Skip to main content

الفصل الثاني: الانفتاح على العالم المتحضر

كانت قرطاجة موجودة قبل واقعة بربيتوا بألف سنة، واستمرت ناشطة خلال هذه الحقبة من الزمن. ويشكل أولئك الناس الذين أقاموا في المدينة العظيمة، مجموعة أقوام مختلفة متنوعة، وجدوا طريقهم إليها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب. بعضهم جاء من البحر وتزوج من فتيات القوم الذين كانوا يقطنون في تلك الديار منذ آلاف السنين، ويرعون قطعانهم ومواشيهم في السهول الساحلية. ونزل بعضهم الآخر تدريجياً من جبال الأطلس والريف، مدفوعين بنزاعاتهم أو طموحهم إلى الأفضل. آخرون منهم سافروا شمالاً على طول طريق القوافل الصحراوية التجارية. وحينما بلغوا مدينة قرطاجة لم يستطيعوا أن يذهبوا أكثر من ذلك، لأن هذه المدينة هي الحد الأقصى والتخوم الأبعد على امتداد البحر الأبيض المتوسط، حيث لا يمكن تعديه، أو السفر لأبعد منه. لقد تزامل البحار مع المزارع، وترافق أحد أعيان المدينة مع العبد، والإفريقي مع الأوروبي، فاختلط هؤلاء الأقوام، بعضهم ببعض إلى حد كبير، في الشوارع الضيقة، من المدينة القديمة، ومزجوا لهجاتهم المحلية وبضائعهم في أسواقها. وقد ارتفع سكان هذه المدينة في القرن الثالث الميلادي إلى 100000 نسمة.

وعندما أسس الفينيقيون الأشداء قرطاجة، استخدموها كمركز تجاري صغير لهم، وقد وصلوا إلى هذه البقعة من شرقي البحر الأبيض المتوسط نحو سنة ألف قبل الميلاد. ولكتن الفينيقيين لم يكونوا أول من سكن في محاذاة هذه المنطقة الساحلية، فقد وصف الكتاب الأوائل الأفارقة بأنهم من الأمازيغيين (Imazighen) أو البرابرة، الذين قابلهم الفينيقيون عندما اندفعوا بمراكبهم الغريبة إلى السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وكان معظهم من البدو الرحل الذين امتهنوا تربية المواشي والأغنام والماعز، وهم يعيشون في خيم ينتقلون من مكان إلى آخر حسب المواسم، ويقيم بعضهم الآخر إقامة ثابتة دائمة في الوديان النجدية وهم يعيشون في أكواخ عبارة عن جدران أو أسوار من الطين أو الحجارة. ويعتنون بشجر الزيتون ويستغلونه، ويربون الدواجن، ويبذرون حبوب الحنطة والشعير في حقول صغيرة. أما نساؤهن، فكن يحكن الثياب، ويصنعن الخزف، بينما يعمل الرجال بأعمال الحجارة والأخشاب، صانعين منها أنواعاً عديدة من الأدوات التي قد يحتاجون إليها في حياتهم اليومية. كانت المعادن نادرة الوجود ولم يكونوا يعرفون النقد بعد.

كان الغذاء الرئيسي المتوفر لديهم، وهو عبارة عن سميد مصنوع من الحنطة والشعير المجروش، يعرف باسم كسكسو (Couscous). وكانوا يلبسون رداءاً طويلاً مزيناً بشريط أحمر، وفي الصقيع، كانوا يلبسون برانس مقلنسة من الصوف. وكانوا يحبون المجوهرات ويهندمون لحاهم وشعورهم ببراعة وإتقان. وكانوا يشتهرون ببنيتهم الجسدية القوية، وبطول أعمارهم.

تعيش المجموعات العشائرية مع بعضها تحت مراقبة الجد الأكبر أو العم الأرشد وعنايته. وتشترك في امتلاك الأراضي. وكانوا يبنون قراهم بجانب الوديان، حتى يتمكنوا من حماية أنفسهم بسهولة من الأعداء وقت الحاجة. وقد شكلوا اتحاداً من العشائر والقبائل للحماية المشتركة المتبادلة، وفي بعض الأحيان للمشاركة في العدوان. وتقود مثل هذه الاتحادات الكونفدرالية عادة، جمعية تتألف من رؤساء العشائر. ويمكن لرجل مشهور بشجاعته العسكرية أن يوحد العشائر، ويكون شيخاً لها أو حتى ملكاً لبعض الوقت، وذلك في وقت الاضطرابات أو القلاقل.

لم يتهجم الفينيقيون على أراضي هؤلاء الأفارقة الأصليين، وإنما اقتنعوا ببساطة، بأن ينشئوا مستعمراتهم أو مستوطناتهم الصغيرة بمحاذاة ساحل البحر الأبيض المتوسط وكان الفينيقيون قد أنشئوا لهم قاعدة رئيسة في قرطاجة بين الأعوام 800 – 700 قبل الميلاد، واستمروا في بناء المستوطنات باتجاه الغرب، وأقاموا لهم مستودعات ومخازن ومراكز تجارية بمحاذاة الساحل عبر جبل طارق مروراً بالساحل الأطلسي المغربي، وامتدوا إلى ما ندعوه الآن العرائش والصويرة. كان الفينيقيون رحالة ومسافرين عظماء، وقد احتفظوا لهم بخطوط اتصال بحرية من وإلى كل مكان معروف في العالم آنذاك، من الأطلسي وحتى البحر الأسود امتداداً إلى القنال الإنكليزي.

إلا أن هذه الشبكة التجارية الواسعة المديدة لم يكتب لها البقاء. فقد كان الفينيقيون يلحظون، سنة بعد أخرى، كيف أن بلادهم الأصلية، في الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، تتعرض لقوى عسكرية ساحقة معادية تهددهم، وبخاصة من الإمبراطورية الآشورية. ولقد أجهز أخيراً، القائد اليوناني العظيم "الاسكندر" على العاصمة الفينيقية "صور" التي سقطت في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد وجدوا أن جذورهم الشرقية قد انتزعت بالقوة، اختار المغامرون المستوطنون بمحاذاة الساحل الإفريقي البقاء هناك، وبناء مستقبل جديد لهم في وطنهم المتبنى، وعرفوا عندها باسم "القرطاجيين".

والفينيقيون، أو القرطاجيون، كما دعوا فيما بعد ،يبدو أن قطعهم لعلاقاتهم بوطنهم، أعطاهم زخماً جديداً، وذلك على مدى الثمانية قرون اللاحقة. وهكذا تطور القرطاجيون الدؤوبون على العمل وأنشئوا إمبراطورية كبيرة هيمنت على جزء كبير من البحر الأبيض المتوسط، وسببت قلقاً شديداً لا يستهان به لمنافسيها عبر البحار المتمثلين بروما. كان القائد القرطاجي الموهوب هنيبعل على أهبة احتلال مدينة روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية. ففي العام 219 قبل الميلاد، بدأ هنيبعل بعبوره جبال الألب بإسبانيا، في حملة عسكرية نقل خلالها 37 فيلاً قتالياً. ولكن الفيلة ماتت، وكذلك مات الكثير من رجاله، وبقي هنيبعل ينتظر وصول الإمدادات العسكرية التي لم تصله. لذا فقد باءت حملته هذه بالفشل. وكان سقوط هذا القائد، كسقوط قرطاجة نفسها التي احتلها الرومان بعدئذ.

والحقيقة أن القرطاجيين لم يحاولوا قط مهاجمة إفريقيا الشمالية، أو حكمها بالقوة. وببساطة، فقد نظروا إلى القارة الجنوبية الكبيرة وكأنها مصدر من مصادر المواد الخام، وحيثما وجدوا رجالاً، يستخدمونهم للقتال في حملاتهم العسكرية في أماكن أخرى. وقد أنشأوا مراكز خارجية، إلا أنها لم تكن أكثر من أسواق تجارية محاطة بضياع واسعة لإنتاج زيت الزيتون والحنطة والعنب. ولكن هذا الاستيطان الذي أسسه القرطاجيون، لم يكن كافياً لحمايتهم من أي هجوم عسكري حقيقي قد يتعرضون له، لذا اعتمدوا على بناء علاقات أخوية وثيقة بالأمازيغيين، وأوجدوا لهم علاقات تجارية تربطهم وجيرانهم. كانت هذه العلاقات، لمصلحة كل من القرطاجيين والأمازيغيين على حد سواء. ولتقوية هذه الروابط، فقد تزاوج سكان الجاران بعضهم مع بعض، وقام القرطاجيون بتعليم الأمازيغيين لغة فينيقية خاصة بهم تدعى البونية (Punique). وقدموا لهم شعارهم الديني الوثني، وجرت بمقايضة بين الفينيقيين من جهة، والرعاة والمزارعين المحليين من جهة أخرى: جلبوا لهؤلاء الأفارقة البضاعة المعدنية المشغولة يدوياً، والزجاجيات، والثياب الملونة المصبوغة، من أطراف العالم المحيط بأطراف البحر الأبيض المتوسط، وقايضوا بضائعهم هذه بالصوف والأحصنة وزيوت الزيتون والعاج الإفريقي، فضلاً عن العبيد، وريش النعام الذي مصدره تجار الصحراء. قدم القرطاجيون للأمازيغيين أشجاراً جديدة لم يكن هؤلاء يعرفونها من قبل، كالتين والكروم والرمان، وعلموهم كيفية غرسها والاعتناء بها. إن الزراعة الواسعة النطاق التي أدخلها القرطاجيون إلى إفريقيا، كانت ابتكاراً جديداً بالنسبة إلى الأفارقة الذين كان عملهم حتى ذلك الحين، محصوراً في تربية الأغنام والأبقار، وتوفير حاجيات عائلاتهم من البساتين والحقول الصغيرة. وافق الأمازيغيون فرحين مسرورين على أن تستعمل أراضيهم بتلك الطرائق. وبالطبع فقد استفادوا كثيراً من الأسواق الجديدة التي فتحت أمام إنتاجاتهم الغذائية والحيوانية. وليس من شك في أن التغيير الكبير الذي طرأ على غذائهم وأطعمتهم والعدد المعدنية والبضائع المشغولة يدوياً التي زودهم بها القرطاجيون، زادت من سرورهم وبهجتهم أيضاً، حيث كانت هذه جميعها تدل على ذوق رفيع وثقافة عالية. لقد شرع الأمازيغيون يلبسون الأزياء الأرجوانية، والمجوهرات الثقيلة التي يستعملها القرطاجيون عادة، كما تعلموا استخدام لغتهم أيضاً.

ولكن هذا لم يدم إلى الأبد، لأنه، على الرغم من أنه كان للقرطاجيين أصدقاء في إفريقيا، فقد كان لهم أعداء أقوياء أيضاً في مناطق أخرى من العالم. فالرومان صعقوا بالنجاحات السريعة المؤقتة التي حققها هنيبعل، جنرال قرطاجة. لذلك ففي القرن الثاني قبل الميلاد، زحفت الجيوش الرومانية، وشارفت أبواب قرطاجة، ولم تمض فترة قصيرة حتى سقطت مدينة قرطاجة، واستسلمت لمهاجميها في العام 146 قبل الميلاد.

كان الهدف الأهم من دخول الرومان إلى إفريقيا الشمالية هو تدمير قوة منافسهم الأول في البحر الأبيض المتوسط، والعودة إلى ديارهم بعد تحقيق هذا الحدث الهام. ولكن لسبب لم يتمكنوا من تجنبه، وجدوا أنفسهم وقد تورطوا في نوع من الاتحاد الجديد مع القادة الأمازيغيين، الذين أسرعوا بدورهم إلى تشكيل صلات وروابط مع الوافدين الجدد، كتلك الروابط التي كانت تربطهم بأسلافهم من القرطاجيين. وهكذا بدأ الرومان يعون أهمية الطاقات الكامنة في إفريقيا، فراحوا يطوعون مرتزقتها لدى القوى العسكرية المرابطة آنذاك على الحدود الأخرى للإمبراطورية، والتي كانت في حاجة إلى إمدادات. فمنذ فترة، استعيض عن الجنود الرومانيين بالإداريين، لوضع المخططات المطلوبة لاستعمار إفريقيا الشمالية، فبدأ المستعمرون يأتون من الأجزاء الأخرى للإمبراطورية، ولم يكن معظم الوافدين من إيطاليا نفسها، بل كانوا من الغاليين والإسبانيين والدلماطيين والسوريين واليهود الذين أضافوا دماءهم وعاداتهم إلى الخليط الموجود قبلاً في مدينة قرطاجة. وتكلم هذا الخليط من الناس اللغة اللاتينية واليونانية من دون أن يتكلموا البونية.

كان الرومان من أعظم الإداريين في عصرهم وأبرعهم. فإذا قرروا يوماً أن يقيموا في بلد ما، كانوا يشرعون بنشر تنظيمات إدارية مناسبة. وعليه، فقد بدأوا بتنظيم مقاطعة إفريقيا الشمالية، بكل نشاط. وقد نظروا إلى إفريقيا أولاً على أنها مصدر جيد للطعام والغذاء، وساورهم القلق، كما هي عادتهم دائماً، على كيفية تغطية احتياجاتهم للخبز، وذلك طبعاً بسبب اتساع الإمبراطورية وازدياد احتياجاتها. لذلك، قامت السلطات الرومانية باقتلاع أعداد كبيرة من أشجار الزيتون، وزرعت مكانها الحنطة والشعير. وكذلك قطعت من أشجار الغابات الموجودة بمحاذاة الأنهار أو البحار التي تمكنهم من شحنها. وخلال فترة وجيزة، نظم الرومان أعمال ري واسعة، وبنوا القنوات لمدن متعددة كقرطاجة وقيصرية (شرشال)، وشرعوا بتعبيد الطرقات بأسلوبهم المميز وهو استعمال البلاطات الضخمة التي كانوا قد استخرجوها من المقالع حديثاً.

في البادية، سمح الرومان للقادة والشيوخ المحليين الأمازيغيين أن يحكموا على ما كان تحت سيطرتهم من البلاد والناس. والقادة الأمازيغيين والقرطاجيين الذين قدموا الطاعة والولاء للإمبراطور الروماني، فقد منحوا وبسرعة، منزلة خاصة، باعتبارهم مواطنين رومانيين: فاستفاد هؤلاء من وضعهم الجديد هذا. وهكذا، وبسرور لا يوصف، وجد هؤلاء القادة والرؤساء الأمازيغيون والقرطاجيون أنهم قادرون على أن يتبوأوا مناصب عليا رفيعة في السياسة وفي الهيئات أو السلطات الاجتماعية الأخرى في المدن التي جرى تطويرها وإنماؤها حديثاً. وقد أصبح العديد من الأفارقة قادة في الجيش الإمبراطوري. وفي سنة 190 ق.م صار ما يقارب ثلث المجلس الذي يحكم الإمبراطورية من روما، مشكلاً من أعضاء إفريقي الأصل. وهكذا انتخب أحد الأمازيغيين المدعو سبتيميوس سفيروس (Septime Sévère) إمبراطوراً لروما في وقت مبكر من عام 193 قبل الميلاد. هذا لأن التعيينات الإدارية في روما كانت تبنى على أساس الاستحقاق والكفاءة. كان بإمكان أحد الأمازيغيين الذي أصبح حاكماً في روما أن يكتب باعتزاز واضح: "في رأيي، إن عصرنا البشري مميز، وكأنما قدر له أن يكون كذلك. لأنه أنتج أناساً كثيرين ذوي قدرات عالية، وهو يرى أن الأطفال الذين أنجبهم ورباهم يتبوأون أعلى المراكز وأرفعها:.(1)

أما أولئك الذين لم ينجحوا في مواكبة الركب الإمبراطوري، فقد كانوا غير متحمسين للإمبراطورية. وبما أن المسئولين الإمبراطوريين، كان همهم الأساسي السعي وراء تنسيق ما يختص بتنظيمات الأراضي الزراعية، وفرض الضرائب عليها، الأمر الذي لم يفلح القرطاجيون في إنجازه، فقد اعترض عليهم عموم الشعب الذين كانوا يأملون، ربما، بالحصول على أرباح أكبر بعد أن تغير شركاؤهم التجاريون. لكن ذلك لم يحصل، بل اكتشف الشعب أن الرومان كانوا أكثر رغبة في السيطرة على الأراضي مما كان عليه أسلافهم القرطاجيون. فالقرطاجيون مثلاً، كانوا يدفعون الإيجارات المستحقة عموماً على الأراضي التي يستغلونها. أما الآن، ومع استمرار تقدم زراعة الحنطة وتقلص المراعي، فقد خسرت بعض القبائل أراضي الكلأ التقليدية التي كانوا يستغلونها لرعي قطعانهم، واستولى عليها الرومان لتحويلها إلى مزارع الحنطة والشعير وغيرها. وهنا، فضل الكثير من الرجال الأمازيغيين اختيار العمل كأجراء؛ أما بعضهم الآخر، فقد انتقل مع قطعانه إلى أراضٍ داخلية بعيدة ومرتفعة، وهي بالطبع أقل خصوبة وكلأ. وبذلك فقد أصبح مستقبل الشعب مشكوك في أمره وغامض النتائج، لا اعتماد عليه.

وما إن حل القرن الأول للميلاد، حتى شرع الرومان بتقسيم الحزام الساحلي إلى خمس مقاطعات، وبطريقة سائبة وعشوائية. وكان هذا التقسيم العشوائي السائب يتلاءم، في الواقع، كثيراً مع تنظيمات إدارتهم الحكومية. فمثلاً، امتدت مقاطعة كورينيكيا باتجاه الغرب وبمحاذاة الساحل من مصر إلى ليبيا الحديثة. وإذا توغلنا إلى أبعد من ذلك لجهة الغرب، نجد أن مقاطعة إفريقيا البروقنصلية التي دعيت فيما بعد تريبوليتانيا، تطوق الساحل الذي يدعى الآن خليج سرت. كان هذا مقر الإدارة الرومانية في شمالي إفريقيا والمتمركزة في عاصمتها، قرطاجة، بالقرب من مدينة تونس حالياً. وإذا استمررنا يالتوغل غرباً، فإننا نجد نوميديا وبعدها موريتانيا قيصريانسيس (أي الجزائر حالياً)، ومن ثم موريتانيا تنجيتانا والتي تستمر نزولاً حتى الساحل الأطلسي إلى أن نصل إلى سلا (بالقرب من الرباط). إن المدينة الداخلية فولوبيليس (وليلي) في شمال المغرب، ليست بعيدة عن مكناس في الوقت الحاضر. وقد تطورت بالتدريج حتى أصبحت عاصمة المنطقة الغربية لحين حلول القرن الرابع الميلادي. وعندما أدت فوضى الاضطرابات إلى اضطرار الإدارة الرومانية إلى سحب مراكزها القيادية والإدارية إلى طنجة.

عرفت السهول والجبال الداخلية التي كانت سائبة تقريباً، ولا حكومة فيها، باسم أراضي الجيتوليين أو الموريين (Gétules ، Maures) وكان يحكمها شيوخ القبائل. وقد حكم الشيخ الأمازيغي المدعو يوغرتا (أو يوكرتن) (Jugurtha) (عام 154 – 104 قبل الميلاد) المنطقة حكماً صارماً لا رحمة فيه ولا شفقة، وذلك حتى يتمكن من بسط نفوذه، ومد سيطرته على كل المنطقة التي توجد تحت نفوذ قرطاجة. وفي حدود العام 25 ق.م، كانت المنطقة الممتدة إلى الغرب تحكم من المدعو يوبا الثاني، وهو رجل أمازيغي متزوج من امرأة مصرية تدعى سيلينا (Célène)، وهي ابنة أنطونيو وكليوبترا. وقد شب جوبا في روما، وتفوق في دراسته. وقدم خلال ملكه الذي دام 48 سنة، مظاهر عديدة للحضارتين الرومانية واليونانية في إفريقيا الشمالية. ذاق الأمازيغيون حلاوة التجارة وتقنية الصناعات اليدوية لحضارات البحر الأبيض المتوسط، وسروا كثيراً بحراثة الأراضي وجني المحاصيل والحصادات المتنوعة التي مارسوها. وقد أدى الاستقرار الذي فرضته الإمبراطورية الرومانية في المنطقة إلى تمكن مزارعي إفريقيا الشمالية وصناعها اليدويين من أن يوردوا إلى الأسواق البعيدة الواقعة في أقصى أجزاء الإمبراطورية. وهكذا نعمت بلادهم بالسلام، وحالفهم النجاح والرخاء الاقتصادي بسبب المعاهدات التي عقدوها، والارتباطات الدولية التي حصلوا عليها. لكنهم، في الوقت نفسه، أعطوا صورة غير مشرفة عن المجتمع الروماني المتهرئ آنذاك، حيث أن هذا المجتمع كان يمارس الأعمال الوحشية والفظة في الملاعب والميادين، وقد ترسخّت جذور العبودية المذلة، فضلاً عن الوثنية الفاسدة الفاسقة. وبالإضافة إلى هذا، فإن الرومان قد حكموا البلاد بشكل فعال ومشدد، لكنهم لم يهتموا، إلا قليلاً، بحاجيات أفراد الشعب ومشاعرهم.

وهكذا نرى، أن إفريقيا الشمالية، كانت في السنوات الأولى للميلاد، مزيجاً مختلفاً من الناس، لهم لغات وثقافات متنوعة. وقد اجتذب هذا الواقع مستوطني الأرض الذين توافدوا عن رضا، ليندمجوا في هذا الاتجاه السائد لحضارة البحر الأبيض المتوسط. فتبنوا بسهولة وحماس الأفكار الجديدة للتقنية التي صادفتهم هناك. وهكذا صارت الحقول جاهزة، بانتظار حلول الحدث الجديد والأهم، حيث تبشر السنوات القليلة القادمة بالدخول في عصر جديد وهام، وهو قدوم أشياء لم تعهدها إفريقيا الشمالية من قبل.

جاء الفينيقيون والرومان في السنوات السالفة إلى المنطقة، طمعاً في التجارة والاستيطان، وحباً بالنجاح والثراء ... ولكن، من خلف الأفق الشرقي تحديداً، بدأ بعض المسافرين الأفذاذ يبحرون إلى كوريني وقرطاجة. كانت حوافز هؤلاء المسافرين تختلف تماماً عن غيرهم من الوافدين؛ لم يكونوا يرغبون في الاستغلال الزراعي أو استثمار الموارد المعدنية للأرض، لم يأتوا ليتاجروا مع المستوطنين، وبالتأكيد، لم يأتوا ليستأثروا بالسلطة. لم يحملوا معهم السلاح أو العتاد، ولا الغنى. لم يأتوا بشيء مما تقدم، جاءوا برسالة الأخوة والأمل والطمأنينة. وهؤلاء القوم اختارت بربيتوا أن تسير معهم وأن تنضم إليهم. ومعهم فقط، استعدت لتلقي رحالها، وتسلم حياتها.

ملاحظات:

1- Ayache p. 54

من المصادر الثانوية عما قبل تاريخ إفريقيا الشمالية وعن تاريخها القديم نذكر:

Camps pp. 86 – 119، 145 – 177; Frend pp. 25 – 47; Guernier pp. 51 - 82

  • عدد الزيارات: 4489