الدور السادس: النهضة الختامية
(ع27- 37)
أوائل القرن التاسع عشر
فلما كانت الليلة الرابعة عشرة ونحن نُحمل تائهين في بحر أدريا ظن النوتية نحو نصف الليل أنهم اقتربوا إلى بر فقاسوا ووجدوا عشرين قامة. ولما مضوا قليلاً قاسوا أيضاً فوجدوا خمس عشرة قامة. وإذ كانوا يخافون أن يقعوا على مواضع صعبة رموا من المؤخر أربع مراس وكانوا يطلبون أن يصير النهار. ولما كان النوتية يطلبون أن يهربوا من السفينة وأنزلوا القارب إلى البحر بعلة أنهم مزمعون أن يمدوا مراسي من المقدم قال بولس لقائد المئة والعسكر إن لم يبقَ هؤلاء في السفينة فأنتم لا تقدرون أن تنجوا. حينئذ قطع العسكر حبال القارب وتركوه يسقط. وحتى قارب أن يصير النهار كان بولس يطلب إلى الجميع أن يتناولوا طعاماً قائلاً هذا هو اليوم الرابع عشر وأنتم منتظرون لا تزالون صائمين ولم تأخذوا شيئاً. لذلك ألتمس منكم أن تتناولوا طعاماً لأن هذا يكون مفيداً لنجاتكم لأنه لا تسقط شعرة من رأس واحد منكم. فصار الجميع مسرورين وأخذوا هم أيضاً طعاماً. وكنا في السفينة جميع الأنفس مئتين وستة وسبعين".
هذه المرحلة من رحلة الرسول بولس تذكرنا بالدور السادس في رحلة الكنيسة، دور النهضة الفيلادلفية (رؤ3: 7- 13). وكم غالية في عيني الرب كنيسة فيلادلفيا هذه (رؤ3: 7- 13) إذ لم يوجه لها الرب أي لوم، بل مدحاً فقط. وكم هي هامة في عيني الروح القدس تلك الفترة القصيرة من التاريخ المسيحي. ونستشف ذلك من أن تلك المرحلة من الرحلة استغرقت مساحة في سرد المؤرخ بالروح القدس أكثر مما استغرقت أي مرحلة أخرى من الرحلة. وقد تميزت تلك المرحلة من تاريخ الكنيسة بثلاثة أمور هامة وعظيمة:
1-استعادة رجاء مجيء الرب.
2-استعادة الحقائق المسيحية تماماً.
3-الرجوع الكامل إلى كلمة الله.
وهيا بنا نحن أيضاً نحذ حذو الروح القدس فنمر بتأني لنتأمل هذه الأمور المجيدة في رحلة الكنيسة وانطباقها تصويرياً في هذه المرحلة من رحلة الرسول في السفينة.
أولاً: استعادة رجاء مجيء الرب:
لقد فقدت المسيحية كما ذكرنا في الدور الرابع طابعها السماوي، ففقدت بالتالي الرجاء المبارك، رجاء مجيء الرب. وهذا عين ما قاله الرب في مثل العشر العذارى "يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. وفيما أبطأ العريس نعسن جميعهن "أي العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات" ونمن". والقول "نعسن.. ونمن" هو عكس سهرن. وإذا كان السهر يعني انتظار مجيء الرب "انظر لو12: 39) فإن النعاس العام يعني ضياع رجاء مجيء المسيح كالعريس من المسيحيين. لكن الرب يستطرد فيقول "وفي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس "مقبل" فاخرجن للقائه فقامت جميع أولئك العذارى وأصلحن مصابيحهن" (مت25: 1- 6).
هذا ما حدث في دور النهضة الفيلادلفية حيث استعيد الحق الخاص بمجيء الرب لاختطاف الكنيسة وكان لاكتشاف هذا الحق الثمين دوى هائل كصرخةٍ في منتصف الليل. ونرى تلميحاً لمنتصف الليل هذا في رحلتنا عندما يُشير إلى أنه "نحو نصف الليل ظن النوتية أنهم اقتربوا إلى بر". ثم يواصل لوقا فيقول "وإذ كانوا يخافون أن يقعوا على مواضع صعبة رموا من المؤخر أربع مراس وكانوا يطلبون أن يصير النهار". وقيل الحديث عن النهار وعن المراسي الأربع فإننا نقول إن عبارة "كانوا يخافون" التي تفيد الإحساس بالضعف والعجز تذكرنا بقول الرب لملاك كنيسة فيلادلفيا "لأن لك قوة يسيرة".
ولأنهم كانوا يخافون فقد رموا من المؤخر أربع مراسي. وهذه كان من شأنها أن تحفظ السفينة في البحر العاصف ريثما يطلع النهار، وتحميها من الاصطدام بالصخور، ومن تكسرها. ويمكن تطبيق هذه المراسي الأربع على التحريض الرباعي الثمين التي تختم به رسالة يهوذا، رسالة الارتداد وطغيان الشر، إذ يقول يهوذا.
"وأما أنتم أيها الأحباء فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقداس، مصلين في الروح القدس. واحفظوا أنفسكم في محبة الله. منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية" (يه20، 21). ويا لهذه المراسي الأربع العظيمة لسفينة الإيمان في رسالة الأيام الأخيرة والشر الكاسح.
1-كلمة الله "ابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقداس".
2-الصلاة "مصلين في الروح القدس".
3-محبة الله "احفظوا أنفسكم في محبة الله".
4-مجيء الرب "منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية".
وكم نحتاج كمؤمنين وقعت قرعتنا في هذه الأيام الصعبة أن ننتبه إلى مدلول تلك المراسي الأربع وأن نهتم بها.
المرساة الأولى هي كلمة الله. وبواسطة كلمة الله يصبح المؤمن قوياً. إنها سلاح المحارب، وعصا المسافر، وزاد الغريب، إنها دليل الأمناء في أيام الخراب. إنها بالإجمال كل شيء للمؤمن. وما أقوال البشر بالمقارنة معها إلاَّ رمال زلقة بالمقابلة مع الصخر. فلتكن كلمة الله لا أقوال البشر هي متكلك الوحيد.
والمرساة الثانية هي الصلاة. وإذا كان الكتاب المقدس هو ذات أنفاس الله[1]فإن الصلاة هي أنفاس القديسين. إن كل رجال الله في كل الأزمان رجال صلاة. ونحن في هذه الأيام الأخيرة أحوج ما نكون إلى الصلاة. وإذا اكتفى المؤمن بقراءة كلمة الله وأهمل الصلاة يكون عرضة للانتفاخ والكبرياء فيسقط. ولهذا يجب بعد أن نبدأ بالاستماع إلى كلمة الله إلينا أن نتكلم نحن معه بالصلاة. فتكون قراءة الكتاب المقدس والصلاة هما بمثابة الشهيق والزفير بهما معاً نعيش، ويكونان كجناحي الطائر بهما معاً نحلق عالياً (يو15: 7، أف6: 17، 18، عب4: 12- 16).
والمرساة الثانية: حفظ نفوسنا في محبة الله. عندما يُغمر الإناء في مياه البحر الكبير يكون ماء البحر في الإناء، والإناء أيضاً يكون في البحر. وهكذا معنا. فلقد انسكبت محبة الله في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (رو5: 5) لكن لا يجب أن نكتفي بذلك بل يجب أن تكون قلوبنا موجودة في محبة الله. هذا هو المجال الذي ينبغي أن يعيش فيه القديس. أو هو الجو الذي يحفظنا من مغريات العالم المتنوعة، وشهواته الكثيرة، وجاذبياته الخطرة. فاحفظ نفسك إذاً في محبة الله. إن من يحرص على التواجد المستمر في أشعة الشمس الدافئة سيحفظ نفسه من برودة جو الشتاء. هكذا من يحفظ نفسه في محبة الله سيحفظ نفسه من محبة العالم التي هي عداوة لله (يع4: 4، 1يو2: 15).
والمرساة الرابعة: المرساة الأخيرة والعظيمة "منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية" نعم إن رحمة ربنا يسوع الملازمة لنا كل أيام حياتنا (مز23: 6) هي لازمة لنا جداً بصفة خاصة في هذه الأيام الشريرة. ولنا أن ننتظر كل يوم رحمة جديدة من الرب حتى تأتي رحمته العظمى والأخيرة عندما يأتي ليأخذنا من هذا المشهد الخرب كيما نتمتع التمتع الكامل بالحياة الأبدية. هذا هو الرجاء المسيحي في نهاية الرحلة: وهو مرساة أمينة لنا "تكون لنا تعزية قوية نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا" (عب6: 18- 20).
يقول لوقا إنهم بعد أن ألقوا المراسي الأربع "كانوا يطلبون أن يصير النهار". وإذا عدنا إلى التطبيق على رحلة الكنيسة نرى أن القديسين بعد أن ألقوا المرساة الرابعة "ومدلولها كما رأينا هو امتلاكهم لذلك الرجاء السعيد" طلبوا أن يصير النهار، وتشوقوا إلى "كوكب الصبح المنير" (رؤ22: 16).
لقد شعر ركاب السفينة بالضعف بل والعجز على مواجهة العاصفة العاتية في مثل تلك الظلمة الحالكة فطلبوا بزوغ الفجر. وهكذا أيضاً في رحلة الكنيسة. فإذ شعر القديسون الفيلادلفيون في ذلك الدور بأن قوتهم يسيرة (رؤ3: 8) وعلموا حقيقة شر الأيام وصعوبتها، أيقنوا أن الأمل الوحيد هو مجيء الرب.
لكن عبارة "كانوا يطلبون أن يصير النهار" تفيد أيضاً أن مجيء الرب لم يكن فقط مجرد حقيقة عرفوها جيداً، بل كان غرضاً يطلبونه ويبتغونه (قارن عب11: 14، 16). نعم هم عرفوا حقيقة مجيء الرب بذهنهم وتأكدوا منها، لكنه في المقام الأول كان رجاءً منعشاً أمام قلوبهم (انظر تي2: 13). لقد صار شوق قلوب القديسين وتطلع أرواحهم في تلك المرحلة هو مجيء المسيح!
في مقدمة الأجزاء الخمسة لملخص الكتاب المقدس "synopsis" لرجل الله داربي ذكر أنه تردد كثيراً في كتابتها لأنه كان شاعراً بقرب مجيء الرب وأمام هذا الشعور اعتقد الأخ الفاضل أنه ربما لا تكون هناك فرصة للآخرين ليستفيدوا مما كان سيكتبه. إلى أن أقنعه الرب بالكتابة "وكم نشكر الرب من القلب على أنه كتب ذلك الكنز الثمين الذي بواسطته تبارك الكثيرون لكن هذا يرينا كيف كان الإخوة الأوائل يعيشون في حالة التوقع المستمر لمجيء الرب. لقد كانوا حقاً يطلبون أن يصير النهار.
لقد مرت في رحلة السفينة فترة طويلة كئيبة جداً. "لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أياماً كثيرة" (ع20). وأما الآن فنقرأ عبارات منعشة: "كانوا يطلبون أن يصير النهار" (ع29) ومرة ثانية "وحتى قارب أن يصير النهار" (ع33). ونحن الآن إذ نعيش في ضوء انتظار مجيء المسيح يمكننا بصدق أن نقول "قد تناهى الليل وتقارب النهار" (رو13: 12).
ثانياً: استعادة باقي الحقائق المسيحية:
يبدأ هذا الدور بعبارة "فلما كانت الليلة الرابعة عشرة" (ع27) ونلاحظ تكرار الرقم 14 في هذه المرحلة مرتين. في ع27 وفي ع33. والرقم 14 هو نفسه مكرر الرقم 7 "14= 7×2". وفي الكتاب المقدس 7 هو رقم الكمال، 2هو رقم الشهادة (يو8: 17). وفي تطبيقنا ليس عسيراً أن نفهم المدلول الروحي لذلك. لقد عادت الشهادة الكاملة إلى المسيحية كما سنرى الآن.
وهناك كلمة أخرى ترد في هذه المرحلة من الرحلة أيضاً مرتين وهي كلمة "قاسوا" (ع28). وقد نجد في تكرار هذه اللفظ أن كلمة الله كانت غالية جداً على الرجال الأفاضل الذين استخدمهم الرب في هذا الدور من رحلة الكنيسة. ولأنها كانت غالية جداً عليهم فقد دققوا في كل عباراتها وحاولوا فهم كل دقائقها. وكان شعارهم "كلمتك ممحصة جداً وعبدك أحبها" (مز119: 140) وعندما يقول لوقا "قاسوا ووجدوا عشرين قامة. ولما مضوا قليلاً قاسوا أيضاً فوجدوا خمس عشرة قامة" فإنه يمكننا أن نرى أيضاً أن نور الحق وصل إلى هذه الجماعة الأمينة بالتدريج. لأن سبيل الصديقين كنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل (أم4: 18). لقد كانوا يتبعون بطاعة كل ما يعلنه الرب لهم فكان يعطيهم نوراً أكبر.
نحن نعرف أنه حدثت في تاريخ الكنيسة نهضتان: النهضة الأولى هي نهضة الإصلاح "الدور الخامس" وفيها استُعيدت كلمة الله كقانون المسيحية كما مر بنا. أما النهضة الثانية، وهي النهضة الفيلادلفية التي نتحدث عنها الآن ففيها استُعيدت ذات أقوال الله، والحق المذكور بها.
ولعل أهم هذه الحقائق التي استعيدت والتي نرى بخصوصها تلميحاً في تلك المرحلة من الرحلة هي ما يلي:
1-كسر الخبز: "ولما قال هذا أخذ خبزاً وشكر الله أمام الجميع وكسر وابتدأ يأكل" (أع27: 35).
غني عن البيان أن هذه الآية لا تحدثنا عن ممارسة صنع ذكرى موت الرب بل عن كسر الخبز العادي بغرض الأكل. لكننا في تطبيقنا نجد فيها تلميحاً واضحاً لاستعادة المؤمنين لممارسة كسر الخبز بالطريقة الكتابية البسيطة أنه منذ أيام المسيحية الأولى لم يمارس كسر الخبز بالبساطة التي تحدَّث الكتاب المقدس عنها إلى أن تم ذلك في شتاء عام 1827 حيث اجتمع أربعة أشخاص في مدينة دبلن هم الإخوة: جون نلسون داربي، ودكتور ادوار كرونن، وفرنسيس هتشنسون، وجون جيفورد بلت، واجتمعوا معاً في بيت أحدهم وكسروا خبزاً. ولم يكن قصدهم في ذلك الوقت تكوين طائفة جديدة بل كان جل مقصدهم التمتع عملياً بممارسة الحق الذي اكتشفوه من كلمة الله وبالطريقة الكتابية. فاجتمعوا وكسروا خبزاً. وكانت هذه الاجتماعات تحت رياسة الرب وقيادة الروح القدس الساكن في المؤمنين أفراداً وفي الكنيسة جماعة بمثابة شرارة أوقدت نار نهضة كتابية مباركة انتشرت في كل ايرلندا والمملكة المتحدة، ثم القارة الأوروبية، بل وكل بلاد العالم أيضاً.
2-ضمان المؤمن الأبدي واختياره الأزلي:
لقد أوضحت نهضة الإصلاح بواسطة لوثر ورفاقه أن الخلاص بالنعمة، وأنه بالإيمان. لكن جاء بعد رجال الإصلاح من نادي بأن المؤمن الحقيقي قد يرتد وقد يهلك. وهو ما نادى به أولاً راهب هولندي اسمه أرمينيوس عاش في أوائل القرن السابع عشر وعلَّم بأنه لا ضمان أبدي للمؤمن الحقيقي فهو قد يخيب من نعمة الله وفي هذه الحالة يهلك هلاكاً أبدياً بعد ما وُلد من الله وخُتم بالروح القدس! كما رفض أيضاً مبدأ الاختيار، اختيار الله المطلق والأزلي للمؤمنين، وتحدث عن اختيار مشروط- بمعنى أن الله اختار من كل يعلم هو أنه سيؤمن به وسيظل أميناً إلى النهاية. وكأن الإيمان هو من عندياتنا (انظر أف2: 8) وكأننا نحن الذين نحفظ أنفسنا في يد الآب ويد الابن (انظر يو10: 28، 1بط1: 5)! لكن عندما أتت النهضة الكتابية الفيلادلفية في القرن التاسع عشر فنّدت تلك الآراء وأوضحت تماماً زيفها.
وهو ما نراه في تلك المرحلة من الرحلة في كلمات الرسول في ع34، ع37.
فأولاً يقول الرسول "لا تسقط شعره من رأس واحد منكم" (ع34). وقد قال بولس هذا بكل يقين لأنه سمع من فم الملاك "وهبك الله جميع المسافرين معك". أما نحن فقد سمعناه من فم الله أننا محفوظون ليسوع المسيح (يه1) الذي "يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام (أي إلى آخر المطاف) الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب7: 25).
وبعدها يذكر لوقا في ع37 "وكنّا في السفينة جميع الأنفس مئتين وستة وسبعين". وهذه أول إشارة إلى عدد الركاب. فالكل معروف ومضمون وصوله سالماً. وأما بالنسبة لنا فنحن لسنا فقط معروفين بأعدادنا بل بأسمائنا لأننا مختارون في المسيح من قبل تأسيس العالم. وهو سبق وعرفنا وعيننا لنكون مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين- ودعانا- وبررنا- ومجدنا (رو8: 29، 30).
3-وحدة الجسد:
كان أحد أبرز التعاليم التي أرستها حركة الإخوة في البداية باعتبارها تمثل أوضح ملامح النهضة الفيلادلفية هو مبدأ وحدة الجسد "جسد واحد وروح واحد" (أف4: 4) "لأننا بعضنا أعضاء البعض" (أف4: 25). لكن تلك الحركة المباركة تعرضت في وقت مبكر لمحاولة البعض إدخال مبدأ استقلالية الكنيسة المحلية. وترد إشارة عن هذا الأمر في هذه المرحلة من رحلة السفينة عندما نقرأ "ولما كان النوتية يطلبون أن يهربوا من السفينة وأنزلوا القارب إلى البحر بعلة أنهم مزمعون أن يمدوا مراسي من المقدم، قال بولس لقائد المئة والعسكر إن لم يبق هؤلاء في السفينة فأنتم لا تقدرون أن تنجوا. حينئذ قطع العسكر حبال القارب وتركوه يسقط".
لقد أراد النوتية أن يهربوا من السفينة فأنزلوا القارب إلى البحر بزعم أنهم سيمدون مراسي. والهروب بالقارب من السفينة يتضمن الإقرار بأن حالة السفينة أصبحت حالة ميئوساً منها، كما أنه أيضاً يتضمن محاولة إصلاح الوضع باعتبار شهادة صغيرة (القارب) على أساس أضيق من مبدأ الجسد الواحد الذي يشمل كل المؤمنين في كل العالم. الأمر الأول، أعني أن حالة المسيحية العامة أصبح ميئوساً منها هو مبدأ صحيح تماماً فبولس نفسه قال "لا تكون خسارة.. إلاَّ السفينة" (ع22). أما الأمر الثاني، أي إنكار وحدة الجسد، باعتبار دائرة للشهادة أضيق من مبدأ وحدة الجسد، فهذا غير صحيح بالمرة. ولهذا فقد كان الهروب بالقارب خطأ. وهذا القارب بالإضافة إلى كونه يصور الحزبية والروح الطائفية التي نحن جميعاً معرضون لها باعتبار أن الـ "تخرب" (غل5: 20) هو من أعمال الجسد، فإنه يصور أيضاً الحركات والاجتماعات المختلفة التي اتسمت بروح الاستقلالية، تلك الروح التي بدأت تتسرب وسط شعب الله، حيث يجتمع الذين استنيروا وعرفوا الحق في جملته على مبدأ آخر غير مبدأ "جسد واحد وروح واحد".
كيف تصرف الأمناء في بداية حركة الإخوة عندما تعرضوا لمحاولة إدخال مبدأ الاستقلالية، أعني اعتبار الكنيسة المحلية مستقلة في القبول للشركة معها أو العزل منها، دون أن يكون ذلك ملزماً لباقي الكنائس؟ لقد تصدوا له بكل حزم على اعتبار أنه يتضمن إنكار لمبدأ وحدة الجسد[2].
وهكذا فمع إقرار بولس بأن حالة السفينة سيئة، بل وميئوس منها. لكنه لم يوافق على مبدأ الهروب بالقارب من السفينة. ونحن أيضاً مع أننا نقر بفشل البيت الكبير "المسيحية" بصفة عامة، لكننا لا نقدر أن ننكر هذا المبدأ، مبدأ الجسد الواحد الذي يشمل كل المؤمنين الحقيقيين في كل مكان في العالم بغض النظر عن ارتباطاتهم الطائفية أو المذهبية. وإن كل من له فكر بولس عليه فوراً أن يقطع حبال القارب "أعني الحركات التي تتسم بروح الاستقلال" ليسقط في اليّم غير مأسوف عليه.
والملاحظ أن كل الذين يعتنقون مبدأ الاستقلالية[3]ونفض أيديهم من الحالة العامة الخربة، إنما يفعلون ذلك تحت ستار إصلاح الأوضاع. "أنزلوا القارب إلى البحر بعلة أنهم مزمعون أن يمدوا مراسي من المقدم" ودائماً تجد عند البشر أعذاراً حسنة لأعمال غير حسنة. لكن لنتذكر قول الرب "من لا يجمع معي فهو يفرق" (مت12: 30). فليس المهم فقط أن نجمع، بل أن نجمع معه، وفي توافق مع فكره.
ثالثاُ: الرجوع الكامل لكلمة الله:
نقرأ في (ع30- 32) "ولما كان النوتية يطلبون أن يهربوا من السفينة وأنزلوا القارب إلى البحر بعلة أنهم مزمعون أن يمدوا مراسي من المقدم، قال بولس لقائد المئة والعسكر إن لم يبق هؤلاء في السفينة فأنتم لا تقدرون أن تنجوا. حينئذ قطع العسكر حبال القارب وتركوه يسقط". ولعلنا نتذكر أنه عندما تكلم بولس في مناسبة سابقة لم يستمع أحد له، إذ كان قائد المئة ينقاد إلى ربان السفينة وصاحبها أكثر مما إلى قول بولس (ع10، 11). وهذا معناه أنه أتت فترة في تاريخ الكنيسة نُحيت فيه كلمة الله وأخذت مركزاً تابعاً لأقوال أهل الثقة وأهل الخبرة. لكن في دور النهضة الفيلادلفية لم يعلُ صوت على صوت كلمة الله.
وارتبط بالرجوع إلى كلمة الله ثلاثة أمور مباركة هي: الطعام والنور والسرور.
فنقرأ "كان بولس يطلب إلى الجميع أن يتناولوا طعاماً" (ع33). لقد قدم بولس الطعام إلى كل الذين في السفينة أي إلى كل عائلة الله. وهكذا كانت النهضة الفيلادلفية بركة لا للذين ارتبطوا بها فقط بل لكل المؤمنين حتى الذين ظلوا في الأنظمة البشرية. وبعد أن كان طعام المؤمنين في أوقات سابقة هو مجرد تبن الخرافات والقصص الوهمية عادت حنطة الكلمة للمؤمنين[4]. ونلاحظ أن الطعام الذي قدمه بولس إلى ركاب السفينة كان موجوداً في السفينة من البداية. فهو لم يقدم شيئاً جديداً ولا طعاماً هبط عليه من السماء، بل قدم لهم طعاماً كان موجوداً لكن بالأسف غير متمتع به. وهو عين ما حدث في تلك النهضة الكتابية. فالإخوة الأوائل لم يقدموا للمؤمنين شيئاً مستحدثاً ولا إعلاناً جديداً، بل إنهم في الواقع رفضوا تماماً ما يسميه الناس بالرؤى والإعلانات، وتمسكوا فقط بالمكتوب وبالرجوع إلى كلمة الله. ألم يمدحهم الرب قائلاً "حفظت كلمتي" (رؤ3: 10)؟ نعم لقد عادوا إلى الحق الكتابي الذي كان منذ البدء في الكنيسة باعتبارها "عمود الحق وقاعدته" (1تي3: 15).
يقول الوحي "وحتى قارب أن يصير النهار كان بولس يطلب إلى الجميع أن يتناولوا طعاماً قائلاً هذا هو اليوم الرابع عشر وأنتم منتظرون لا تزالون صائمين ولم تأخذوا شيئاً".
آه، ما أطول الفترة التي حُرم فيها المؤمنون من الطعام الروحي. لكن الآن ها بولس يطلب إليهم أن يتناولوا طعاماً. ومرة ثانية يقول بولس "لذلك ألتمس منكم أن تتناولوا طعاماً. ما أرق هذه الكلمات "يطلب إليهم" و "ألتمس منكم". وما أبعد هذه الروح عن الروح التي كانت سائدة في العصور المظلمة، روح تسلط رجال الدين على الشعب الأعمى المسكين، لغة الحرمانات واللعنات على من يجرؤ على أن يناقش أو يحاول أن يفهم أو حتى يتجاسر أن يقرأ بذاته كلمة الله. ثم يواصل الرسول قائلاً "لأن هذا يكون مفيداً لنجاتكم" ليس أننا إن لم نأكل سوف نهلك لأن بولس سبق وقال إن الله قد وهبه جميع المسافرين معه. وبعد ذلك قال إنه لن تسقط شعرة من رأس واحد (ع34). كلا، بل إنه يقصد أن الطعام سيساعدهم على النجاة بمعنى أن الطعام للمؤمن لن يكون سبباً لوصوله إلى السماء بل معيناً له وهو في طريقه للسماء. إن التغذي بكلمة الله تجعل المؤمن ثابتاً أمام تشكيكات العدو وهجماته.
وكما ذكرنا لقد قدم الطعام لكل عائلة الإيمان لا لمن ارتبط بالحركة الفيلادلفية فقط. لهذا نقرأ هنا أن الكل أكل طعاماً، لكن لا نقرأ أن الكل كسر خبزاً. صحيح إن من حق كل أهل الإيمان أن يكسروا خبزاً، لكن بالأسف هناك كثيرين لارتباطهم الطائفية ونقص الشجاعة الأدبية التي تجعلهم ينفصلون إلى اسم المسيح وحده حرموا أنفسهم مما هو من حقهم كأولاد الله وكأعضاء جسد المسيح. لكن هذا لم يمنعهم من أن يتناولوا الطعام الروحي.
في الدور الرابع، كما رأينا، كان صوم ونوح وظلام. لكن الآن في الدور السادس تبدل الحال فأكلوا وصاروا مسرورين. وقبل طلوع النور حولهم طلع أولاً في قلوبهم، فاستحال اليأس الذي نتج بسبب احتجاب كلمة الله عن النفوس إلى ثقة ورجاء فنقرأ "كانوا يطلبون أن يصير النهار" (ع29).
وحتى قارب أن يصير النهار كان بولس الساهر يطلب إلى الجميع أن يتناولوا طعاماً. كأن بولس في انتظار طلوع النهار كان يقوم بدور العبد الأمين الذي يعطي لخدم سيده العلوفة في حينها (لو12: 42). وليت هذا يكون سلوك أصحاب المواهب دائماً فيعنوا اعتناءً تقوياً وروحياً بكل عائلة الإيمان لا بالذين تجمعنا معهم أفكار متشابهة. هكذا كان سلوك الأخوة الأمناء الأوائل الذين لازلنا حتى اليوم نتغذى ونتعزى بكتاباتهم المباركة والعميقة. تلك الكتابات التي تقدم لقطيع المسيح الغالي لا تراب الخرافات العجائزية ولا تبن المناقشات الفلسفية ولا قش المباحثات السخيفة والغبية بل الطعام القوي للبالغين. نعم إننا نتذكر بكل الشكر والسجود للرب أولئك الذين أعطانا إياهم المسيح رأس الجسد (أف4: 8، 11)، الذين كلمونا بكلمة الله (عب13: 7).
"فصار الجميع مسرورين وأخذوا هم أيضاً طعاماً". وهو نفس ما اختبره إرميا في أيام مشابهة إذ قال "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (إر15: 16).
لقد ترك المسافرون "كلودي" أي صوت النوح. واستعادت المسيحية طابعها الأصيل، طابع الفرح والتهليل. وعادت من جديد للمسيحية بساطتها في عهدها الأول حيث نقرأ في أول سفر الأعمال "كانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات... وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب" (2: 42- 47).
في وسط الخوفِ العظيمْ نُهدي لكَ السجود
نحمد فضلَكَ القديـمْ لأنـه يعـــود
مادمت تحفظُ الحيـاة لا نـرهبُ الهلاك
في الضيقِ أو حينَ النجاة نكونُ في حِمـاك
[1] -العبارة اليونانية المترجمة "موحى به من الله" في الآية العظيمة "كل الكتاب هو موحى به من الله" (2تي3: 16) هي في الأصل اليوناني كلمة واحدة "ثيوبنوستوس" وتعني حرفياً أنفاس الله.
[2] -هذا الفكر غير الكتابي أدى إلى الانقسام المحزن الذي حدث بين الإخوة عام 1849.
[3] -اعتبروا أن الكنيسة في صفتها العامة أصبحت غير منظورة وأنها ضاعت ولم يبق الآن كشهادة سوى الكنائس المحلية. وكل كنيسة مستقلة، ولا مسئولية متبادلة بين الواحدة والأخرى. لهم حرية لقبول أي شخص على أساس إيمانه وحالته الشخصية دون اعتبار الجماعة التي هو في شركة معها.
[4] -من دلائل اهتمام الأخوة بإطعام قطيع المسيح في كل مكان هو ذلك الكم الهائل من المجلات والدوريات بالإضافة إلى الكتب والشروحات التي فسرت كل كلمة الله لكي تقدم الطعام الروحي لأهل الإيمان وإذا ذكرنا فقط على المجلات الدورية التي كانت تقدم الطعام للمؤمنين وتشرح لهم الكلمة الحية، فإننا نذكرعلى سبيل المثل أن الأخ جون نلسون داربي كان يصدر مجلة "الشاهد المسيحي" والأخ. ج. ب. ستوني "مجلة صوت للأمين" والأخ تشارلس هنري ماكينتوس مع الأخ أندرو مولر "جدد وعتقاء" والأخ وليم كلي "خزانة الكتاب المقدس" والأخ ولستون "المرسل الإنجيلي"... وغيرها الكثير.
- عدد الزيارات: 4391