Skip to main content

الفصل الرابع: لي خراف أخرى

لو فرضنا أن البشائر الأربعة هي الجزء الوحيد من العهد الجديد الذي بين أيدينا و لا غيرها و هذا شأن كثير من الناس إذ لم يترجم إلى لغاتهم سوى هذا القسم من الكتاب المقدس – لا العهد القديم و لا غيره. هل تكفي البشائر لتقنعنا عن ضرورة تبشير العالم – طبعا هنالك العدد الذي يكرره الكثيرون أقصد السادس عشر من إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث ز لأنه هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. في هذه الآية نلمس اهتمام الله في الخليقة جمعاء. لم يكن الرب يسوع مقيدا، قبل تجسده بأية قيود، فكان موجودا في كل مكان، في كل زمان، ولكن بالجسد تقيد بحضوره في مكان واحد دون غيره، فلذلك عمل في نطاق محدود بين شعبه وفي وطنه فلسطين. و لكن ذلك لم يمنعه عن الاهتمام بالعالم أجمع. وذلك واضح في قوله" ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضا فتسمع صوتي و تكون رعية واحدة و راع واحد " ( يوحنا 10، 16 ) و مع أن عمل الله انحصر آنذاك في شعب واحد و مكان واحد إلا أن اهتمامه بالعالم أجمع لم يفتر أو يتغير لحظة واحدة، و هذا واضح من مثل المسيح في ( متى 21 )

اسمعوا مثلا آخر : كان إنسان رب بيت غرس كرما و أحاطه بسياج و حفر فيه معصرة، وبنى برجا و سلمه إلى كرامين و سافر، ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ ثماره، فأخذ الكرامون عبيده و جلدوا بعضا و قتلوا بعضا و رجموا بعضا. ثم أرسل أيضا عبيدا آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك. وأخيرا أرسل إليهم ابنه قائلا يهابون ابني. و أما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله و نأخذ ميراثه ز فأخذوه و أخرجوه خارج الكرم و قتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين الأردياء؟ قالوا له أولئك الكرامين يهلكهم هلاكا رديا و يسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها.

قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب :

الحجر الذي رفضه البناؤون

هو قد صار رأس الزاوية

من قبل الرب كان هذا

و هو عجيب في أعيننا؟

لذلك أقول لكم أن ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لأمة تعمل إثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط عليه يسحقه ( متى 21، 33-44 )

كانت هذه كلمات رهيبة وذات مسؤولية عظيمة للشعب اليهودي و لكنها في الوقت نفسه تظهر لنا قصد الله و اهتمامه بالخليقة كلها و المسؤولية الملقاة على عواتقنا. فالمسؤولية لا تنحصر بأمة معينة أو شعب معين بل بشعب روحي لا حد له من كل قبيلة و أمة ولسان.

أوضح عبارة لهذا القصد الإلهي ظهرت للبشر في المدة التي تراوحت بين القيامة و الصعود – خلال هذه الفترة عقد الرب عدة مقابلات مع تلاميذه، ظهر تارة لفرد واحد منهم، وطوروا لاثنين، أو لزمرة ( نجد هذه المقابلات في العهد الجديد – متى 28، ومرقس 16، و لوقا 24، ويوحنا 20 و21 و أعمال الرسل 1 ) هذه المقابلات الخمسة مهمة جدا و يجدر بنا أن ندرسها.

في هذه المقابلات لم يذكر يسوع تلاميذه بتعاليمه أو أعماله و لكنه ركز على أمرين اثنين

الأول : أنه قام من الموات وأنه حي

الثاني : أنه عليهم أن يكونوا شهودا له في أرجاء العالم كله. وفي هذه المناسبة يطيب لي أن أبحث في ثلاث من هذه المقابلات.

الأولى : كانت عشية يوم قيامته " ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع و كانت الأبواب مغلقة، حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط و قال "سلام لكم " و لما قال هذا أراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ إذ رؤوا الرب، فقال لهم يسوع أيضا سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ و قال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت ( يوحنا 20، 19-23 )

يا له من مقطع شيق معز لنتأمل يديه وجنبه لماذا يا ترى ركز الرب يسوع على هذه المواضيع؟ اليدين و الجنب شدد الرب على حقيقة قيامته و هل من إثبات أفضل من اليدين اللتين لا زالت تحمل آثار المسامير، والجنب الذي طعن حديثا برمح قائد المئة ولا يزال الجرح ظاهرا كانت هذه الجراح أسوء ما يستطيع إنسان أن يتحمل، وأقسى ما يمكنه أن يختبر وهذه الجراح أيضا كانت أصدق دليل على انه قهر الموت ونجا من براثنه، وقام من بين الأموات.

ولكننا نتساءل هل يستطيع هؤلاء الرجال المختبؤون وراء جدران علية خوفا من اليهود أن يحملوا هذه الحقيقة إلى العالم و يقلبوه رأسا عل عقب؟ لا علينا أن نبحث عن نوع آخر من الرجال الشجعاء الأقوياء. لكن الرب يسوع صرح لهم أنهم هم الذين كان يعول عليهم، وأنه قد استودعهم أعظم مهمة قام بها جماعة في تاريخ العالم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضا. لم يعلمهم كيف ولم يرهم أي وسيلة ولكنه وضح لهم قصده ووكلهم بهذه المهمة. و الكلمتين " أرسلكم أنا " وضعت مسؤولية تغيير العالم وتبشيره برسالة الفداء على عواتق هؤلاء الرجال الجليلين الصيادين – صيادي السمك.

كما أرسلني الآب هذه الجملة تثير العجب، حتى ملائكة السماء تعجبت لهذا العمل – الله يرسل ابنه الوحيد، يحرمه ثروة السماء ومجدها ليفدي البشر؟ يا لعمق حكمة الله و محبته. و بهذا النفس قرن يسوع رسالته برسالة تلاميذه فقال " أرسلكم أنا "

أن نضع عمل الرب يسوع و رسالته و عمل التلاميذ و رسالتهم على صعيد واحد ومستوى واحد يبدوا لنا تجديفا. و لكن المسيح فعل هذا الشيء عينه – رفع عملنا إلى أعلى مستوى ممكن أن يصل إليه إنسان الدعوة إلى تبشير العالم كله و الخليقة كلها دعوة مجيدة ومدهشة، و امتياز لأي إنسان لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى. ( أفسس 3، 8 ).

في يوم القيامة أخبر الملائكة المرأتين أن المسيح قد قام من بين الأموات " اذهبا سريعا و قولا لتلاميذه أنه قام من الأموات ها هو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه "

ثم قال لهما يسوع " اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل و هناك يرونني "(متى 28،7و10)

عندما قيلت هذه الكلمات كان التلاميذ في أورشليم و هناك في أورشليم كان عليهم أن ينتظروا موعد الآب.. أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير ( أعمال 1، 4و5)

لماذا إذا كان عليهم أن يمشوا تلك المسافة الطويلة إلى الجليل؟ ذلك لأن الرب يسوع صرف أكثر أوقاته، وقام بأكثر أعماله في الجليل و لا شك أن أكثر أصدقائه و المؤمنين به كانوا في الجليل. والتلاميذ أطاعوا الوصية و ذهبوا لمقابلته في الجيل كما يتحقق لنا هذا من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس 15، 6 حيث ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمس مئة أخ لعله أراد من المؤمنين به هناك أي في الجليل أن يعرفوا الحقيقتين الأساسيتين اللتين ركز عليهما يسوع عمل تلاميذه في المستقبل – أي قيامته وحمل رسالة الفداء للعالم بأسره. ولنا في إنجيل متى الإصحاح الثامن و العشرين صورة واضحة عما حدث في هذه المقابلة.

و أما الأحد عشر تلميذا فانطلقوا إلى الجليل حيث أمرهم الرب يسوع. ولما رأوه سجدوا له و لكن بعضهم شكوا. فتقدم يسوع وكلمهم قائلا دفع إلي كل سلطان في السماء و على الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب و الابن والروح القدس و علموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. ( متى 28، 16-20).

في هذه المقابلة شدد الرب يسوع مرة أخرى على هاتين الحقيقتين. الأولى أن الرب قام من بيت الأموات (البعض شكوا حين رأوه و لكن أكثرية التلاميذ آمنوا بأنه الرب المقام من الأموات، الظافر، الغالب الموت، و خروا وسجدوا له) و الثانية تبشير العالم – اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم.

لاحظ الطريقة التي زرع بها الرب يسوع هاتين الحقيقتين في قلوب التلاميذ. فقد نبه على ضرورة تبشير العالم أكثر من ذي قبل و أوسع.. فشمل جميع الأمم وكذلك على تلمذة الأمم " تلمذوا... عمدوا... علموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به " وهكذا تتضح الصورة أكثر.

بعد هذا عاد التلاميذ إلى أورشليم حيث قابلوا الرب للمرة الأخيرة.

" إلى اليوم الذي ارتفع فيه، بعدما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم الذين أراهم أيضا نفسه حيا ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوما ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله، وفيما هو مجتمع فيهم، أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني. لأن يوحنا عمد بالماء و أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير. أما هم المجتمعون فسألوه يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك لإسرائيل. فقال لهم ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة و الأوقات التي جعلها الآب في سلطانه. و لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم و تكونوا لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية وفي السامرة و إلى أقاصي الأرض. ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم. " (أعمال1، 2-9)

مرة أخرى تظهر هاتان الحقيقتان – الأولى أن الرب يسوع قام من الأموات و الثانية المسؤولية التي على الرسل أن يحملوا البشارة " إلى أقصى الأرض " أما الحقيقة الثالثة فهي أنه سيرسل لهم قوة عجيبة تعينهم على هذه المهمة، فلا يجدون أنفسهم عاجزين و مرتبكين.

عندما قال لهم " كذلك أنا أرسلكم " (يوحنا 20،21) ونفخ عليهم وقال اقبلوا الروح القدس

(يوحنا 20،22) عندما أمرهم قائلا " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم " (متى 28،19) عندما قال " ستكونون شهودا لي.... إلى انقضاء الدهر " (أعمال 1، 8) قال أيضا ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم " (أعمال 1،8).

قال مارتن لوثر " نبدو عظماء أمام الرب و لكن لن نبدو ضعفاء أو صغار أبدا لقد كان هؤلاء الرجال صغارا حقا و لكن عندما حل الروح القدس عليهم، علم السامعون و المشاهدون أجمع أن الله هو الذي كان يعمل ويتكلم و ليس هؤلاء الرجال الضعفاء. وهذا ما يجعل عمل المبشر امتيازا لا ثقلا أو إرهاقا. ليس من لذة تفوق لذة العمل مع الله، عمل المستحيل بقوته و بعونه.

بعد التمعن فيما ورد بهذا الفصل نعجب لعدم فهم التلاميذ قصد الرب. لقد وضح لهم رسالتهم " إلى أقصى الأرض و إلى جميع الأمم " ومع ذلك تقيدوا بالبقاء في أمتهم وعجزوا عن فهم اهتمامه العميق في الأمم جميعا – في العالم بأسره، في جميع البشر وفي كل الأرض. إنه يريد أن الجميع – الأمم و اليهود يسمعون كلمة البشارة و رسالة الفداء.

نقرأ في سفر الأعمال الإصحاح الحادي عشر و العدد الأول إلى الثالث ما يلي. " فسمع الرسل و الأخوة الذين في اليهودية أن الأمم أيضا قبلوا كلمة الله. و لما صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين. دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم " أرجو أن نفحص أنفسنا و مقدار فهمنا لمحبة الله و قوة عمله الفدائي قبل أن نقسوا بحكمنا على التلاميذ. هل نحن اليوم أفضل منهم آنذاك؟

كما رأينا كانت فترة الخمسين يوما التي قضاها يسوع مع تلاميذه ما بين قيامته و صعوده إلى السماء فترة مهمة جدا تعلمنا دروسا خالدة.

أراد الرب أن يلهب قلوب تلاميذه بهذه الحقيقة – أنهم مسؤولون عن تبشير العالم بأسره لذلك أعاد على مسامعهم الأمر عدة مرات – أولا لنخبة قليلة من القواد – الرسل – ثم لخمسمئة أخ معا. أعطى الأمر في أورشليم و في الجليل. شدد الرب يسوع على هذا الواجب – واجب تبشير الأمم جميعا – أكثر من أي واجب آخر – بل جعله أمانة في صدور تلاميذه و مسؤولية على عواتقهم و قلوبهم. وليس من شيء أحب من هذا الواجب إلى قلوب السيد، إذ كرره عدة مرات وهو على الأرض قبل صعوده على السماء.

إطاعة الرب فرض واجب علينا " إن كنتم تحبونني تحفظون وصاياي " الذي عنده وصاياي و يحفظها فهو الذي يحبني " (يوحنا 14، 15،21) فإن كنا لا نبشر، فنحن إذا مشاكسون وعصاة، لا نحب الرب.

ليتنا ونحن نتهيأ لعمل المستقبل، أو مهنة الحياة نعير هذا الأمر اهتماما خاصا، قد يدعونا للعمل في حقله خارج بلادنا. هذا حسن أو قد يدعونا للعمل في بيئتنا، فلنتجنب الشعور بعدم الكفاءة و المؤهلات، بل لنطع أمره مهما كانت إمكاناتنا و مؤهلاتنا لأن طرقه تختلف عن طرقنا، و أفكاره عن أفكارنا و ما علينا إلا الطاعة لأمره، وهو يجري.

  • عدد الزيارات: 4044