الانحراف الأخير، والاختطاف
(ع38- 44)
أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين
"ولما شبعوا من الطعام طفقوا يخففون السفينة طارحين الحنطة في البحر. ولما صار النهار لم يكونوا يعرفون الأرض ولكنهم أبصروا خليجاً له شاطئ فأجمعوا أن يدفعوا إليه السفينة إن أمكنهم. فلما نزعوا المراسي تاركين إياها في البحر وحلوا ربط الدفة أيضاً رفعوا قلعاً للريح الهابة وأقبلوا إلى الشاطئ. وإذ وقعوا على موضع بين بحرين شططوا السفينة فارتكز المقدم ولبث لا يتحرك. وأما المؤخر فكان ينحل من عنف الأمواج. فكان رأى العسكر أن يقتلوا الأسرى لئلا يسبح أحد منه فيهرب. ولكن قائد المئة إذ كان يريد أن يخلص بولس منعهم من هذا الرأي وأمر أن القادرين على السباحة يرمون أنفسهم أولاً فيخرجون إلى البر. والباقين بعضهم على ألواح وبعضهم على قطع من السفينة. فهكذا حدث أن الجميع نجوا إلى البر".
هذه هي نهاية رحلة الرسول بولس وفيها نرى تحطيم السفينة ونجاة المسافرين. وهي تمثل الدور الأخير من رحلة الكنيسة الذي يميزه أمران:
1-الفشل المحزن والنهائي من جانب الإنسان.
2-الأمانة والرحمة من جانب الله إلى النهاية.
أولاً: فشل الإنسان:
تكلمنا الأعداد الأربعة من هذا الجزء عن صورة الفشل الأخير والمحزن في تاريخ الكنيسة وهي تتشابه إلى حد كبير مع الصورة التي نجدها في خطاب الرب لملاك الكنيسة السابعة والأخيرة في رؤيا3: 14- 22، كنيسة اللاودكيين.
ما أمجد ما رأينا في الدور السابق، دور النهضة الفيلادلفية عندما استُعيد الحق واستُعيد طابع المسيحية الأصيل: الشبع والسرور والنور. لكن دعنا نتأمل ما صارت إليه الحالة في هذا الدور.
لقد حذر الرب ملاك كنيسة فيلادلفيا (الدور السادس)، في آخر أقواله إليه قائلاً تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك" (رؤ3: 11) لكننا في هذا الدور الأخير نجد بالأسف كيف فقدت المسيحية بصفة عامة ما عندها. ولهذا نقرأ في بداية المرحلة القول "لما شبعوا من الطعام طفقوا يخففون السفينة طارحين الحنطة في البحر".
يا للأسف فبعد الشبع احتُقرت الحنطة ورموها في البحر. هل تحدثنا الحنطة عن المسيح كما نراه في كلمة الله (قارن يو12: 24)؟ ما عاد المسيح بمطلوب في الأنظمة المستحدثة بل وفي بعض الكنائس التي تدعي الاستنارة. أولاً نقرأ في دور كنيسة اللاودكيين كيف يقف المسيح في الخارج قارعاً الباب وملاك الكنيسة في الداخل يقول "لا حاجة لي إلى شيء"؟ أيوجد خراب أفظع من هذا؟! لكن طرح الحنطة تلاه أمر آخر هو طرح المراسي! "نزعوا المراسي تاركين إياها في البحر". يا للأسف مرة أخرى. يا للأسف على تلك المراسي الأربع التي تأملنا في مدلولها في الدور السابق: كلمة الله، والصلاة، ومحبة الله، والرجاء المبارك... كل هذا في البحر؟! نعم لاق بالرب أن يقول لملاك كنيسة اللاودكيين "ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان" فكم الإنسان أعمى بدون كلمة الله، وكم هو فقير بدون الصلاة. وبدون محبة الله كم الإنسان بائس. وبدون الرجاء هو شقي، بل "أشقى جميع الناس" (1كو15: 19). وبالإجمال يصبح هذا الإنسان خالياً من كل شيء إلهي. يصبح عرياناً!
وقول الرب لملاك كنيسة اللاودكيين "لست تعلم" يتوافق مع قول المؤرخ الإلهي هنا "لم يكونوا يعرفون الأرض". يا للجهل!
لكن هناك صورة أخرى للفشل البشري نستشفها من القول "لم يكونوا يعرفون الأرض. ولكنهم أبصروا خليجاً له شاطئ فأجمعوا أن يدفعوا إليه السفينة إن أمكنهم". نرى هنا إجماعاً، لكن لاحظ أنه لا يقول أجمعنا بل أجمعوا هم. فهذا الإجماع ليس على كلام بولس. ليس على كلام الله، بل إنه كلامهم هم، كلام الشعب، أليس هذا هو طابع الدور الأخير للمسيحية. فطابع الديمقراطية الذي يميز عالم اليوم صار يميز الكنيسة أيضاً. وكلمة لاودكية، وهي اسم الكنيسة الأخيرة في الكنائس السبع، تعني "حُكم الشعب"!
أتدري لماذا ظلمة التقليد باقية للآن رغم بزوغ نور الإصلاح من مئات السنين؟ السبب أن الشعب "هكذا أحب" (إر5: 31). ولماذا انحرفت الكنائس التي تقول إنها مستنيرة إلى فلسفات جوفاء وعقيمة؟ السبب أن الشعب لم يعودوا يحتملون التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لأنفسهم معلمين مستحكة مسامعهم، لكي يصرفوا أذهانهم عن الحق "2تي4: 3، 4). فيا لبؤس الشعب والقادة معاً!!
لكن فشلاً ثالثاً يميز هذه الفترة أيضاً إذ نقرأ أنهم "رفعوا قلعاً للريح الهابة". وهذا معناه أن الروح العامة التي ترسم اتجاهات البشر أثّرت على المسيحية أيضاً. فإن كانت الرياح السائدة في هذا العصر هي تكوين الاتحادات الأكبر فإن ركاب السفينة وقد رفعوا قلعاً لهذه الريح الهابة، فإنهم أخضعوا نفوسهم لروح الاتحادات. فبرزت في أوائل هذا القرن الحركة المسكونية التي ستتمخض عن بروز بابل في أبشع أدوارها بعد اختطاف الكنيسة. كما تفيد أن الموجهين لسير السفينة إذ أرادوا الاستفادة برياح العالم فقد تصالحوا مع السياسة العالمية. وبدأت المسيحية تلعب دوراً في سياسة العالم. وهكذا أقبلوا إلى الشاطئ.
لكن أي شاطئ؟! أيمكن أن قوى العالم تساعد المسافرين لكي يبلغوا مقصدهم؟ كلاَّ البتة. بل إن ما حدث هو أنهم وقعوا على موضع بين بحرين. هذان البحران هما رمزان لقوتين متضادتين تهددان الشهادة وستؤدي بها كما سنرى بعد قليل إلى الدمار.
ويمكن اعتبار هاتين القوتين المتضادتين هما التقليد والإلحاد. أو بعبارة أخرى هما النظام الطقسي الجامد من جانب، وعدم الإيمان المتحرر من الجانب الآخر. كما يمكن اعتبارهما أيضاً قوى العداء للشهادة المسيحية من خارجها ومن داخلها. فما أشد هياج العالم من الخارج، وما أشد اللطمات للحق الصافي من الداخل أيضاً!
وإذ وقعوا على موضع بين بحرين شططوا السفينة فارتكز المقدم ولبث لا يتحرك. وأمّا المؤخر فكان ينحل من عنف الأمواج. إن ارتكاز المقدم وعدم تحركه قد يعطينا صورة للمواقف العنيدة التي يتخذها بعض القادة إذ يتمسكون في إصرار على مواقفهم لا تمسكاً بحق إلهي بل حباً في مراكز الزعامة، ضاربين عرض الحائط بما يحدث للمؤخر، أي للبسطاء من المؤمنين من انقسامات لا طائل من ورائها. ألا تجعلنا هذه الملاحظة نفحص طرقنا ونحني رؤوسنا خجلاً من كثير من المواقف التي كان فيها الإصرار على الرأي في أمور ثانوية، وليس التمسك بالحق الكتابي سبباً للانقسام وتحلل الشهادة!
ثانياً: أمانة الله:
إن كانت الأعداد الأربعة الأولى من هذا الجزء تحدثنا فشل الإنسان فإن الأعداد الثلاثة الأخيرة منها تحدثنا عن أمانة الله فنقرأ "فكان رأي العسكر أن يقتلوا الأسرى لئلاَّ يسبح أحد منهم فيهرب". والعسكر في رغبتهم قتل الأسرى كانوا أداة الشيطان الذي يريد قتل بولس[1]. وهم صورة لأجناد الشر الروحية في آخر أيام الشهادة التي تعيشها الآن، وكيف تكالبوا بشراسة مستخدمين البشر لإهلاك الأمناء. كم نرى ونسمع عن محاولات يقال عنها بصدق "لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا... مبارك الرب الذي لم يُسلمنا فريسة لأسنانهم" (مز124: 2).
يقول الوحي "لكن قائد المئة إذ كان يريد أن يخلص بولس منعهم من هذا الرأي. وإن كان قائد المئة قدر أن ينقذ بولس ومن معه أفلا يقدر "مخلصنا الله" "الذي نجانا من موت مثل هذا، وهو ينجي، الذي لنا رجاء فيه أنه سينجى أيضاً فيما بعد" (2كو1: 10)؟
لهذا فقد أمر قائد المئة أن القادرين على السباحة يرمون أنفسهم أولاً فيخرجون إلى البر. والباقين بعضهم على ألواح وبعضهم على قطع من السفينة. فهكذا حدث أن الجميع نجوا إلى البر.
إذاً لقد تحطمت السفينة في النهاية كما قال بولس. لكن- مجداً للرب- الجميع نجوا. بعضهم وصل أولاً فرادى إلى البر الآمن. ثم بعد ذلك وصل الآخرون على ألواح وعلى قطع من السفينة. وهكذا ستتحطم المسيحية عن قريب كإناء للشهادة. "مزمع أن أتقيأك من فمي" (رؤ3: 16) "أنت أيضاً ستُقطع" (رو11: 22). وها نحن من الآن نرى التجمعات العديدة هنا وهناك. تجمعات صغيرة وكبيرة، وتقابل "الألواح" و "قطع من السفينة". وما أقل من يتمسكون اليوم بوحدانية الروح، ويخضعون للمبدأ الإلهي "جسد واحد وروح واحد".
ملاحظة ختامية مزدوجة
أقول أولاً: إنه مهما كانت صعوبات الرحلة وأهوالها فسوف نصل سالمين عن قريب دون أن يصيبنا أي سوء. إن أمنك يا أخي المؤمن لا يتوقف على قوتك أو على مهارتك في السباحة، ولا يعتمد على تعلقك بلوح خشبي أو حتى بقطعة من السفينة، بل إن أمنك يرتكز على كلمة الله الصادقة ووعده الأمين. فلا تخف البتة لأنه قال، "لا تكون خسارة نفس واحدة منكم". ونحن نؤمن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً" (رو4: 21).
لكن أمانة الرب تجاهنا ينبغي أن تقودنا نحن أيضاً إلى أمانة تجاهه. فإنه بعد قليل جداً سنفارق هذا المشهد الخرب لنكون مع حبيبنا وعريسنا في المجد. وعندئذ سيأفل مجد العالم الفاني وتغرب شمس المسيحية الاسمية، وسينتقلان سريعاً من عظمتهما الفارغة إلى دينونتهما الحتمية. أيليق بنا أن تعوقنا اعتبارات عالمية أو حتى دينية عن أن نكون أمناء "لسيدنا الوحيد". فياليتنا ونحن في لحظات الشهادة الأخيرة، ألا تشغلنا أمور العالم الزائلة الزائفة. بل وحتى فساد الحالة وظلمة الأيام وارتداد الكنيسة ليتها لا تشغلنا كثيراً بل إنما نحرص أن نكون أمناء في سيرنا مع الرب هنا فنسمع من فمه هناك كلمات المديح والثناء "نعماً أيها العبد الصالح والأمين" (مت25: 21، 23).
لكن لنتذكر أن ليس فقط المسافرون نجوا بل بولس أيضاً. وهذا معناه في اللغة التصويرية لهذه الرحلة أن الحق الخاص بالكنيسة سيبقى وسيستمر حتى مجيء الرب القريب. فكما أننا كمؤمنين محفوظون بقوة الرب، هكذا أيضاً الحق الخاص بالكنيسة.
عندما ارتد جميع الذين في آسيا عن بولس، أو بالحري عن إنجيله المجيد وتعاليمه السامية التي نادى بها الرسول. فإنه في آخر رسالة كتبها تحول عن الكل إلى الرب، مستودعاً إياد ذلك الحق عينه الذي كان الرب قد استودعه إياه. فهو لم يجد شخصاً يستودعه ذلك الحق ليحفظه إلى النهاية سوى الرب. فقال "لأني عالم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي "الحقائق التي ائتمنني عليها" إلى ذلك اليوم" (2تي1: 12) وهو بكل يقين قادر أن يحفظ تلك الوديعة كما يحفظنا نحن أيضاً.
ومرة أخرى نقول إن أمانة الرب في حفظه لهذا الحق الثمين تضعنا نحن أمام امتحان هام: ما هو موقفنا من هذا الحق؟ هل نحن بمعنى الكلمة "مسافرون مع بولس؟" هل لازلنا متمسكين بهذا الحق الثمين الذي أعلنه الرب في كلمته؟ وهل كلمات الرسول الختامية لابنه تيموثاوس "يا تيموثاوس احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا" (2تي1: 14) نعم هل هذه الكلمات نأخذها لأنفسنا نحن أيضاً؟ أم أننا- وقد ملأ اليأس قلوبنا من الحالة العامة، نفضنا أيدينا من جهة الحق الخاص بالكنيسة، الشهادة الغالية على قلب الله أبينا، وقلب ربنا يسوع المسيح حبيبنا وعريسنا؟!
إنني أتجه بهذه الأسئلة الفاحصة إلى كل مؤمن، إن كان استطاع أن يتتبع معي المعاني الروحية المباركة المتضمنة في هذا الكتاب. نعم ليس مطلوباً مني أن أنشغل بوصولي سالماً، فهذا وعد الرب الأمين، بل المطلوب أن أكون مسافراً مع بولس.
"افهم ما أقول، فليعطك الرب فهما في كل شيء" (2تي2: 7).
والآن في نهاية هذا الكتاب الصغير، نتجه إليك أيها الرب الأمين. هب ألاَّ يشغلنا شيء أسمى من أن نحيا أمناء لك إلى النهاية.
أيها القدوس الحق، ليتك تحفظنا رغم القوة اليسيرة التي تميز البقية الأمينة في كل زمان ومكان (ملا3: 16، رؤ3: 8) كي نظل لك متقين، وفي اسمك مفكرين، ولكلمتك حافظين، وبقوتك غالبين. اسمعنا يا سيدنا كلماتك الغالية، واحفرها بعمق على ألواح قلوبنا "تمسك بما عندك، لئلاَّ يأخذ أحد إكليلك" (رؤ3: 11).
ولك يا ربنا الغالي والمعبود كل المجد والسجود. آمين.
أنت المعلمُ الأميـن فيك لنا كلُ الآمــال
منطقنا بالحقِ الثمينْ واحفظنا من كلِ ضلال
فانظر إلينا كلِــنا وامنحنا نعمةَ السهـر
حتى نكونَ أُمنــا في كلِ مدةِ السفــر
مراجع الكتاب
by C. A. Potts |
1-Dictionary of Bible proper Names. |
by J. B. Jackson |
2-Dictionary of Scripture proper Names. |
by C. J. H. Davidson |
3-Concordance of the Holy Scriptures. |
by. J. D. Davis |
4-The Westminister Dictionary of the Bible. |
[1] -يمكننا تتبع سبع محاولات من الشيطان لقتل بولس مذكورة في الإصحاحات الأخيرة من سفر الأعمال من لحظة القبض عليه في أورشليم إلى أن وصل إلى روما كما قال له الرب. وهنا نجد المحاولة السادسة (انظر أع21: 31، 23: 12، 25: 3، 27: 15، 30، 42، 28: 4).
- عدد الزيارات: 4234