الفصل الخامس: أسلوب الحياة الفاضلة
الجزء الثاني
عصر تَرتُولِيَانُوس
(أواخر القرن الثاني- أوائل القرن الثالث)
"الكنيسة المسيحية فريدة في نوعها. فهي أقدم من أية منظمة أو مجموعة منظمات موجودة الآن على كوكبنا. ولم تتمكن أي ديانة أخرى من تكوين مؤسسة نظيرها. فالديانة اليهودية التي لها فضل كبير على المسيحية طورت جماعة انتشرت كالكنيسة المسيحية، في كل أنحاء العالم. ومع ذلك فبنية الديانة اليهودية هي بنية عنصرية بقدر ما هي دينية. أما الديانة المسيحية، فتختلف عن اليهودية بكونها مزيجاً من أجناس مختلفة لا يربط بينها رابط الدم أو العرق." (1) هذا القول هو للمؤرخ لاتوريت.
لكن، ما هو إذاً الرباط الذي يوحد بين هؤلاء الناس المتعددي الأجناس؟ هل هو حقاً خضوعهم لقوانين السلطة الكنسية وأحكامها؟ أم هل هو رباط غير منظور؟ فما هي حقيقة الكنيسة في الواقع؟ وهل هي اليوم كما كانت عليه في ما مضى؟ أو هل حققت شيئاً ما بمرور الزمن؟ هل خسرت شيئاً؟ هل الكنيسة هي تنظيم معين، أم هل هي ببساطة فكرة مثالية؟
يتحدث المؤرخ لاتوريت عن المبادئ العظيمة التي أوحتها الديانة المسيحية في أيامها الأولى: "من بدايتها ثبّتت هدفاً، يبدو أنها أخذته مباشرة من مثالها الأعظم يسوع المسيح نفسه، وهو مثال الراعي." وقد انتدب أتباع المسيح أنفسهم "للاهتمام بالأفراد عن طريق التضحية والمحبة في سبيل ربح النفوس لما تراه المسيحية انه الحياة الأسمى، ومساعدتهم في النمو على هذا الأساس."(2)
فالكنيسة الأولى في أورشليم، كما يعلمنا سفر أعمال الرسل، كانت جماعة تقوم بهذه الخدمة. وكعائلة كبيرة، احتضنت أناساً من مختلف الاعمار، يعرفون ويحبون ويساعدون بعضهم بعضاً في السراء والضراء. وكانوا كل يوم يجتمعون في الهيكل، ويأكلون سوية في بيوتهم، بفرح وسرور، وبقلوب كريمة معطاء، وهم يعلّمون ويشجعون بعضهم بعضاً، ويصلون سوية، ويشكرون الله على بركاته الواضحة التي منحها لهم.(3) وكانوا يرحبون ترحيباً حاراً بكل من اتبع سيدهم الرب يسوع المسيح.ولربما بسبب سمو معاييرهم، أو ربما بسبب العجائب والمعجزات التي صُنعت في وسطهم، وقع رعبهم على كل الذين في هذه المدينة، حتى أن أحداً لم يجرؤ على الاختلاط بهم: "أما الآخرون فلم يكن احد منهم يجسر أن يلتصق بهم. لكن الشعب يعظمهم. وكان مؤمنون ينضمون للرب أكثر. جماهير من رجال ونساء." (4)
وعليه، فقد اضطر هؤلاء المسيحيين المؤمنين المتحدين إلى أن ينقلوا هذه الأخبار السارة إلى اليهودية والسامرة، وخلال بضع سنوات إلى أقاصي الأرض.(5) وقد قبلت معظم هذه الأصقاع البعيدة رسالتهم بفرح. ونتيجة لذلك، فقد تكونت جماعات مسيحية جديدة، على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وفي أوروبا وآسيا الصغرى وحتى إلى المناطق الأبعد من ذلك. وكانوا يجتمعون معاً، ليعلّموا بعضهم، وليشجع احدهم الآخر، كما فعلت الكنيسة الأولى في أورشليم.
لقد كانت كل جماعة من المؤمنين تتسم بقدر عالٍ من الوحدة. إلا أن وحدة هذه الجماعات ككل كانت مسألة نظرية أكثر من كونها أمراً عملياً، ذلك أنهم كانوا مبعثرين في مناطق بعيدة بعضها عن بعض بشكل لا يسمح بالاتصال الكثير بينهم. ولكن، شيئاً فشيئاً أخذت روابط هذه الجماعات تتصل من مدينة إلى مدينة، حتى اشتدت اشتداداً وثيقاً وقويت. فهم عاشوا في البيئة نفسها، وجابهوا المشاكل والفرص عينها. وفي الوقت الذي كانوا يلاحقون أعمالهم التجارية والمهنية من مكان إلى آخر، كان من الطبيعي أن يتطارحوا الكلام عن الأمور ذات الاهتمام المشترك. وأكثر ما كان يواجههم من تحديات هو كيف يعيشون للمسيح بكل أمانة وإخلاص وسط عالم وثني فاسد، وكيف يتجنبون مغريات ورذائل الحياة المدنية الوثنية، وكيف يستطيعون أن يربحوا نفوس أصحابهم وجيرانهم لطريق الحق.
عاش المسيحيون مع الوثنيين، وسكنوا معهم في أفريقيا الشمالية جنباً إلى جنب، وكان قربهم كما هو عليه الحال في آسيا وأوروبا. وكثيراً ما وُجدت أمكنة اجتماعات المسيحيين الحجرية في المدن إلى جانب مزارات الإله مِثْرا (Mithra)، أو قبالة المعابد الوثنية. وفي الأرياف، قد نجد القبور الحجرية المسيحية، في الأماكن المخصصة للأرواح. كذلك فإن بيوت المسيحيين كانت موزعة بين بيوت جيرانهم الوثنيين، ولم يفكر هؤلاء قط في الانعزال، وإقامة أحياء خاصة بهم.
لم تتميز الجماعات المسيحية عن المجتمع الوثني بمواقعها الطبيعية أو المادية، ولكنها تميزت عنها بطبيعة وأسلوب الحياة التي تحياها. كان جل اهتمامهم أن يكونوا المصباح المنير والأمل الزاهي لكل أهل المدينة، والملح الجيد الذي يُمَلّح به. لقد شقوا طريقهم مع جيرانهم الوثنيين بجهد وأناة، وتعاملوا معهم بصدق وإخلاص، وسعوا ليتجنبوا كل ما من شأنه أن يسبب المواجهة معهم. كما سعوا بكل جدية لتطبيق الوصية القديمة: "تحب قريبك كنفسك." وهذه هي المحبة التي كانت تحثهم على التكلم عن خلاص المسيح كلما سنحت لهم الفرصة.(6) لقد اظهر المسيحيون حقيقة إيمانهم بنوعية الحياة التي عاشوها، فلم يكونوا يخجلون بمسيحيتهم، بل كانوا مستعدين ليشرحوا الحق الإلهي لكل من يصغي.
يتألف مجتمع شمال أفريقيا من ثلاث فئات رئيسة. وهذه جميعها كانت حاضرة في الكنائس المسيحية. وكان الأمازيغيون يشكلون الأغلبية. أما الفينيقيون الذين تزاوج الأفارقة معهم، فكانوا موجودين في المدن والحواضر وكانوا يمثلون الطبقة الحرفية والتجارية. على أن الطبقة الرومانية كانت الطبقة الارستقراطية الايطالية، وكانت تمثل أصحاب الممتلكات الزراعية الواسعة، وقد شكل هؤلاء نخبة أهل المدينة وصفوتهم. لكن الكنيسة جمعتهم أخوة وأخوات في عائلة تخطت حدود العرقية واللغة والتخوم الاجتماعية الأخرى. أما علاقتهم باليهود، فكانت علاقة صداقة ولطف. وقد استعيض عن المناظرات الحادة التي دونها العهد الجديد مع اليهود، بالتسامح والاحترام المتبادلين، على الرغم من أن ذلك لم يجعلهم يستسلمون. بأي شكل من الأشكال، أو يتخلوا عن آمالهم في كسب اليهود واستمالتهم إلى الدخول في الإيمان.
ومن البديهي أن علاقتهم الحميمة كانت بأولئك الذين يشبهونهم في الفكر والمعتقد. فالمسيحيون كانوا في دائرتهم الخاصة، يعيشون حياتهم بموجب تعاليم المسيح، إذ كانوا يخدمون بعضهم بعضاً، كما خدم المسيح تلاميذه وغسل أرجلهم. ولم تضع الكنيسة برنامجاً لتغيير المجتمع، بل كان كل همها أن تأتي بالنفوس إلى مجتمعها وتغيير مواقفهم ومبادئهم. وقد شددت على أهمية خلاص الإنسان كفرد. لقد كان المسيحيون يتوقون إلى أن يصالحوا الرجال والنساء مع الله، حتى يعيش هؤلاء الناس بعد المصالحة بانسجام وتوافق يومي معه سبحانه وتعالى.إلا انه كان لا بد لهم في معرض مساعدتهم الفرد على الإيمان، من أن ينتقدوا الرذائل الاجتماعية التي قد تعيق الناس في هذا المجال. فالعهد الجديد في الواقع، بالأخص ما جاء من أقوال المسيح، يقدم لنا المثاليات التي لو نفذها جميع الناس فعلاً وبالكامل، لتغير المجتمع تغييراً جذرياً. وقد رأى عدد من أصحاب السلطة الوثنية أن تعاليم المسيح هذه فيها ما يكفي لإجراء تغيير جذري إذا مل تبناها عدد كبير من الناس، وبإمكانها أن تشق طريقها إلى أعماق جذور المجتمع، وتصل إلى أساس بنيته.
لم تشجب الكنيسة رسمياً العرف القائم والمختص بالعبودية والاسترقاق، كما لم تتصدّ للصراع الوحشي الهمجي الذي كان يجري في الميادين لإمتاع الناس بقتال بين العبيد، يستمر حتى الموت. ولكن الكنيسة كانت تحث المسيحيين اللذين يمتلكون عبيداً، على ضرورة معاملة هؤلاء العبيد بتهذيب ولباقة، مثلما يرغب مالك العبد أن يعامل من سيده السماوي.(7) كما أن العبد المسيحي يجب بالمقابل أن يخدم سيده الأرضي بأمانة وإخلاص كتقدمة مقبولة ترضي الله.(8) وفي الحقيقة، اختار الكثير من المسيحيين إعتاق عبيدهم، على انه في جميع الحالات كان العبيد مسرورين فرحين كونهم عبيداً لسيد مسيحي طيّب، وهو بالمقابل، كان فرحاً مسروراً لامتلاكه عبداً، أميناً صادقاً."وكم رأينا عبيداً لم يكونوا يفتقرون إلى شيء، بينما هناك رجال أحرار مكرهون على التسول."(9) هذا ما قاله اغسطينوس بعد مضي مائتي عام.
لم تكن تجارة الرقيق واسعة الانتشار في شمال أفريقيا في زمن الرومان، بالمقارنة بحالة هذه التجارة في القرون التي تلت خروج الرومان من شمال أفريقيا. فالعبيد في الإمبراطورية الرومانية كانوا في غالبيتهم من أصل يوناني أو من شمال أوروبا وليس من أفريقيا. ولم يعان الأمازيغيون العبودية إلا في الظروف الاستثنائية، ولم تشجع الكنيسة المؤمنين على شجب هذه الظاهرة، أو الوقوف ضد مثل هذا الوضع الرسمي الذي مارسه المجتمع الوثني آنذاك. لان الاهتداء إلى المسيحية لا يحل الإنسان من تبعيته الشرعية والتقيد بنظام المجتمع الذي يعيش فيه، على الرغم من آماله في الحصول على حريته من هذه العبودية. ومع ذلك فعليه آن يتقبل قدره هذا بصبر وتؤدة في الوقت الحاضر."الدعوة التي دعي فيها كل واحد فليلبث فيها. دعيت وأنت عبد فلا يهمك. بل وان استطعت أن تصير حراً فاستعملها بالحري. لان من دعي في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب. كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد المسيح."(10)
لم يكن عاراً كون الإنسان عبداً. فكان لدى العديد من العبيد، وبخاصة اليونانيين، درجة من الثقافة والتعليم أعلى مما عند أسيادهم. وكان قد سمح لهؤلاء العبيد بأن يتجولوا في أملاك أسيادهم وفي شوارع المدينة بحرية كاملة. وحقاً قال المعلم المسيحي الشهير أمبروزيوس (Ambroise) إنه قد يكون العبد أعلى منزلة من سيده في صفاته وأخلاقه، وحتى أكثر حرية من هذا السيد لان السيد، قد يكون عبداً لإبليس والخطيئة.
لم تسع المسيحية وراء الاضطرابات والمشاكل، ولا أثارت استياء الناس. بل على نقيض ذلك، علّمت الإنسان كيف يبقى سعيداً في أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال.(11) المسيحية لم تهاجم نمط الحياة الذي كان يمارس الرق والعبودية، تماماً كما أنها لم تهاجم أياً من مظاهر الحياة في المجتمع الوثني. ذهبت المسيحية ابعد من ذلك، فقد قدمت طرائق وأساليب جوهرية جديدة يُنظر من خلالها إلى العلاقات الإنسانية: "فالأولون آخرون، والأعظم يكون خادماً للجميع، وهي تدعو ذاك الذي يجلس في المؤخرة إن يتقدم ليأخذ المقعد الأول، وملكوت السماوات يخص الأولاد الصغار. لم ينظر المسيحي إلى مصالحة الشخصية فقط، ولكنه نظر إلى مصالح الآخرين أيضاً. فقد أدار الخد الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن، وذهب ميلين مع الذي سخّره ميلاً واحداً، وصلّى من اجل اللذين أساؤوا إليه. ونجد أن لدى الإنسان المؤمن الكثير من الأمور المشتركة مع عبده المسيحي، ما لا يجده مع عائلته الوثنية: فهو يتمتع مع عبده بإيمان مشترك، ويتقاسمان المخاطر عينها التي قد تأتي نتيجة لهذا الإيمان المشترك. ولم يكن هناك فوارق بين المسيحيين في نظر الله والكنيسة، لأنه "ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكراً وأنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع."(12) لقد استّدعي المدعو يولبيستوس (Euelpistus) وهو عبد من عبيد آل البيت الإمبراطوري إلى المحكمة في روما في القرن الثاني للميلاد. ولدى سؤاله أجاب:"أنا عبد الإمبراطور، ولكنني مسيحي في الوقت ذاته، حيث أن الرب يسوع المسيح قد حررني، وبنعمته المعطاة لي، أتمتع بالرجاء نفسه لإخوتي بالرب."(13)
تبوأ بعض العبيد مراكز هامة، حتى وصل بعضهم إلى مراكز قيادية بين الجماعات المسيحية: فبعضهم عيّنوا نظّاراً على مجموعاتهم المحلية. ويعتبر المسيحيون انه امتياز أن يخدموا عبداً مسجوناً أو مضطهداً بسبب إيمانه بالمسيح، وكانوا جميعهم يرغبون في تكريم كل عبد حصل على تاج الشهادة المختوم بالدم. إن إظهار مثل هذا الحب نحو العبيد هو إبطال غير مباشر لمفعول نظام الرق المذل، وإيذان بأفول نجمه. فالكنيسة لم تحاول أن تقتلع شجرة العبودية - لان ذلك سيكون عملاً طويلاً وخطراً - ولكنها بالمقابل قشرت لحاء هذه الشجرة وتركتها لتموت موتاً بطيئاً.
عندما كان المسيحيون أقلية ضئيلة، لم يكن بإمكانهم أن يفعلوا الكثير ضد العنف والقسوة والانحراف الجنسي الذي استشرى بين المجتمعات الوثنية. على أنهم لم يكونوا هم أنفسهم طرفاً في مثل هذه الأعمال، ولا حضروا ذلك القتال الوحشي الذي كان العبيد يتبارون به في الساحات والميادين العامة لإمتاع الناس، كما أنهم لم يشاركوا في مشاهدة المسرحيات التي لا تخلو في مضمونها من الانحراف الخلقي. فإذا ما غرق الآخرون في مثل هذه الحمأة، فالمسيحي لم يكن ليفعل ذلك، كان المسيحيون في العالم ولكنهم "ليسوا من العالم" وكانوا يعلمون هذه الحقيقة. صلّوا بعضهم لأجل بعض، كما فعل سيدهم يسوع المسيح لأتباعه عندما قال: "لست اسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير."(14) وهكذا، فكلما ازداد عدد المسيحيين سنة بعد أخرى، كلما نقص عدد المشاهدين لهذه المباريات، الأمر الذي حمل الوثنيين على إلقاء اللوم على المسيحيين الذين اعتُبروا السبب في انخفاض عدد المتفرجين وفتور شوقهم إلى الألعاب والمسرحيات، وضعف ولعهم بها.
إلى ذلك، فإن الكنيسة لم تحاول أن تزيل التفاوت المتأصل في بنية الطبقات الاجتماعية المدنية والأصقاع الريفية. فقد آمن المسيحيون بأن الله هو الذي يمنح الأرض و الأموال لبعضهم، تماماً كما يمنح المهارة والقدرات لبعضهم الآخر، إلى جانب المواهب الأخرى المتعددة، من فن وقوة شخصية وطلاقة لسان وغيرها. وقد أصرّ المسيحيون على معاملة الناس اجمع باحترام متساو. فلم يهابوا الأقوياء ولا احتقروا الضعفاء. لقد خافوا الله وحده، وأحبوا جميع الناس. وكانوا يستقبلون الفقير والمتواضع بلطف ويكيلون له بالمعايير الصادقة والأمينة عينها، التي يكيلون بها للأغنياء ذوي النفوذ. ففي اجتماعات الكنيسة، كانوا يرحبون بالجميع على حد سواء. قال يعقوب أخو المسيح في الجسد: "لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة. فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهي ودخل أيضاً فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس البهي وقلتم له اجلس أنت هنا حسناً وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟"(15) إن أخلاق الإنسان هي من حيث الأهمية أكثر بكثير من ثرائه ومركزه الاجتماعي. فقد كانت النقوش أو الكتابات على قبور المسيحيين، والمُعرّفة بهم، لا تشير إلاّ نادراً إلى المراكز الاجتماعية لأولئك الموتى. إلا أنهم كانوا ينحتون أحياناً رموزاً تدل على حرفة الميت، أو يرسمون بدقة الأدوات التي يستعملها في مهنته بالإضافة إلى كتابة عبارات تنم على المحبة العائلية.
كانت مثل هذه المواقف ثورية للغاية، إذ كانت تلمس أي إنسان حساس. ولكن المسيحيين لم يكونوا دائماً موضع استحسان في أعين أعضاء المجتمع الآخرين. فبعض أعضاء هذا المجتمع رأى فيهم عاملاً مفسداً يسبب الخلاف والشقاق الحاصلين بين الناس، لأنهم كانوا على استعداد دائم لأخذ خط فكري مستقل خاص بهم. إلى هذا، فقد كانت طاعة المثاليات الإمبراطورية أمراً ملزماً يجب أن يغرس بثبات في قلوب الناس، فإذا ما نزع احد إلى مناقشة مثل هذه العادات الوطيدة الراسخة في المجتمع آنذاك، فإنه يعرض نفسه لتهمة تعكير سلام الإمبراطورية الرومانية، بل كذلك لتقويض الحضارة العظيمة التي تمثلها.
بعد مرور قرن ونصف على صلب المسيح، كتب كلسوس (Celse) انتقادات عنيفة يتهم فيها المسيحيين برفض خدمة الجيش. وقد قال كلسوس إن عملهم هذا يعرض حياة الإمبراطورية للخطر، إذ ماذا يحدث مثلاً لو حذا جميع الشعوب حذوهم؟ ألا يؤدي ذلك إلى اكتساح البرابرة هذه الإمبراطورية؟ أما أوريجانوس (Origene )، فقد دافع عن هذا الموقف اللا عنفي للمسيحيين، مشيراً إلى أن المسيحيين لا يطمحون إلى انقسام المجتمع، ولا إلى مساندة بلد آخر ضد بلدهم، وإنما إلى رفع جميع الناس إلى المستوى الأخلاقي الأسمى، وحتى، أن أمكن، إلى انتزاع رغبة الناس في أضرام الحروب. وفي هذه الفترة بالذات دافع ترتوليانوس عن المسيحيين قائلاً أنهم بعيدين كل البعد عن تهمة تمزيق الإمبراطورية، لأن الواقع يثبت أن المسيحيين هم أحسن رعايا الإمبراطورية وأفضلهم على الإطلاق. ومبادئهم هذه، لتجيز لهم القيام بأي عصيان مسلّح أو شغب مخل بالأمن، وهم لم ولن يتآمروا ضد السلطة، بل على نقيض ذلك، يقدمون الصلوات إلى الله تعالى ليحفظ الإمبراطور ويطيل بعمره ويمتعه بحكم ملؤه السلام والاستقرار. إنهم لا يهتمون بالسياسة، وليس لديهم أية طموحات نحو قوة أرضية، وهم ببساطة يرغبون في أن يُترَكوا بسلام. فقد قال سيدهم:"مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون."(16) كما أعلن ترتوليانوس من شمال أفريقيا بصريح العبارة ما يلي:"لقد بَرُدَ عندنا كل ما يعتبرها الناس طموحاً في سبيل المجد الأرضي أو المراكز، ولسنا مضطرين إلى تشكيل اتحادات لمثل هذا الغرض، وليس ما هو ازهد من العمل السياسي بالنسبة إلينا، لأنه مغاير لمبادئنا، ونحن لا نعترف إلا بدولة واحدة، وهذه الدولة هي العالم بأسره."(17)
لم يكن المسيحيون من السذاجة بحيث يفترضون أن المجتمع الوثني بأسره يرغب في قبول المسيحية واتساع مقاييسها، ولا أن شرور تلك الحضارة، يمكن إلغاؤها بالوسائل السياسية، إذ كثيرون من ذوي النفوذ كانوا يستفيدون من الفساد والجور المستشريين فيها. كما لم يكن هدف المسيحيين انتقاد النظام الاجتماعي والاقتصادي الوثني، بل بالحري أرادوا أن يبينوا للأفراد الطريق المؤدي إلى حياة أفضل: تأسيس جماعة جديدة داخل المجتمع الموجود، جماعة ذات معايير مسيحية يطبقها شعب مسيحي أصيل.
أثبتت المسيحية جدارتها بالامتداح من خلال نقاوة الحياة الواضحة لأعضائها. هذا، وقد أرست لنفسها نمط حياة مغايراً تماماً لحضارة ذلك الزمان التي عرفت بانحرافاتها الجنسية وفجورها، وغطرستها المستفحلة، وبمبارياتها وألعابها الدموية، وبمواقفها الوحشية القاسية في معاملة العبيد والعمال والخدم الذين يخدمونها. وعلينا ألاّ نتصور أن المسيحيين القدامى كانوا مثاليين كاملين، ولكنهم كانوا، على الأقل، يطمحون إلى الكمال. لقد أقاموا وزناً كبيراً للصفات النبيلة من مثل الأمانة والاستقامة والحنو والشفقة، وقد عقدوا العزم على أن يحبوا جيرانهم كأنفسهم. لقد كان عندهم في بعض الأحيان ذنوب ونقائص، لكنهم، بخلاف باقي الناس، كانوا مستعدين للاعتراف بأخطائهم ومواجهتها ومحاولة معالجتها. إلاّ أن هؤلاء المؤمنين الأوائل، في شمال أفريقيا، كانوا يعرفون انه بعد انزلاقهم يستطيعون القيام وإتّباع المسيح عن قرب أكثر من ذي قبل.
كلما اشتد الظلام، بانت النجوم وضاءة لامعة. هكذا أضاءت محبة المسيحيين وأمانتهم وسط عالم معوّج وملتو. لم يشتك المسيحيون يوماً ولا تأففوا. لقد رفضوا أن يتورطوا في المنازعات، وكانوا مستعدين دائماً لمساعدة كل محتاج. وعندما كنت تلقاهم في الشوارع، كنت تراهم يتحدثون بإخلاص عن أفراحهم وعن أحزانهم. كانوا يعزّون بعضهم بعضاً، ويصلّون بعضهم لأجل بعض. وعندما كانوا يسيرون إلى أعمالهم، كانوا يترنمون بترانيم روحية محببة إلى قلوبهم المشتاقة. كانوا يشكرون الله في كل حين وعلى كل شيء، وكانت حياتهم واضحة سامية فوق جيرانهم. كانوا يشعرون بنهم شعب الله الخاص وكانوا يعيشون التوصية الكتابية القائلة:"فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعةً وطول أناة. محتملين بعضكم بعضاً ومسامحين بعضكم بعضاً إن كان لأحد على أحد شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً. وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال."(18)
لقد اهتموا فعلاً أحدهم بالآخر. وكتب الرسول بولس إلى أخ مؤمن بخصوص أحد عبيده اللصوص الهاربين قائلاً له إن هذا العبد قد اعتنق المسيحية لتوّه، وحثه على لزوم مسامحته وقبوله "لا كعبد في ما بعد أفضل من عبد أخاً محبوباً."(19) إن هذه النظرة التي كان المؤمنون ينظرون بها إلى الحياة لم تمت أبداً بنهاية العصر الرسولي. فقد كانت كل من بريبتوا السيدة، وفيليستاس خادمتها، تقاسمان الإيمان المشترك، فعاشتا وماتتا سوية، وكانتا تشجعان وتطمئنان إحداهما الأخرى، وذلك على المدرج الروماني بمدينة قرطاجة. هكذا كان اتحاد الجماعة المسيحية والتحامها، إذ كان بإمكان الأرامل واليتامى والمسافرين البعيدين عن بيوتهم وذويهم أن يجدوا الدفء والترحيب المملوءين محبة وعطفاً، حين تستضيفهم العائلات المسيحية. وحتى الوثنيين واليهود في الجوار، كانوا يحصلون على المساعدة التي يقدمها لهم المسيحيون. ولم يكن أحد يعرف شيئاً كهذا قبل بزوغ فجر المسيحية في العالم.
كان الزنا والدعارة وغيرهما من الرذائل القبيحة تغرز القيح العفن في المجتمع الوثني الذي كان المسيحيون يعيشون فيه جنباً إلى جنب معهم، وكان هذا يسبب للناس تعاسة لا توصف وشقاء لا يحد. لقد جعل القانون عملية الطلاق أمراً سهلاً، وكان يحصل لأتفه الأسباب، الأمر الذي جعل الحياة العائلية حياة مستحيلة تقريباً. كان الوالدان يعيشان في محيط يشوبه الشك وعدم الثقة، وكان العديد من الأولاد لا يعرفون أين أبواهم، ولا يعرفون حتى من هم أبواهم. أما حياة الجماعة المسيحية، فكانت تختلف اختلافاً جذرياً. فالمسيحيون كانوا يحترمون الزواج. وكانوا يتحدثون مطولاً عن العلاقات الخاصة المميزة بين الزوج وزوجته، والتي يشبّهها الكتاب المقدس بالعلاقة بين المسيح والكنيسة:" أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب...... أيها الرجال أحبوا نسائكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة واسلم نفسه لأجلها."(20)
لقد جاءت المسيحية بمبدأ جديد إلاّ وهو مبدأ الإخلاص والولاء، إلاّ أن إخلاص الزوجين احدهما للآخر، تجاوز جميع الولاءات الإنسانية الأخرى. لم يكن الطلاق اختيارياً عند المسيحيين، فلقد قال المسيح:"ويكون الاثنان جسداً واحداً إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان."(21) تعلّم القرينان أن يهتما ويقدرا احدهما الآخر، ويبذلا قصارى جهدهما ليعيشا بتالف وانسجام. وآمنا بان المقصود من القران هو المساعدة المتبادلة بين القرينين، والتشجيع في الأمور الروحية والعملية. فان علاقتهما الزوجية تتنامى باستمرار وتصبح نفيسة وغالية. قال ترتوليانوس:" يا لروعة الاتحاد الزوجي بين مؤمنين ذوي رجاء واحد، وعهد واحد، وتهذيب واحد، وأسلوب حياة واحد. إنهما أخ وأخت، اثنان من خدم الرب، روح واحدة وجسد واحد....يصليان سوية، ويصومان معاً، يعلّمان وينصحان ويدعمان واحدهما الآخر. يذهب كلاهما إلى كنيسة الله، ولمائدة الرب. يتقاسمان المحن والاضطهادات مع الآخرين، والنمو الروحي. فلا يكتم واحدهما شيئاً عن الأخر، ولا يتجنبه ولا يغضبه. يزوران المرضى بسرور، ويقدمان الاحتياجات للمعوزين ويتصدقان بسخاء، ولم يكونا في حاجة إلى إخفاء رمز الصليب ولا إلى كبح الفرح في المسيح ولا إلى إعاقة بركاته، يترنمان بتسابيح ومزامير معاً، والمسيح يسر بما يراه ويسمعه منهما، ويمنحهما سلامة.وعندما يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه، يكون الرب في وسطهم، وحيثما يكون الرب لا يستطيع إبليس أن يأتي."(22)
فحيثما يعني الارتباط الزوجي تشكيل وثاق جديد، فهو ضمناً حل الروابط القديمة. فالزوجان كمسافرين يحزمان أمتعتهما ويودّع كل منهما أبويه والبيت الذي نشأ فيه وترعرع. وباتحادهما يتأسس بيت جديد، ومهما كان هذا البيت متواضعاً، فإنهما يغنيانه بمحبة المسيح. تقول كلمة الله عن الاتصال والانفصال: "من اجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته. ويكون الاثنان جسداً واحداً."(23) إن العادة القديمة أن تنتقل الزوجة لتعيش مع زوجها في بيت أهله هي عادة محفوفة بالصعوبات والمخاطر، ولكن كسر هذا التقليد ليس بالأمر اليسير، إذ يجب القيام به بطريقة ودية وعاطفية. فالأقارب المسنون يتوجب احترامهم وتقديرهم، وإذا دعت الحاجة إلى إعالتهم، ينبغي تقديم مثل هذه الإعالة. ولكن، على الآباء ألاّ يتوقعوا من أولادهم اللذين تزوّجوا طاعة عمياء وإذعاناً كاملاً بعد زواجهم. فقد أصبح الزوج الآن مسؤولاً عن بيته، وعن زوجته، وطبعاً، عن أولاده في ما بعد. ولا يمكن للزوج في أي حال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب، أن يتهرب من مسؤولياته وواجباته. وحال الأولاد كحال والديهم، فبعد أن يكبروا يتركون هم بدورهم ذويهم وبيوت آبائهم، ويتزوجون ليبنوا لأنفسهم عشهم الزوجي الخاص بهم. وهم يعلمون علم اليقين أن بإمكانهم الاتكال على إعانة والديهم وحبهم لهم، وعلى الصلوات التي يرفعها هؤلاء المحبون لأجلهم، في وقت احتياجاتهم.
والنساء بشكل خاص، سررن بالتقدير الذي صار من نصيبهن في الجماعة المسيحية. كنّ قبلاً مبعدات عن العديد من الديانات السرية، كما أن دورهن في ديانات أخرى كان يثير الشبهات. أمّا المرأة المسيحية، فقد كان لها مقامها وامتيازاتها الجديرة بالاحترام، وكانت لمواهبها وأحلامها متنفسات ومخارج مفيدة ونافعة، خصوصاً في ما يتعلق بالتوجيهات والإرشادات التي كانت تقدمها للشابات والأطفال. فقد كان هناك دائماً أرامل وأيتام يحتاجون إلى العناية، فضلاً عما يقدّم للمسافرين من حسن ضيافة وعناية. وكان الزوج يستطيع أن يترك كثيرا من المهام والمسؤوليات في يدي زوجته المسيحية بثقة كاملة، وكان يقدّر مساعدتها اللطيفة ونصائحها السديدة. وقد أشار اغسطينوس إلى أن حواء لم تؤخذ من أقدام آدم لتكون بذلك امة له، ولا أخذت من رأسه لتتحكم به وتستعبده، ولكنها أخذت من جنبه حتى تكون شريكة حياته الودودة المحبوبة.(24) فكم هو جميل أن يتمكن الزوجان من أن يصليا معاً لأجل كل ما يهمهما أو يختص بحياتهما، ويبتهجان معاً عندما يستجيب الله لهذه الصلوات. "امرأة فاضلة من يجدها لانّ ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة،....... تفتح فمها بالحكمة وفي لسانها سنّة المعروف."(25) كانت بريسكلا نموذجاً لمثل تينك النسوة، وهي وأمثالها مذكورات في صفحات الكتاب المقدس، وكان هناك كثيرات مثلها في أفريقيا الشمالية.(26)
الأولاد أيضاً، كانوا موضع ترحيب في الجماعة المسيحية. فقد قال الرب يسوع نفسه عنهم: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله."(27) وغالباً ما كان إيمان الأطفال العادي البريء دافعاً للأبوين، وحافزاً لهما للعبادة. وعندما كان الأبوان يقرآن الكتاب المقدس، كانا يجدان نصائح كثيرة عن كيفية تربية أبنائهم "بتأديب الرب وإنذاره."(28) كان تيموثاوس واحداً من أولئك المباركين بهذه التربية المسيحية منذ نعومة أظفارهم، فكتب له بولس قائلاً: "إذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك افنيكي ولكنني موقن انه فيك أيضاً." ويتابع الرسول متحدثاً إلى تيموثاوس: "وإنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع."(29)
كان مثل هؤلاء الأولاد أحراراً في تكريس شبابهم وبذل أفضل فترات عمرهم في سبيل ملكوت الله، مع مباركة ذويهم وتشجيعهم. وبسبب قدرتهم على التمييز بين الصالح والطالح، فقد التصقوا بالأول ورفضوا الثاني. لم تكن لهم ذكريات مخجلة عن ماضٍ حافل بالممارسات الشهوانية، ولا ندموا في يوم على سنين ضائعة. ولم يكتسبوا في يوم من الأيام تلك الأخلاق الإنسانية والنزقة التي كانت لهؤلاء الذين منذ نعومة أظفارهم لا يفكرون إلا في أنفسهم.
لقد وفروا على أنفسهم ذلك الصراع المرير الذي يعيشه كل إنسان يأتي إلى المسيح في كهولته راغباً في ترك عاداته الشخصية الخاطئة الراسخة. أما أن يولد الإنسان في عائلة مسيحية، فهذا امتياز مدهش جميل، وكذلك عودة الإنسان إلى البيت المسيحي الموحد الذي تسوده المحبة والمودة، بعد يوم شاق في المدرسة أو في السوق أو في الشارع أو في المدينة، فإن ذلك لا بد من أن يملأ قلب المؤمن الشاب بالسرور والغبطة.
كان المسيحيون يشجعون بعضهم بعضاً، ليعملوا بجد ويبذلوا عرق الجبين في كسب أرزاقهم، وهكذا يتمكنون من مساعدة الآخرين ممن هم اقل منهم حظاً، خصوصاً أولئك الذين لا يستطيعون الاستمرار في أعمالهم، بسبب المرض والعجز.(30) والمسيحية تعتبر العمل واجباً طبيعياً على كل أتباعها. كان الرسول بولس يكسب قوته من طريق عمله اليدوي، وفي صناعة الخيام. ويظهر أن الأعمال اليدوية لم تكن معتبرة من الأعمال المخزية.(31) وقد كتب بولس: "إذ انتم تعرفون كيف يجب أن يُتَمَثّلَ بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم ولا أكلنا خبزاً مجاناً من احد بل كنا نشتغل بتعب وكدّ ليلاً ونهاراً لكي لا نثقل على احد منكم"(32)
في الواقع، بدأ كثيرون ممن اعتنقوا المسيحية، ولأول مرة في حياتهم، بمزاولة عمل شريف وكما يقول الكتاب المقدس: "لا يسرق السارق في ما بعد بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطى من له احتياج."(33) نظرت الكنيسة المسيحية بازدراء واستنكار إلى أولئك الأصحاء القادرين على أن يعملوا، ولكنهم كسالى مهملون. فكتب بولس الرسول بهذا الخصوص قائلاً: "فإننا أيضاً حين كنا عندكم أوصيناكم بهذا انه إن كان احد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل."(34) فالمسيحيون هم من يكونون "مستعدين لكل عمل صالح"(35) وبالخص إذا كان عليهم إعالة من يعتمدون على ما يجنونه من معاش. "وان كان احد لا يعتني بخاصته ولا سيما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو شر من غير المؤمن."(36) لقد كانت هناك فرص كثيرة للذين يريدون أن يعملوا في المدن والقرى والأرياف، ولكل من لم تمنعه كبرياؤه من تلويث يديه بأية حرفة مهما كانت وضيعة. ولم تكن الأعمال الشاقة والأوضاع الاجتماعية المتدنية تعتبر وصمة عار ففي زمن الاضطهاد، أُرسل الكثير من الناس إلى المناجم، وكان المؤمنون اللذين يسخّرون للعمل في هذه المناجم يفتخرون بعملهم هناك، وهم يمجدون الرب دائماً، ويسبحونه على الرغم من أنهم في وضع لا يحسدون عليه. وكانوا يؤمنون بأن الله هو الذي أرسلهم إلى هذا المكان الوضيع ليكونوا نوراً يضيء في الظلمة كرسل المسيح، وليس كسجناء للإنسان.
ومع هذا، فقد كان هناك أعمالاً لا يقبل بها المسيحيون. فهم لا يقبلون مثلاً أن يعملوا كمجالدين. والمجالد كما أسلفنا، هو شخص يقاتل حتى الموت لإمتاع الجماهير في الإمبراطورية الرومانية، وبخاصة في ذلك العصر الذي تميز بالترويع والترهيب، سواء أكان هذا الترويع والترهيب ضد الإنسان نفسه أو ضد الحيوان على حد سواء. كذلك لم يكن المؤمن يقبل أن يشارك أو يتورط في أعمال الدراما على المسارح الوثنية، بسبب ما يعرض هناك من مشاهد بذيئة ولا أخلاقية - أساطير وخرافات الآلهة - تلك الأساطير التي كانت تُمثل بقناع ديني على مرأى الجماهير الفاسقة الفاسدة. والمسيحي لا يشرك نفسه في أي شكل من أشكال الوثنية أو علم التنجيم، أو أية مهنة ترتبط بعبادة الأوثان، كصناعة المصابيح وأكاليل الزهور وغيرها من الزخارف والحلي التي تخص المعابد. ولم يكن ممكناً للمسيحي أن يقبل العمل كمعلم في مدرسة لان عليه أن يعطي دروساً تتنافى ومبادئه المسيحية. فجدول الضرب لم يكن في ظاهره مؤذياً، غير أن حروف الهجاء كان يتم استظهارها وحفظها غيباً من طريق أنشودة ترتل فيها أسماء الآلهة الوثنية.(37) كذلك كان المسيحي يرفض أن يكون قاضياً حيث انه قد يطلب منه أن يحكم بسفك دم. والمسيحي لم يكن يرغب في أن يكون محامياً حيث انه قد يطلب منه أن يدافع عن رجل مذنب والترافع لصالحه، أو قد يطلب منه اتهام رجل بريء يتم تجريمه. ولا يستطيع المسيحي أن يكون خطيباً عاماً خصوصاً إذا كانت خطبته هذه تشتمل على التملق والمداهنة والإطراء والأكاذيب، وذلك لتمجيد حاكم مجرد من المبادئ الخلقية، أو للثناء على احد المتبرعين الوثنيين. وقد تخلى رجال كثيرون عن أعمال كانوا قد باشروها، لأنهم لم يستطيعوا أن يوفقوا بينها وبين ضمائرهم أو مبادئهم المسيحية، واكتفى هؤلاء بأشغال أكثر تواضعاً. فالغنى، والوسيلة التي تؤمن الحصول عليه، ليسا نهاية المطاف. فالمواعظ الكنسية التي حفظت خلال القرون الأربعة الأولى للميلاد، تخبرنا بأن الكنيسة كانت تحث المؤمن ذا الإمكانات المتواضعة على أن يقتنع بدخله المحدود. أما ذوو الدخل الكبير، فعليهم أن يكونوا كرماء يدفعون بسخاء لعدد وافر من المحتاجين. وقد طُلب من التجار أن يتأكدوا من تثبيت أسعار عادلة، وأن لا يطلبوا أكثر من هذه الأسعار العادلة من المشترين، وكذلك ألاّ يقبلوا بأسعار أدنى منها.
وخلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، اعتقد المسيحيون أن خدمة الجيش تتناقض مع الإيمان المسيحي. وبالطبع فإن هذه الخدمة تورطهم في استعمال العنف والاضطرار إلى سفك الدماء، الأمر الذي لا يتوافق مع تعاليم المسيح.(38) فهل بالإمكان أن نتصور الرب يسوع المسيح يقتل إنساناً إذا ما صدرت إليه الأوامر بذلك من قائد فرقة عسكرية؟ ولا حتى، يمكن لإتباعه أن ينفذوا أمراً كهذا. قال ترتوليانوس: "إن تجريد الرب لبطرس من سلاحه، جرد الجنود من أحزمة أسلحتهم منذ ذلك التاريخ فصاعداً."(39) قد أعطى ترتوليانوس أسباباً أخرى لعدم التحاق المسيحيين بالجيش. فأولاً: إن مثل هذه الخدمة تضع المسيحي تحت إمرة سيد غير سيده المسيح، وثانياً: فنها تمنعه من الوفاء بواجباته مع عائلته. وأكثر من ذلك، فإن أصحاب الرتب العليا في الجيش ملزمون في أن يشاركوا في الدعاءات والابتهالات الدينية المقدمة للآلهة، وذلك مع كتائبهم. كذلك لم تطلب الكنيسة من الجنود الملتحقين بالجيش أن يتمردوا أو أن يتسرعوا في معارضة ذوي السلطة. ولم تفرض الكنيسة على الجندي الذي اعتنق المسيحية أن يغادر الجيش بسرعة، بل كانت تشجعه على البحث عن عمل آخر حالما يتحرر من قيود عمله السابق. وهذا لم يكن يسبب أية صعوبة، إذ أن الدولة يمكنها أن تملأ مركزه ورتبته بشكل آخر. وهندما يتحرر الجندي المسيحي من التزاماته العسكرية، فذلك لن يؤثر سلباً في الدولة، لأنه بإمكان الولاية أن تملا مركزه ورتبته بشخص أخر من دون أية صعوبة تذكر. هذا، ولم يكن هناك نقص في عدد المتطوعين من الوثنيين في القوات الإمبراطورية. ومن جهة أخرى، لم يكن المسيحيون يجنَّدون ضد إرادتهم، لذلك فإن هذا الأمر لم يثر أية إشكالات أو بلبلة في أوساط الكنائس المسيحية، في شمال أفريقيا.
وعليه، نرى أن المسيحيين بدأوا يشكلون جماعاتهم الخاصة بهم داخل البنية الرسمية للمجتمع الوثني، مع كونهم آنذاك أقلية مضطهدة تكافح لتبقى، وهي داخل غلاف هذه الإمبراطورية الوثنية القوية. وما كان المسيحيون أن يتصورا في تلك الأيام أن وقتاً سيأتي، يتمكن فيه مسيحي من اعتلاء عرش هذه الإمبراطورية، ومن ثم يَسُنّ قوانيناً تفرض مقاييس ومبادئ مسيحية على العالم المتحضّر بأسره.(40) ومع ذلك كانت الأجيال المسيحية الأولى، في صلاحها الدؤوب والمستقيم، سبباً في احترام جيرانهم ومعارفهم، وباعثاً على قبول الكثير من مثالياتهم في المجتمع العالمي ككل.
حواشي الفصل
1- Latourette Vol. I. p. 251
2- Latourette Vol. I. p. 252
3- (أعمال2: 42 - 47)
4- (أعمال5: 13 – 14)
5- (أعمال 1: 8)
6- (مرقس 12: 13). راجع أيضاً (أفسس 4: 25)؛(رومية 15: 2).
"كانت المسيحية أول ما تتأسس في مكان ما، تقوم بنفسها بأفضل عمل إرسالي. كانت تنمو بشكل طبيعي من الداخل. وكان مجرد حضورها يجذب الناس. كانت نوراً يشع في الظلام وينير هذا الظلام. ومع غياب الجمعيات الإرسالية المتخصصة لهذا العمل المحدد، كانت كل كنيسة محلية بمثابة جمعية إرسالية، وكان كل مؤمن مسيحي مرسلاً وصاحب قلب مضرم بمحبة المسيح، ويسعى جاهداً لربح الناس للطريق نفسه."
(Schaff Hotcc Vol.II p.20)
إن الإمبراطور الوثني يوليان(Julien) (361- 363م) عزا شعبية المسيحية مع انتشارها السريع في بدايتها، إلى ثلاثة أسباب: اللطف، الأمانة، والاهتمام بالموتى (تدبير دفن لائق بالنسبة إلى الفقراء).
(Schaff Hotcc Vol II p.381)
7- (افسس 6: 9)
8- (افسس 6: 5-8)،(تيطس 2: 9و10)
9- Hamman 134 (Sermon 356:7)
10- 1 (كورنثوس 7: 20-22)
11- (فيلبي 4: 4، 11-13)،(تكوين 39: 20-23)
12-(غلاطية 3: 28)
13-Schaff Hotcc (Vol.II p.351); Martyrium 3(ANF Vol. Ip.305)
14- (يوحنا 17: 15)
15- (يعقوب 2: 1-4)
16- (يوحنا 18: 36)
17-Apologeticus 38
18- (كولوسي 3: 12-14)
19-(فليمون 16و17)
20- (افسس 5: 22و25)
21- (مرقس 10: 8و9)
22-Ad Uxorem 2:8 (راجع ترجمة Schaff في Hotcc Vol.II p.364)
23- (افسس 5: 31)
24-Schaff Hotcc Vol.II p.363
25-(أمثال 31: 10، 11، 26)
26-(أعمال 18: 26)
27-(مرقس 10: 14)
28-(افسس 6: 4)
29- (2تيموثاوس 1: 5 ؛ 3: 15)
30- (أعمال 20: 34و35)
31-(أعمال 18: 3)
32-(2 تسالونيكي 3: 7و8)
33-(افسس 4: 28)
34-(2 تسالونيكي 3: 10)
35-(تيطس 3: 1)
36-(1 تيموثاوس 5: 8)
37- لقد اعتبر ترتوليانوس أنه كان من الضروري على الأولاد المسيحيين في المجتمع الوثني أن يلتحقوا بمدارس وثنية: وإلاّ سيشبون أميين. وبالمقابل، سيساعدهم ما حصلوا عليه من تعليم مسيحي في البيت على تقويم ما يدرسونه والتمييز بين الحق والباطل. ففي المدرسة، يكون الفتى المسيحي "في أمان، كمن يقبل السم من دون أن يشربه."(De Idolatria 10). وهذا الأمر، زاد بالطبع من مسؤولية الأهل لجهة تعليم أولادهم ومساعدتهم على التمييز.
38- مثلاً، (متى 5: 39، 40)
39-De Idolatria 19، بالإشارة إلى (متى 26: 52)
40-مثلاً، لقد اصدر الإمبراطور قسطنطين في العام 315م قانوناً يحظر فيه وسم العبيد على الوجه. وفي السنة التالية، سهل عملية الإعتاق إذ جعل لها شرطاً واحداًَ: أن يوقع سيد العبد شهادة بهذا الخصوص، وذلك عوضاً عما كان يدور من قبل من احتفال بالإعتاق في حضور الحاكم ومساعده. كذلك شرّع الإمبراطور لمنع الأهل من قتل الأولاد غير المرغوب فيهم.
(Schaff Hotcc Vol.II pp 350،370)
للحصول على المزيد من المعلومات بخصوص حياة الكنائس المسيحية الأولى، يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:
Green pp. 134 – 199،234 -285;Bainton pp. 71 -110
Neill pp. 43 – 44;Latourette Vol. I pp. 244،261- 265،291
Schaff Hotcc Vol. II pp. 334 – 386; Foakes – Jackson pp. 236 – 239
- عدد الزيارات: 4619