الدرس الرابع: رحلات بولس الرسول التبشيرية
ذكرنا في درسنا الثالث عن امتداد الكنيسة المسيحية إلى عدة نواح من العالم حسب الأمر الذي أصدره السيد المسيح قبيل صعوده السماء وقد رأينا كيف أن الله قاد الكنيسة بواسطة عنايته إلى الذهاب من القدس إلى بقية أنحاء الأرض المقدسة ومنها إلى البلاد القريبة فالبعيدة وكذلك رأينا أن البشارة أخذت إلى الجميع بغض النظر عن الجنس أو اللون وكان الله قد اعد العالم لبدء حملة الكنيسة التبشيرية وكذلك المبشرين كبولس وبطرس ويوحنا وغيرهم وسنخصص درسنا اليوم لرحلات بولس الرسول في سائر أنحاء الإمبراطورية الرومانية في سبيل نشر راية الإنجيل ودعوة الناس إلى قبول سلام الله
وإذا أردنا قراءة تفصيلات رحلات بولس الرسول التبشيرية فليس علينا إلا الذهاب إلى احد أسفار الكتاب المقدس المعروف بسفر الأعمال أو سفر أعمال الرسل الذي كتبه لوقا الطبيبونتكتفي في درسنا هذا بالكلام بصورة إجمالية عن رحلات بولس ملاحظين بصورة خاصة الطريقة التي نشر بها الكنيسة المسيحية
كتب الطبيب لوقا عن بدء عمل الرسول بولس في الفصل الثالث عشر من سفر الأعمال قائلاً:" كان في أنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون وبرنابا وسمعان الذي يدعى نيجر ولوكيوس القيرواني ومناين الذي تربى مع هيرودس رئيس الربع وشاول وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: افرزوا إلي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما اليه فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم اطلقوهما فهذان إذ أرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوقية ومن هناك سافرا في البحر إلى قبرص" (1- 4)
كانت إذا جزيرة قبرص أول ساحة للعمل الإنجيلي وقد عمل فيها بولس وبرنايا لمدة من الزمن، آمن أثناءها الوالي الروماني بالمسيح ومن قبرص اقلع الرسولان إلى بلاد آسيا الصغرى الواقعة في شمال الجزيرة والتي كانت مأهولة في تلك الأيام من قبل شعوب مختلفة تدين بديانات وثنية وكان هناك أيضاً بعض اليهود القاطنين في مدن أسيا الصغرى ذات الموقع الملائم للأعمال التجارية وكانوا قد أسسوا مجامعاً للقيام بفرائض العبادة والتعليم وكانت عادة بولس أن يذهب أولا إلى المجامع اليهودية ليخبرهم بمجيء المسيح وبصلبه وبقيامته من الأموات وبالأمر الذي أصدره بخصوص التبشير بالخلاص لجميع الناس وقد حدث مراراً أن البعض من اليهود آمنوا بالإنجيل والتصقوا ببولس وبرنابا وان الآخرين قاوموا بولس مقاومةً شديدةَ وحرضوا الغوغاء على مطاردتهم وفي بعض الأحيان على قتلهم وقد وجد الرسولان أن الكثيرين من الوثنيين كانوا يرحبون بالأنباء السارة التي جاؤوا بها إليهم وكانوا ينضمون إلى الكنائس المسيحية التي أتت إلى الوجود هنا وهناك في آسيا الصغرى ومن إحدى عظات بولس الإنجيلية التي حفظها لنا الطبيب لوقا في سفر الأعمال هذه العبارات الهامة:
"كان يجب أن تكلموا أنتم بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هو ذا نتوجه إلى الأمم، لأن هكذا أوصانا الرب:قد أقمتك نوراً للأمم لتكون أنت خلاصاً إلى أقصى الارض فلما سمع الأمم ( أي الوثنيين) كانوا يفرحون ويمجدون كلمة الرب، وآمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الابدية" (13: 46 - 48 )
وبعد جولة في أواسط آسيا الصغرى عاد الرسولان إلى الكنيسة في أنطاكية وأخبرا بكل ما صنع الله معهما وانه فتح للأمم أي الوثنيين باب الايمان وبعد مدة من الزمن عاد الرسولان إلى حقل التبشير بصحبة سيلا وزارا الكنائس التي أسسها في آسيا الصغرى وساهم في تأسيس كنائس أخرى في شتى الأقاليم وحدث أنه لما وصل بولس إلى القسم الغربي من تلك البلاد أنه رأى رؤيا في الليل رجلاً مكدونياً ( أي من شمال اليونان) يطلب إليه ويقول: اعبر إلى مكدونية إن الرب دعانا لنبشرهم وهكذا دخلت البشارة المسيحية القارة الأوروبية
انحصرت أكثر جهود الرسول بولس في العمل في بلاد اليونان حيث أسست عدة كنائس أصبحت مشهورة على مر التاريخ نظراً لان الرسول كتب إليها بعد مدة من الزمن رسائل حفظت لنا في الكتاب المقدس كرسائل بولس إلى الكنيسة في كورنثوس وتسالونيكي وغيرها وقد تكررت اختبارات آسيا الصغرى في بلاد اليونان إذ أن الرسول بولس وصحبته اضطهدوا من قبل غير المؤمنين من بني جنسه ولكن بالرغم من هذه الاضطهادات فإن كلمة الرب أتت بجميع الأثمار التي كانت ضمن تدبير الله لخلاص البشرية وهكذا تأسست كنائس مختلفة في بقاع عديدة من بلاد الإغريق
وبعد مدة من الزمن عاد الرسول إلى افتقاد الكنائس في آسيا الصغرى وتعرض إلى اضطهاد كثير ولكن ذلك لم يمنعه من تقوية المؤمنين ومن المناداة بالإنجيل وإذ صارت حاجة ماسة إلى مساعدة المؤمنين في البلاد المقدسة سارعت الكنائس في بلاد اليونان إلى تقديم المعونة المالية وطلبت من الرسول أن يسلمها إلى الكنيسة الأم في القدس وإذ كان الرسول يقوم بزيارة خاصة للهيكل ادعى بعض الأعداء بأنه جاء بوثنيين إلى القسم المحرم عليهم ضمن بناية الهيكل وهيجوا الجموع وحاولوا القضاء على الرسول لكن قائد الكتيبة الرومانية أنقذ الرسول بولس الذي اقتيد مقيداً إلى القلعة التي كانت بجوار الهيكل وجيء بقضية الرسول إلى الوالي الروماني في قيصرية ولم يستطع أعداؤه من إدانته ومع ذلك فان الرسول بقي بدون حريته لمدة سنتين أو أكثر وأخيراً وبما أنه كان يتمتع بالجنسية الرومانية رفع قضيته إلى قيصر رومية وعند وصول الرسول إلى رومية أعطي حرية كبيرة لمقابلة الناس أثناء فرض إقامة جبرية عليه بصحبة جندي روماني وهنا ينتهي مصدرنا الأكيد بخصوص رحلات بولس التبشيرية أي ما كتبه لنا لوقا في سفر الاعمال إلا أن مؤرخي الكنيسة في العصر التالي اجمعوا على القول بأن الرسول حصل على براءته وسافر إلى أماكن عديدة في سبيل البشارة ولكنه سجن ثانية أثناء الاضطهاد الكبير الذي لحق بالمسيحيين تحت حكم الطاغية نيرون ومن الأرجح أنه استشهد في العام 67 م تاركاً وراءه عملاً مجيداً لم ير له مثيل لا في تلك الأيام ولا في أي عصر آخر، إن الرسول مضى إلى ديار النعيم تاركاً لنا رسائله والكنيسة المسيحية التي ساهم في تأسيسها ونشرها والدفاع عنها
- عدد الزيارات: 15246