هاماً للغاية لأن بني إسرائيل, كانوا ينظرون شذراً إلى بقية الشعوب والأقوام. فكان من الضروري جداً أن يشاركهم بولس الرسول بمحتويات الوحي الإلهي التي أظهرت بكل وضوح أن كل من آمن بالمسيح كمخلّصه من الخطية حصل على جميع نعم الله وصار من أهل الميراث وعضواً في جسد المسيح وشريكاً في الموعد. لا يجوز لأي إنسان أو عرق بأن يحتكر معرفة الله ولا طريقه الخلاصي.
علّمنا الرسول بأن الخلاص هو من الله وكان ضمن برنامج الله الأزلي وأن أساس الخلاص تحقّق في ملء الزمان أي عندما وفد عالمنا المسيح المخلّص ومات على الصليب وقام من بين الموت. ولم يلغ الرسول الدور الذي يلعبه الإنسان في هذا الموضوع الهام بل وصفه قائلاً:
ما عناه الرسول هو أن الله شاء وأسند إلى من اصطفاهم من عباده بأن ينادوا بالإنجيل أي أن ينشروا بشارة الأخبار السارة في كل مكان طالبين من الناس التوبة والإيمان بالمسيح. هذه هي مشيئة الله أن ينادي بإنجيله الطاهر في سائر أنحاء الدنيا ليقف الناس على غنى المسيح الذي لا يستقصى. فجميع ما نحتاجه نحن بني البشر هو في المسيح الذي عيّنه الله الوسيط والشفيع الوحيد بين الله والإنسان. من آمن بالمخلّص واختبر جدة الحياة في صميم قلبه يكتسب جراءة في صلواته وأدعيته وثقة كبيرة للاقتراب من الله باريه وصانع خلاصه.
وخلاصة الأمر أننا عندما نقرّ بكثرة مشكلات عالمنا لا نرغب بأن نبعث اليأس في قلوب الناس. غايتنا هي المناداة بتدبير الله الخلاصي الذي ينفّذه تعالى على مرّ العصور بقوة روحه القدوس وبواسطة خبر إنجيله المفرح. لم ينس الله عالمه بل كان ولا يزال مهتماً به كل الاهتمام. كفانا أن ننظر بعين الإيمان إلى المسيح المخلّص لنتأكد من محبة الله لنا ورغبته في خلاصنا. ساعدنا القدير لكي نفلت من شباك الإلحاد المعاصر ونسير على طريقه المستقيم.
- عدد الزيارات: 6615