الفصل الثالث: طريق البناء
في أرجاء الشرق الأوسط كله نرى المهندس جادا بمئات الأنواع من الآلات و آلاف الرجال العمال، يفتحون الطرق و يدأبون على توسيع غيرها، فالآكام تهبط و الأودية تملأ و المعوج يستقيم،والخشن ينعم. في المناطق الجبلية يستمر العمل ويدوم، وهذا الاستمرار في العمل هو ما قصده النبي لأشعياء في قوله:
"........ أعدوا طريق الرب
قوموا في الفقر سبيلا لالهنا
كل وطاء يرتفع وكل جبل ينخفض
ويصير المعوج مستقيما
و العراقيب سهلا
( أشعياء 40، 3-4 )
عندما زرت مرة بلدا في مراكش وجدت الشارع العام قذرا، ضيقا أشبه بمستنقع منه بشارع. ولكن سنة 1959 عزم ملك مراكش على زيارة الباشا الذي يقطن في ذلك الشارع، فقامت الاستعدادات لهذه الزيارة على قدم وساق، فنظف الشارع و جففت المياه الراكضة فيه و أصبح شارعا من أجمل الشوارع. يتحدث العهد القديم عن استعدادات كهذه عند زيارة ملك لإحدى بلدانه. الطريق تهيئ للملك، وتمهد أمامه و يبنى الخراب. أما طرق إلهنا فقد كان التمهيد قائما لها طوال أيام التاريخ إذ أرسل الله أنبياءه و رسله كما استخدم ملوكا و فقراء للقصد نفسه، و يشق على الدارس أن يستنتج من مكان واحد أو أمة واحدة و لكن الخطة موجودة و لا عقبة تقف في سبيلها لأن غضب الإنسان يحمد الله و بقية الغضب يتمنطق بها ( مزمور 76-10)
يؤكد لنا العهد القديم أن لله خطة و قصد في العالم. ليس لأمة واحدة و لا لشعب واحد فقط بل للأمم جميعا و للشعوب جميعا، وقبل تأسيس العالم جهز الله برنامجا يبشر عن طريقه العالم كله. كان إبراهيم أول من اطلع على هذا القصد إذ قال له الله " اذهب من أرضك ومن عشيرتك و من بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة و أباركك و أعظم اسمك و تكون بركة و أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل ارض. " ( تكوين 12، 1-3) ".... ويتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض من أجل أنك سمعت لصوتي. " ( تكوين 22-8) "... و إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض "( تكوين 18 – 18 )
عندما دعا الله إبراهيم ليذهب إلى أرض مجهولة غريبة، كانت هذه الدعوة أول استعداد و أعظمه لتمهيد الطريق في العهد القديم. و الحق أن إبراهيم لم يدع إلى مكان ما، بل إلى شخص و السر في حياته لم يكن المكان الجغرافي الذي سيذهب إليه بل علاقته مع ذلك الشخص وطاعته لإرادته و أوامره. و أعلن الله في بداءة العهد القديم أن جميع عائلات العالم و أممه و قبائله ستسمع خبره وتبشر به. وهذه هي الحقيقة تبدو جلية واضحة في سفر لمزامير. " تذكر و ترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض و تسجد قدامك كل قبائل الأمم " ( مزمور 22 – 27 )
ليتحنن الله علينا و ليباركنا لينر بوجهه علينا
لكي يعرف في الأرض طريقك
وفي كل الأمم خلاصك
تحمدك الشعوب يا الله
تحمدك الشعوب كلهم
تفرح وتبتهج الأمم
لأنك تدين الشعوب بالاستقامة
و أمم الأرض تهديهم
( مزمور 76، 1-5 )
و الأنبياء المرسلون يشددون على هذه الحقيقة و أن هذه البركة ستشمل العالم بأسره بشخص المسيح – المسيا
هو ذا عبدي الذي أعضده
مختاري الذي سرت به نفسي
وضعت روحي عليه
فيخرج الحق للأمم
( أشعياء 42، 1)
".. قليل أن تكون لي عبدا
لإقامة أسباط يعقوب
ورد أسباط إسرائيل
فقد جعلت نورا للأمم
لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض
( أشعياء 49، 6 )
قومي استنيري لأنه قد جاء نورك
و مجد الله أشرق عليك
لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض
و الظلام الدامس الأمم
أما عليك فيشرق الرب
ومجده عليك يرى
فتستنير الأمم في نورك
و الملوك في ضياء إشراقك
( أشعياء 60، 1-3 )
كم حز في قلب دانيال أن يساق أسيرا منكسر القلب إلى بلاد غريبة. ولكن اختباراته كانت له مجدا عوضا عن ذل و انكسار، وفتحت أمامه مجالا أوسع للخدمة و التبشير و الشهادة لإلهه إذ شهد أمام اربعة ملوك و حاشياتهم و قصورهم – نبوخذ نصَر البابلي، ثم لابنه بلطشاصر، ثم لداريوس ملك مديان و بعده لكورش ملك الفرس. و خلال ملك بلطشاصر قال دانيال بجرأة وقوة:
" كنت أرى في رؤى الليل
و إذا مع سحب السماء
مثل ابن الإنسان و جاء إلى القديم الأيام
فقربوه قدامه
فأعطى سلطانا ومجدا و ملكوتا
لتتعبد له كل الشعوب و الأمم والألسنة
سلطانه سلطان أبدي
ما لن يزول
و ملكوته ما لا ينقرض
( دانيال 7، 13-14 )
أما يونان النبي المعاكس وغير الطائع لله فمثل واضح جدا و مدهش إذ فيه نرى قدرة الله العظيمة التي لن يقف أمامها عائق، كما توضح قصد الله الخارق للأمم الغرباء عنه و الذين لا يعرفونه. و الصوت الأخير الذي يصرخ في آذاننا يردد هذه الحقيقة فيقول النبي ملاخي. لأنه من مشرق الشمس لمغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود ( ملاخي 1،11)
و آخر الوعود الواردة في العهد القديم تقول " و لكم أيها المتقون اسمي تشرق سمش البر و الشفاء في أجنحتها... هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم و المخوف، فيرد قلوب الآباء وقلب الأبناء على آبائهم، لئلا آتي و أضرب الأرض بلعن. ( ملاخي 4، 2-5 )
ألا يسرنا أن هذه المواعيد ليست للفئة القليلة، أي لبني اسرائيل و يهوذا بل هي لجميع الأمم، لكل فرد من أفراد الجنس البشري؟ لقد كانت عملية طويلة وصعبة في كثير من الأحيان تعسر تنفيذها على رسله و أنبيائه الذين اختارهم من جميع البيئات و الخلفيات، ولكن الله كان يهيئ طريقه، ويتمم خطته خطوة بعد الأخرى ليكتمل السبيل و القصد. القصد الأساسي هو تمجيد ذاته فيعلن مجد الرب و يراه كل بشر لأن فم الرب تكلم ( أشعياء 40، 5 ) وقد جعل الله مكانا لكل إنسان في هذه الخطة الإلهية للخلاص - مكانا لكل فرد مهما اختلفت أمته وشعبه.
أليس من العجيب أن يكون تلاميذ المسيح مبطئي الفهم؟ أليس من العجب أنهم لم يفهموا قصد الله أن المسيح للجميع و ليس وحدهم فقط؟ و لكن بولس الرسول " الرسول للأمم" يلخص لنا هذا المفهوم بعبارات جميلة و صريحة بقوله " لذلك اقبلوا بعضكم بعضا كما أن المسيح أيضا قبلنا لمجد الله. وأقول أن المسيح صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء. وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة كما هو مكتوب
من أجل ذلك سأحمدك في الأمم
و أرتل اسمك
و يقول أيضا " تهللوا أيضا أيها الأمم مع شعبه "
وأيضا " سبحوا الرب يا جميع الأمم و امدحوه يا جميع الشعوب "
وأيضا يقول أشعياء " سيكون أصل يسى و القائم ليسود
على الأمم. عليه سيكون رجاء الأمم.
وليملأكم الله الرجاء كل سرور و سلام
في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس
( رومية 15، 7-13 )
ونحن أيضا لنا دور نلعبه ونقوم به في بناء هذا الطريق.
ثم بوق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة قد صارت ممالك العالم لربنا و مسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين. و الأربعة والعشرون شيخا الجالسون أمام الله على عروشهم خرجوا على وجوههم و سجدوا لله " ( رؤيا 11، 15 و 16 )
لم ندخل بعد في تفصيل خطة الله لخلاص العالم و لكننا رأينا أن الله قصدها منذ القديم منذ خلقه للعالم. وقد قرر أن يتمم خطته بواسطة رجال ورسل. والعهد القديم يخبرنا كيف اختار الله الرحم الذي منه سيخرج مخلص العالم و القواعد التي ستبنى عليها الكنيسة. ويدهشنا جدا اهتمام الله بالعالم، و الوسائل المتعددة التي أعدها بتدبير و دقة عبر التاريخ ليتمم قصده الذي هو خلاص العالم، ويدهشنا كما يسرنا أن يكون لنا نحن أيضا مساهمة في هذا البناء و دور هام نلعبه.
- عدد الزيارات: 3730