Skip to main content

الدرس الحادي عشر: عصر البطولة والاستشهاد -3-

تعرضت الكنيسة المسيحية إلى اضطهادات عديدة منذ نشأتها وفي الدرسين السابقين تكلمنا عن الاضطهادات التي لحقت بالكنيسة في القرن الأول الميلادي وعن الإمبراطور نيرون الذي كان أول من قام باضطهاد المسيحية بصورة رسمية وقد استشهد في سبيل السيد المسيح العديد من الرجال والنساء والشبان والشابات وحتى الأولاد الصغار ولكن هذه الاضطهادات لم تكن مستمرة بل كانت هناك فترات راحة للكنيسة استطاعت أثناءها أن تتنفس الصعداء وكانت هذه الفترات طويلة الأمد في بعض الأحيان إلا أنه يجب أن يقال بأنه حتى أثناء عدم وجود اضطهاد عام كان البعض من قادة الكنيسة يستشهدون لعدم رغبتهم في الاستسلام إلى الوثنيين الذين كانوا يطلبون منهم إنكار الرب يسوع المسيح

دوام الاضطهاد أثناء حكم الإمبراطور مرقس اوريليوس:

حكم رومية من العام مائة وواحد وستين إلى العام مائة وثمانون الإمبراطور مرقس اوريليوس الذي يعد من اشد أعداء المسيحية وقد اصدر قراراً بأن تعطى أموال ومقتنيات المسيحيين إلى الذين يشتكون عليهم وهذا دفع العديد من الوثنيين إلى تقديم الشكوى على المسيحيين في مختلف أنحاء الإمبراطورية للحصول على الأموال التي كانت لدى بعض المؤمنين وكان يؤتى بالمسيحيين إلى المحاكم ويحكم عليهم زوراً وتعطى ممتلكاتهم للمشتكين عليهم واظهر المضطهدون وحشية وهمجية لا يمكن الكلام عنها وجاهدوا جهاداً كبيراً في سبيل حمل المؤمنين على إنكار المسيح وتقديم آيات الولاء للأصنام لكن أتباع المسيح لم ينكروا مخلصهم بل برهنوا بواسطة دمائهم أنهم لم يريدوا أن يربحوا العالم لمدة وجيزة ويخسروا أنفسهم

لدى وفاة الطاغية مرقس اوريليوس هدأت موجة الاضطهادات العنيفة وتمكنت الكنيسة من الحصول على فترة من الراحة لا يستهان بها ويمكن استثناء مدة احد عشر عاماً أثناء حكم الإمبراطور سيفيروس من هذه الحقبة الهادئة إذ تعرض المؤمنون في الإسكندرية لاضطهاد قوي ومن العديدين الذين استشهدوا في سبيل إيمانهم كان والد اوريجينوس الذي أصبح بعد مدة من الزمن من المع علماء الدين في الكنيسة كان أوريجينوس ولدا فتيا عندما حكم على والده بالموت وقد حاول اوريجينوس بأن يقدم نفسه للاستشهاد مع والده إلا أن أمه ردعته عن ذلك

وبعد سنوات قليلة من هذه الحادثة استشهد عدد من المسيحيين في قرطا جنة في أفريقيا الشمالية ( تونس الحالية) ومن ماتوا في سبيل إيمانهم المسيحي امرأتان في مقتبل عمرهما كانت تتعلمان عن المسيحية أثناء هذه المدة فألقي القبض عليهما وسيقتا مع بقية المؤمنين والمؤمنات إلى السجن ولكن قبل أن تذهبا إلى ملاقاة حتفهما اعتمدتا في السجن ولم تمض أيام قليلة إلا وألقيتا مع مسيحيين ومسيحيات آخرين إلى ساحة الألعاب في قرطا جنة حيث قضت عليهما اسود مفترسة

المحاولة الأخيرة للقضاء على الكنيسة بشكل تام:

لما جاء الإمبراطور ديسيوس إلى دفة الحكم في العام مائتان وتسعة وأربعون أصدر أمراً بالقضاء على الكنيسة المسيحية بصورة تامة وكان هذا الاضطهاد عاماً في جميع أقسام الإمبراطورية الرومانية لكن هذا الإمبراطور الظالم لم يبق على العرش سوى سنتين وهكذا استراحت الكنيسة لمدة سبع سنوات إلى أن قام إمبراطور آخر اسمه فاليريان الذي سار على منوال ديسيوس وأمر بتدمير الكنيسة حيثما وجدت في مملكته الشاسعة ولكن الله ترأف على خائفيه وأعطاهم راحة بعد ذهاب فاليريان عن العرش استمرت نحو أربعين عاماً وحدثت آخر موجة اضطهاد في مطلع القرن الرابع الميلادي أثناء حكم الإمبراطور ديوكلشن وجاليربوس.

اتصفت هذه الموجة الأخيرة من الاضطهادات بعنف لم يسبق له مثيل وكأن الوثنية كانت قد استجمعت كل قواتها وقوات الجحيم للتغلب على كنيسة الرب يسوع المسيح وقد دمرت عدة كنائس وأحرقت نسخ عديدة من الكتب المقدسة. وكان عدد الذين استشهدوا في هذه الموجة الأخيرة اكبر بكثير من عدد الذين ماتوا في سبيل المسيح أثناء جميع الاضطهادات التي جرت في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الميلاد. وكانت غاية هذه الهجمات العنيفة على أتباع المسيح ليس فقط التضييق عليهم وحملهم على إنكار دينهم بل محو الكنيسة من الوجود بشكل نهائي. وقد توفي أو بالأحرى استشهد أثناء هذه الفترة اوريجينوس الشهير.

وأثناء هذه الاضطهادات لجأ المسيحيون في رومية إلى تلك الأنفاق أو السراديب التي كانت توجد خارج مدينة رومية. وإذ لم يكن يسمح بدفن الأموات ضمن حدود رومية كان الناس قد حفروا العديد من السراديب خارج المدينة لدفن أمواتهم. وكانت هذه السراديب طويلة ومتقاطعة ومتشابكة في أماكن عديدة تحت الأرض ويمكن تقدير طولها بنحو ثمان مائة كم. وكانت هذه الممرات على عمق عشرة أمتار أو أكثر وكان الأموات يدفنون في جوانب الأنفاق في صفوف متتالية. وقد اختبأ الكثير من المسيحيين في هذه السراديب حيث كانوا يقومون بعبادة الله وكذلك يقومون بدفن بقايا أمواتهم بعد أن كانت الحيوانات المفترسة قد قضت عليهم.

مرض الإمبراطور جاليريوس مرضاً خطيراً وكان يتعذب بشكل يصعب احتماله. وهكذا أمر من فراش مرضه الذي أصبح فراش موته أيضاً، أمر بإيقاف الاضطهاد واصدر أمره الشهير جداً في العام ثلاثمائة واحد عشر وقد طلب من المسيحيين أن يصلوا من أجل شفائه ومن أجل سلام الإمبراطورية. لم يكن قرار الإمبراطور نصراً تاماً للمسيحية على الوثنية إذ أنه لم يكن في الحقيقة إلا شبه تسامح أو نصف تساهل مع المسيحية. ولكن النصر التام كان على الأبواب إذ أنه لم تمض سنتان إلا وأصبح إمبراطور روماني مسيحياً وابتدأت الوثنية تحتضر وتستعد للفظ أنفاسها الأخيرة!.

وسوف نتكلم عن ذلك في درسنا المقبل إن شاء الله.

  • عدد الزيارات: 4443