الدرس الثالث عشر: نتائج اهتداء قسطنطين إلى المسيحية
فشلت جميع محاولات أباطرة الرومان في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الميلاد للقضاء على الكنيسة المسيحية. وأخيراً اهتدى الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية واعتنق الديانة التي كان أسلافه قد عملوا جهدهم للقضاء عليها قضاء مبرماً! وكما رأينا في درسنا السابق، يمكن النظر إلى دماء الشهداء المسيحيين كأحد العوامل الهامة التي أدت إلى انتصار الكنيسة على الوثنية، ولكن كما استنتجنا أيضاً العامل الرئيسي لانتصار الكنيسة في أيامها الأولى هو سيدها وربها يسوع المسيح الذي لم ينقطع عن الاهتمام بها ورعاية شؤونها بعد صعوده المجيد إلى السماء!
أما اليوم فإننا سنبحث في الأمور التي تمت في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي وخاصة النظر إلى بعض النتائج لاهتداء قسطنطين إلى المسيحية.
نقطة تحول هامة في تاريخ الكنيسة: العام313م.
يمكن النظر إلى العام313 كنقطة تحول هامة في تاريخ الكنيسة لان قرار ميلانو الذي أصدره الإمبراطور منح المسيحيين لأول مرة في تاريخهم نفس الحقوق التي كان يتمتع بها معتنقو الديانات الأخرى. وهكذا أصبح المسيحيون يتمتعون لأول مرة بحرية الاعتقاد بالإيمان المسيحي وبنشره في كل مكان.
كم تغيرت الأحوال في مطلع القرن الرابع الميلادي! ها إن الإمبراطور الذي اعتلى عرش رومية كان من أتباع المسيح! وعوضاَ عن أن يكون هناك سيد مضطهد للكنيسة ها إننا نراه يغدق عليها بمنح كثيرة. وقد أعطى قسطنطين الأموال الكثيرة لبناء كنائس فخمة في القسطنطينية والقدس وبيت لحم وأماكن أخرى ذات أهمية في تاريخ الكنيسة الرسولية. وبما أن الكنيسة المسيحية كانت تعتبر يوم الأحد كيوم الراحة الأسبوعي نرى قسطنطين يصدر أمراً بمنع العمل في يوم الأحد.
العالم يغزو الكنيسة:
علينا ألا نظن أن الكنيسة استفادت بصورة مطلقة من اهتداء قسطنطين ومن جميع القرارات التي أصدرها إذ أن هناك أمور معينة لم تكن لتوجد في الكنيسة لو لم تصبح المسيحية ديانة الدولة الرسمية. مثلاً كان الناس قبل إصدار قرار ميلانو الذي أعطى المسيحية الحرية المطلقة،لا يقبلون إلى المسيحية إلا إذا كانوا من المؤمنين المقتنعين أن المسيح ابن الله هو مخلصهم الوحيد. من الناحية الرسمية كان من العار للإنسان أن ينتمي إلى الكنيسة. لكن الأمور تغيرت بعد قسطنطين إذ أنه بقبوله للديانة المسيحية وبنبذه للوثنية صار الناس يفدون إلى الكنيسة بدون إيمان حقيقي وكل ما يبتغون كان الحصول على وظائف عالية في الدولة أو الجيش أو أن يعدوا من الطبقات العالية في المجتمع. وحتى إيمان قسطنطين إن لم نشك فيه فانه كان إيماناً ضعيفاً وكانت حياته غير مطابقة لمبادئ المسيحية السامية.
وهكذا نقول إن ما ربحته الكنيسة من الناحية العددية خسرته من الناحية الروحية. وإن كنا نعد قرار ميلانو كانتصار عظيم للكنيسة على الوثنية فانه لابد من القول أيضاً أنه فتح مصاريع الأبواب التي تغلغل منها نهر فساد عظيم إلى جسم الكنيسة. هذا لا يعني أن الكنيسة بعد قسطنطين خسرت كل شيء كانت قد ربحته في القرون الأولى إلا أنه لا بد من النظر إلى تاريخ الكنيسة من وجهة نظر واقعية ورؤية الأمور الحسنة للسير على منوالها في أيامنا الحاضرة والابتعاد عن الأمور المضرة بمصلحة الكنيسة والتي نراها تعمل في الكنيسة منذ أيام القرن الرابع الميلادي.
العلاقة بين الكنيسة والدولة:
حدث بعد اهتداء قسطنطين الإمبراطور أن الدولة أسبغت على الكنيسة المسيحية بعطايا كثيرة ولكنها طلبت من الكنيسة في نفس الآن أن تعطيها صوتاً هاماً في أمورها الخاصة. وهذا أمر يحزن جميع المسيحيين الذين يؤمنون مع الكتاب بأن الدولة هي من وضع الله تعالى وكذلك الكنيسة ولكنهما يعملان في حقلين مختلفين وأن على الدولة أن لا تتدخل في شؤون الكنيسة كما أن على الكنيسة أن لا تتدخل في شؤون الدولة.
ولكنه نشا منذ أيام قسطنطين موضوع العلاقة بين الكنيسة والدولة ولم يكن عبارة عن موضوع نظري بل كان مشكلة عملية وسنلاحظ أثناء دراستنا لتاريخ الكنيسة المسيحية في العصور التالي أن عدم التقيد بتعاليم الكتاب بخصوص استقلال الدولة عن الكنيسة والكنيسة عن الدولة أدى إلى منازعات عديدة كانت الكنيسة والدولة بغنى عنها.
محاولة أخيرة لإحياء الوثنية:
اعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية في العام 361 م جوليان وهو ابن أخ قسطنطين الكبير. وكان قد نشأ مسيحياً ولكنه كان وثنياً في صميم حياته. وما أن أصبح سيد رومية حتى أعلن بصورة رسمية أنه وثني ولذلك يدعى في تاريخ الكنيسة باسم جوليان الجاحد نظراً لارتداده عن الديانة المسيحية التي تربى فيها.
اضطهد جوليان الجاحد المسيحيين بشكل غير عنيف وحاول القضاء على المسيحية لا على طريقة أباطرة الرومان الأقدمين بل باللجوء إلى قلمه. فقد صار يكتب ضد المسيحية ويهزأ بها ويحاول إظهار المعتقدات المسيحية وكأنها بدون معنى. لكن حوليان فشل فشلاً ذريعاً في محاولته ولم يستطع إحياء الوثنية إذ بقيت معابدها مقفرة ومذابحها بدون دخان. إن الوثنية الرسمية كانت قد ماتت ولم يكن باستطاعته إرجاع الحياة إليها. وبعد سنتين من اعتلاءه العرش الروماني ذهب جوليان لمحاربة الفرس وجرح أثناء معركة حامية جرحاً دامياً. ويروى عنه أنه ملأ يده بدمه النازف ورمى به إلى السماء صارخاً: لقد انتصرت في النهاية أيها الجليلي! وهكذا انتهت بالفشل التام المحاولة الأخيرة لإنهاض الوثنية من قبرها بموت الإمبراطور الجاحد جوليان وثابرت الكنيسة على سفرتها في بحر هذا العالم المضطرب!
- عدد الزيارات: 6049