Skip to main content

الدرس العشرون: مشاهير الكنيسة في العصور الأولى -5-

سيرة أوغسطين

تكلمنا في درسينا الماضيين عن حياة وبعض مآثر أوغسطين الإفريقي وهو من أشهر قادة الكنيسة المسيحية في القرون الأولى. وقد رأينا كيف أنه بعد اختبار مرير في حياة الخطيئة وفي ظلام الوثنية والبدع التي نشأت حول المسيحية اهتدى إلى الإيمان القويم وصار من أشهر المدافعين عنه ومن مشاهير وعاظ بلاده في إفريقيا الشمالية. وقد ذكرنا أيضاً أهمية التراث الضخم الذي تركه للكنيسة المسيحية وذلك في كتبه العديدة التي بقيت كهبة عظيمة للعصور التالية بالرغم من غزو البرابرة الأوروبيين المعروفين باللندال لبلاده ولحرقهم ونهبهم لمدن شمالي إفريقيا. ومن أهم هذه الكتب: كتاب الاعترافات وهو عبارة عن تاريخ شخصي لحياة أوغسطين ولسيرته من أيام الظلان إلى أيام النور والسلام،ويعد هذا الكتاب من أشهر الكتب التي ظهرت في تاريخ البشرية،ومع أنه يبحث في أمور ذات صبغة شخصية إلا أن أوغسطين يتكلم أيضاً في اعترافاته عن مواضيع عديدة في علم اللاهوت والعقائد الدينية المتعلقة برجوع الإنسان إلى الله وبما قام به السيد المسيح من اجل إنقاذ الإنسان من براثن العبودية.

أما الكتاب الثاني الذي يعد من أهم ما تركه لنا أوغسطين فهو كتاب: مدينة الله وفيه يعطينا بصورة مطولة فلسفة للتاريخ من وجهة نظر الكتاب المقدس والإيمان المسيحي القويم. ومن أهم بواعث صدور كتاب مدينة الله هو أن الوثنيين وضعوا اللوم على المسيحيين والمسيحية بخصوص جميع المصائب التي أخذت تنهال على رومية وخاصة من جراء هجوم البرابرة من قوط وفندال وغيره. جاء كتاب أوغسطين هذا دفاعاً عن المسيحية وانتقاداً للوثنية إن كانت ذات صبغة بدائية أو حضارية. وقد جاء أوغسطين بوجهة النظر الآتية بخصوص تاريخ العالم:

إن الله ينشئ أثناء مسيرة التاريخ مدينته أو ملكوته على هذه الأرض، وهذه المدينة هي التي ستحظى بالنصر النهائي على سائر قوى الشر وهناك مدينة الأرض وهي ذات منشأ ارضي وهي تحت سلطة الشيطان ولا بد لها في النهاية من الانهيار والفناء. فالمهم إذاً أن نصبح من مواطني مدينة الله وهذا يتم بإيماننا بيسوع المسيح.

وترك لنا أوغسطين كتباً عديدة وخاصة في تفسير الأسفار المقدسة. وسنأتي للكلام عن عقيدة كتابية شرحها أوغسطين في كتاباته أكثر من أي لاهوتي آخر في أيامه، وهي عقيدة النعمة، وهي ذات أهمية كبرى في فهمنا لتطوير تاريخ العقائد في العصور المتتالية وجميع الكنائس الإنجيلية أو المصلحة إنما مدينة لأوغسطين بشكل تام نظراً لأمانته العظمى في تفسير وتطبيق تعاليم الكتاب بخصوص الإنسان الخاطئ وحاجته الماسة إلى معونة الله المجانية لكي ينجو من الشر والخطيئة والدمار. ومن الجدير بالذكر أن هذا القائد المسيحي الشهير لم يتكلم عن هذه الأمور من ناحية نظري محضة بل أنه اختبرها في حياته ولذلك فإننا نجد ما تركه لنا من تراث في هذا الموضوع ذو أهمية كبرى.

جاء راهب بريطاني اسمه بيلاجيوس إلى رومية واخذ يعلّم عقائد تتعلق بحالة الإنسان الحاضرة كانت تختلف تماماً عن تعاليم الإنجيل وسائر أسفار الكتاب المقدس! ولم تكن الكنيسة المسيحية قد بحثت قي هذا الموضوع بشكل مفصل نظراً لكثرة المجادلات الدينية والمنازعات التي جرت بخصوص العقائد عن طبيعة الله والثالوث والسيد المسيح وطبيعته الإلهية والبشرية. وهكذا شاءت العناية الإلهية المهيمنة على حياة الكنيسة أن ينزل أوغسطين ( ذو العقلية الجبارة) إلى حلبة الجدل والنقاش العقائدي ويأتي باختباراته الروحية الكثيرة لتساعده في تفسير تعاليم الكتاب المقدس عن حالة الإنسان بعد سقوط آدم في الخطيئة ودخول الشر والموت إلى حياة البشرية.

أنكر بيلاجيوس البريطاني وجود علاقة مباشرة بين خطيئة آدم أي عصيان ادم على الله ووقوعه فغي الخطيئة وسائر أفراد الجنس البشري وعلّم أن الإنسان ينال رضى الله بواسطة جهوده الخاصة. ومع أنه لم يبتعد نظرياً عن تعاليم الكنيسة المتعلقة بالمسيح يسوع إلا أنه كان يعمل بصورة قوية على هدم صرح المسيحية مظهراً بأن الإنسان لم يكن بحالة روحية سيئة إلى درجة تستوجب موت المخلص على الصليب. لم يذكر بيلاجيوس ذلك بصورة علنية ولكن تعاليمه كان لا بد لها من أن تؤدي إلى التقليل من أهمية موت المسيح وعمل الروح القدس في قلب الإنسان، ووجوب الولادة الثانية لكي يقدر الإنسان أن ينال سائر فوائد الفداء الذي كسبه لنا المسيح على الصليب.

كان جواب أوغسطين على تعاليم بيلاجيوس أن الإنسان يرث خطيئة آدم في حياته وان كل إنسان أخطأ في آدم. وهكذا فالإنسان في حالته الحاضرة غير قادر أن يقوم بجميع متطلبات الشريعة الإلهية وهو يبقى إذاً تحت غضب الله. ليس هناك من واسطة للخلاص إلا بالمسيح يسوع وبما قام به على الصليب مكفراً عن خطايا المؤمنين. ولكن الإنسان لا يود من تلقاء نفسه أن يؤمن، أنه أسير لإرادته المستعبدة للخطية والشر. فالإنسان هو إذاً بحاجة مطلقة إلى معونة الله، إلى معونة فوق طبيعية، وهذا ما نسميه بالنعمة، أي تلك الهبة المجانية التي يعطيها الله للناس ممكنا إياهم من القيام بما يطلبه منهم في الإنجيل. فبدون هذه النعمة الخلاصية لا يقدر أي إنسان أن يستفيد من الخلاص المقدم مجاناً في الإنجيل. وقد أثّرت تعاليم أوغسطين هذه عن الإنسان في تاريخ الكنيسة في العصور المتتالية وكان لها أعظم اثر في بزوغ نور عصر الإصلاح الإنجيلي في مطلع القرن السادس عشر.

  • عدد الزيارات: 4861