الدرس السابع عشر: مشاهير الكنيسة في القرون الأولى -2-
في دراستنا لتاريخ الكنيسة المسيحية في القرون الأولى وصلنا إلى مطلع القرن الرابع الميلادي ورأينا من الضروري أن نتكلم عن حياة مشاهير رجال الكنيسة في تلك الأيام لنقف على أعمالهم وسيرتهم ولنقدر التراث العظيم الذي ورثناه عنهم. فالإيمان المسيحي هو إيمان تاريخي بمعنى أنه ليس من استنباط الأمس بل أنه يعود في جذوره إلى التاريخ القديم وقد وضعت أساساته حتى في قرون ما قبل الميلاد. ولا يقدر الإنسان مهما عمل أن يفهم الحاضر بدون أن يفهم الماضي وهذا ينطبق بصورة خاصة على الإيمان المسيحي. طبعاً لأننا لا نكون بذلك واضعين حياة ومآثر مشاهير المسيحيين في القرون الأولى على مرتبة فائقة جداً ومنزهة عن الخطأ. العصمة لله فقط ولكتابه المقدس. كل أمور الإيمان والحياة يجب أن تقاس حسب وحي الله الذي نجده بصورة كاملة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد كلمة الله هي حية لا تعرف السنين والقرون. أعمال الإنسان تندثر وتزول ولكن كلمة الله تبقى إلى الأبدّ.
جيروم:
سندرس اليوم بصورة مقتضبة سيرة رجل فذ من رجالات الكنيسة في القرنين الرابع والخامس من التاريخ الميلادي وهذا هو جيروم. ولد جيروم في بلاد دلماسيا في القسم المتاخم للبحر الأدرياتيكي من بلاد يوغسلافيا الحالية. وكان ذلك حوالي العام 340 م. وقد ذهب إلى مدينة رومية كغيره من الناس في تلك الأيام وهناك أخذ يدرس العلوم الكلامية لدى أستاذ وثني شهير اسمه دوناتوس. وقد كان جيروم ابن عائلة مسيحية ثرية ولكنه لم يكن متدنياً في أوائل حياته بل كان يحيا حياة تخالف الإيمان في مدينة رومية الكبيرة. ويحكى عنه أنه كان يقوم بزيارة السراديب في ضواحي رومية حيث كان الآلاف من المسيحيين قد قبروا أثناء الاضطهادات التي جرت في القرون الأولى. وقد أثرت عليه تلك الزيارات إذ أنه وقف بصورة محسوسة على عظم تضحية المؤمنين في سبيل معتقداتهم المسيحية.
وفي مطلع العقد الثالث من عمره اهتدى جيروم إلى الإيمان بعد اختبار روحي وعزم على ترك العالم والعلوم والآداب التي كان بارعاً فيها باقي أيام حياته لخدمة الله ولدراسة كلمته.
وكما رأينا في درس سابق كانت تلك الأيام شريرة للغاية وكان الكثيرون من المؤمنون من رجال ونساء يذهبون إلى الاعتقاد بأن أحسن طريقة للحياة هي حياة الرهبنة. ولم يختلف جيروم عن غيره من مشاهير تلك الأيام بل نراه ينخرط في سلك الرهبنة ويمضي سائر حياته في التقشف والعمل في سبيل الله.
ومن أهم أعماله التي قام بها جيروم هو ترجمة الكتاب المقدس من اللغات الأصلية: أي العبرية والآرامية واليونانية إلى اللغة اللاتينية. ولا يزال عمله من أعظم الترجمات التي حدثت في تاريخ الكنيسة وفي اللغة اللاتينية بالرغم من وجود أمور عديدة تتطلب التحسين والإصلاح في نص ترجمة جيروم؟ فمن المعلوم أن الرسل وقادة الكنيسة في العصور الأولى كانوا يستعملون اللغة اليونانية في أعمالهم التبشيرية وذلك لكون نلك اللغة منتشرة في سائر بلدان حوض المتوسط منذ أيام ما قبل المسيح. وجميع أسفار العهد الجديد كتبت باليونانية بينما أسفار العهد القديم هي بالعبرية والآرامية. ولكن أسفار العهد القديم كانت قد ترجمت إلى اليونانية في مدينة الإسكندرية من قبل سبعين عام وتسمى هذه الترجمة بالترجمة السبعينية. وهكذا كانت جميع أسفار الكتاب المقدس مفهومة من قبل المتقنين للغة اليونانية في أيام الكنيسة الأولى. ولكن المؤمنين في كثير من البلدان رغبوا في قراءة كلمة الله في لغاتهم الوطنية ولذلك ابتدأ العمل الذي لم ينته إلى أيامنا هذه وهو ترجمة كلمة الله إلى لغات العالم. فهناك ترجمات عديدة أقدم من ترجمة جيروم مثل ترجمة الكتاب إلى اللغة السريانية المعروفة بالترجمة البسيطة وكذلك إلى لغات الأقباط في مصر. وكانت هناك ترجمات في اللغة اللاتينية ولكنها هذه الخيرة لم تكن قد تمت بإتقان، وكانت العادة أن يُلجأ إلى الترجمة السبعينية للعهد القديم في جميع ترجمات الكتاب وإلى اللاتينية قبل أيام جيروم.
طلب أسقف رومية من جيروم العمل على تنقيح الترجمة اللاتينية القديمة للكتاب المقدس وقد بدأ جيروم بعمله. أثناء إقامته الثانية في رومية وذلك في الأعوام 382 إلى 385 ميلادية. أخذ يترجم أولاً الأناجيل الأربعة ثم بقية أسفار العهد الجديد ثم سفر المزامير وبقية أسفار العهد القديم. وقد انتهى جيروم من ترجمته للكتاب المقدس في العام 405 م. وذلك في مدينة بيت لحم بفلسطين.
وقبل أن ينتهي جيروم من عمله كانت الأقسام التي انتهى من ترجمتها تنتشر بسرعة من مكان إلى آخر في جميع البلاد التي كانت تستعمل اللاتينية، وبمرور الزمن حلت هذه الترجمة محل سائر الترجمات اللاتينية القديمة. وفي العصور الوسطى عندما كانت القارة الأوروبية في ما يسمى أيضاً بالعصور المظلمة وعندما ندر وجود من يعرف لغات الكتاب الأصلية كانت ترجمة جيروم للكتاب المقدس الواسطة الوحيدة للوقوف على محتويات الكلمة الإلهية.
ومن ميزات عمل جيروم هو أنه قام به حسب الأصول الصحيحة للترجمة أي الرجوع بصورة مباشرة إلى اللغات الأصلية. كانت سائر الترجمات اللاتينية قد بنيت على الترجمة السبعينية (اليونانية) للعهد القديم. لكن جيروم لم يرض بذلك وهو بذلك يختلف عن الكثيرين من أقرانه في تلك الأيام الذين كانوا ينظرون إلى الترجمة السبعينية كأنها غير قابلة للتحسين. وقد اضطر جيروم أن يدرس اللغة العبرية واللغة الآرامية في البلاد المقدسة ليقوم بعمله حسب مبادئه الصحيحة للترجمة. وكان أيضاً جيروم من أبرع عارفي اللغة اليونانية مما ساعده على تتميم عمله المختص بالعهد الجديد بدون صعوبة كبيرة. ويمكن النظر إلى ترجمة فولجاتا لجيروم المدعوة بالعامية كعمل هام للغاية أثر في تاريخ الكنيسة في العصور المتعاقبة وأنه بذلك شجّع سائر المترجمين في العصور التالية وخاصة في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين على العمل بجد ونشاط كي يقدر كل إنسان أينما كان أن يقرأ كلمة الله في لغة آبائه وأجداده. وننهي كلماتنا عن جيروم وعن عمله العظيم بالقول أنه من واجب الكنيسة أن تعمل دائماً على الرجوع إلى لغات الكتاب الأصلية للوقوف على معاني تعاليم الوحي بصورة دقيقة وأن تجاهد بصورة دائمة في سبيل نشر الكتاب وهذا هو ما تقوم به الآن جمعيات الكتاب المقدس في أكثر أنحاء العالم. وفوق كل شيء على الكنيسة أن تبني إيمانها وحياتها على كلمة الله الدستور الوحيد للإيمان والحياة!
- عدد الزيارات: 4638