الدور الخامس: نهضة الإصلاح الديني
(ع21- 26)
القرن السادس عشر الميلادي
"فلما حصل صوم كثير حينئذ وقف بولس في وسطهم وقال كان ينبغي أيها الرجال أن تذعنوا لي ولا تقلعوا من كريت فتسلموا من هذا الضرر والخسارة. والآن أنذركم أن تُسروا لأنه لا تكون خسارة نفس واحدة منكم إلاَّ السفينة. لأنه وقف بي هذه الليلة ملاكُ الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر. وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك. لذلك سُروا أيها الرجال لأني أؤمن بالله أنه يكون هكذا كما قيل لي. ولكن لا بد أن تقع على جزيرة".
هذا الدور من رحلة بولس يتطابق مع فترة الإصلاح العظيم الذي حدث في أوائل القرن السادس عشر. ونلاحظ هذه المرة أننا لا نجد تشابهاً كبيراً بين هذه المرحلة من الرحلة وبين دور كنيسة ساردس في رؤيا 3 ذلك لأن كنيسة ساردس لا تحدثنا بالضبط عن الإصلاح بل عن الحالة بعد الإصلاح، أي بعد أن ذهبت روعة الحق وحرارته الأولى وحلت محلها الشكليات الميتة[1].
وتتميز فترة الإصلاح المباركة بما يلي:
1-العودة إلى كلمة الله.
2-عودة المناداة بالخلاص بالإيمان.
3-الأمان واليقين والبهجة.
أولاً: العودة إلى كلمة الله:
تحدثنا الآية الأولى من هذه الفقرة عن الصوم الكثير الذي حدث وهو كما فهمنا يشير روحياً إلى صوم من نوع آخر استمر مئات السنين عندما انقطع تقديم كلمة الله إلى النفوس، إذ "كانت كلمة الرب عزيزة في تلك الأيام" أقصد أيام العصور المظلمة. وحلت بالأسف خرافات البشر محل كلمة الله النقية. لكن الوحي يقول "لما حصل صوم كثير حينئذ وقف بولس في وسطهم وقال".
لقد سبق تكلم بولس في الدور الثالث من الرحلة، لكن أحداً لم يستمع إليه. ولهذا فإن بولس لا يرد ذكره في الدور الرابع على الإطلاق. لكن هنا في هذا الدور يعود بولس إلى الكلام مرة ثانية.
وبولس كما فهمنا يمثل صوت الله المتكلم إلينا. إذاً لقد عادت كلمة الله إلى المؤمنين. وأول ما يتكلم به بولس هو كلمات التوبيخ "كان ينبغي أيها الرجال الإخوة أن تُذعنوا لي ولا تقلعوا من كريت فتسلموا من هذا الضرر والخسارة".
لماذا يقول بولس هذا الكلام؟ ألعل بوسعهم العودة من حيث أتوا؟ أفي مقدورهم إرجاع الزمن إلى الوراء؟ أو بإمكانهم تعويض ما خسروه؟ كلاَّ بالطبع. وليس غرض بولس أنهم يرجعون بالسفينة إلى موضع جغرافي مختلف، بل يرجعون بالقلي تائبين كقول الرب "فاذكر من أين سقطت وتب" (رؤ2: 5).
ثم يواصل بولس كلامه "لأنه وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً لا تخف يا بولس"... ثم يستطرد قائلاً "لني أؤمن بالله أن يكون هكذا كما قيل لي".
في هذا الجزء الصغير ترد ثلاث إشارات إلى قول بولس وقول الله. "وقف بولس في وسطهم وقال... وقف بي ملاك الإله الذي أنا له قائلاً... لأني أؤمن أن يكون هكذا كما قيل".
إن سر تبدل الحالة في هذه المرحلة لا يرجع إلى تحسن الظروف بل إلى عودة كلمة الله للمسافرين. وما أحلى الرجوع إليها. إن كلمة الله للمؤمن هي وحدها الصخر الذي لا يُزال. وكل ما عداها أساسات واهية كالرمال (مت7: 24). لقد كان أعظم عمل عمله رجال الإصلاح هو الرجوع إلى كلمة الله، ثم إخراج هذه الكلمة العظيمة من سجنها الذي سجنها فيه رجال الدين. نعم ما أحلى الرجوع إلى كلمة لله. كما اختبر ذلك إرميا النبي في ظروف مشابهة فقال "وُجد كلامك فأكلته. فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (إر15: 16). وما أعظم تأثير كلمة الله على النفوس. فآية واحدة هي "البار بالإيمان يحيا" كما سنرى بعد قليل- غيرت التاريخ بل وغيرت الجغرافيا أيضاً!
لقد كان لوثر عظيماً في ثورته ضد جحافل الطغيان الديني، تلك الثورة التي تمثلت في إحراقه لقرار الحرمان البابوي أمام جمع حاشد في محفل مهيب في ديسمبر 1520. لكنه لم يكن أقل عظمة عندما انزوى هادئاً في قلعة وتنبرج في ألمانيا ليترجم الكتاب المقدس[2]إلى اللغة الألمانية الحديثة ليفهمه الشعب وصدرت أولى طبعاته في سبتمبر 1522. نعم إن النيران التي أحرق بها لوثر منشور البابا أشعلت نيران نهضة عظيمة في كل أوربا، لكن كلمة الله التي ترجمها أوقدت نوراً ساطعاً بدل ظلمات الجهل التي أطبقت على العقول والقلوب لمئات من السنين.
ثانياً: المناداة بالخلاص بالإيمان:
يُختم الدور السابق بما يمكن اعتباره مرثاة أليمة "أُنتزع أخيراً كل رجاء في نجاتنا". أما الآن فعلى العكس، نسمع صوت بولس يدوي "أنذركم أن تسروا لأنه لا تكون خسارة نفس واحدة منكم إلاَّ السفينة. لأنه وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر. وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك".
إن كلمة الله حملت الأمان والاطمئنان إلى قلوب المسافرين مع بولس فتبدل معهم. وهو نفس ما حدث في هذه المرحلة من رحلة الكنيسة فإن آية واحدة- كما ذكرنا- وهي "البار بالإيمان يحيا" (غل3: 11، رو1: 17، عب10: 38) أنارت ذهن لوثر، وجعلته يلقى عن كاهله خرافات الكنيسة البابوية من محاولة الحصول على الخلاص بالأعمال أو شرائه بالأموال "مهزلة صكوك الغفران" أو استجدائه من رجال الدين عن طريق كرسي الاعتراف أو ذبيحة القداس. هذا البنيان الضخم، لكن الواهي، انهار تماماً أمام آية واحدة "البار بالإيمان يحيا".
ليس معنى ذلك أنه لا توجد سوى هذه الآية التي تتحدث عن هذه الحقيقة الجوهرية "مع أنها كافية" بل الكتاب المقدس كله يشهد أن كل عطايا الله العظمى هي بالنعمة من جانب الله وبالإيمان من جانب الإنسان. نعم الإيمان وحده، الإيمان البسيط، الإيمان الشخصي بالمسيح كمن أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا تهب الإنسان الخاطئ غفراناً (أع10: 43) وللمذنب تبريراً (رو3: 22، 5: 1) وللهالك خلاصاً (أع16: 31، أف2: 8) وللميت حياة (يو3: 36، 1يو5: 13) وللنجس تطهيراً (أع15: 9) وللمهزوم نصرة (1يو5: 4، 5)، بالإجمال تعطي كل ما قصد الله أن يهبه بالنعمة للإنسان.
ثالثاً: الأمان واليقين والبهجة:
جميلة هذه الثلاثية التي ميزت تلك المرحلة من الرحلة بعد المرحلة السابقة التي ميزها الخوف واليأس وصوت النواح!
استمع إلى ما قاله الله لبولس بواسطة الملاك: "لا تخف يا بولس" وكلمة واحدة من الله كافية لأن تزيل الخوف تماماً، وتملأ القلب سلاماً سواء من جهة الأبدية، أو من جهة الأعواز اليومية. فمن جهة الأبدية يقول الكتاب "إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح" (رو5: 1) ومن جهة مشوار البرية قال المسيح "سلامي أعطيكم" (يو14: 27)!
نعم لقد ميزت الشجاعة رجال هذا الدور وزال الخوف من قلوب أولئك الأبطال. خذ على سبيل المثال رجل الإصلاح العظيم لوثر. لقد قضى ليلة لا تُنسى في تاريخ الإصلاح وهو في طريقه ليحاكم أمام ممثل البابا، قضاها في صرع وجهاد أمام الله. وفي الصباح لما سئل لوثر هل سيتراجع ويسحب كل مؤلفاته السابقة، صاح صيحته الشهيرة الهادرة "لا أستطيع أن أسحب أقوالي ولن أسحبها... هذا هو موقفي ولا أستطيع أن أفعل غير ذلك. الله عوني وناصري. آمين".
يواصل بولس سرد ما قاله له الملاك "ينبغي أن تقف أمام قيصر" وعندما يقول الله إنه ينبغي أن يقف أمام قيصر فأية عواطف تلك التي تقدر أن تمنع وصول بولس إلى رومية؟ ثم يستطرد بولس عن فم الملاك فيقول "وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك". وعندما تقول السماء هذا فأية قوة جهنمية تقدر أن تؤذي أضعف واحد من المسافرين مع بولس؟؟ لقد امتلأ قلب بولس لا بالإيمان فقط بل باليقين أيضاً. وما أعظم اليقين الذي للمؤمن الآن. نحن أيضاً بوسعنا أن نقول بملء اليقين "مِن ثَم يقدر "المسيح" أن يخلص أيضاً إلى التمام "إلى نهاية المشوار" جميع الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب7: 25).
ثم يقول بولس لذلك سُروا أيها الرجال لأني أؤمن بالله أن يكون هكذا كما قيل لي". ومن نصيبنا نحن أيضاً أن نُسر ونفرح في الرب كل حين (في4: 4).
في قول الملاك "لا تخف" نرى الأمان.
وفي القول "ينبغي" نرى اليقين.
وفي القول "سُروا" نرى البهجة.
هكذا تداخل الرب له المجد بنعمته لتغيير اللحن الحزين الذي ميز الدور السابق في الرحلة بهذا الحق الثلاثي الجميل: الأمان واليقين والبهجة. إنها تذكرنا بما ورد في رؤ5: 1، 2.
"فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح".
هذا هو الأمان
"الذي به قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون".
هنا نرى اليقين
"ونفتخر "أي نفرح" على رجاء مجد الله.
فما أعظم البهجة
عين تحرسنا وإيد تواسينا
وهيعدينا لحد سمــاه
مهما الغربة تبان لينا صعبة
هترسي المركب وهنلقاه
سر حياتنا ده هو يسوع
بنرنمها بصوت مسموع
هو الكلمة وهو اللـه
هو بموته عطانا حيـاه
[1] -يمكن القول إن رحلة الكنيسة بحسب رؤيا2، 3 تحدثنا بالأكثر عن فشل الإنسان تحت المسئولية إذ أن الرب يسوع يُرى في وسط السبع المناير كابن الإنسان الذي يبتدئ القضاء من وسط شعبه. أما أعمال 27 فنرى فيها بالأكثر جانب أمانة الرب ونعمته. وهذا يُشبه إلى حد ما سرد تاريخ الشعب الأرضي في سفري الملوك وفي سفري أخبار الأيام على التوالي.
[2] -وقبل لوثر بسنوات عديدة ظهر وبكليف صاحب أول ترجمة للكتاب المقدس إلى الإنجليزية. ثم جاء تندال الذي اختبأ من غضب كنيسة إنجلترا في نفس قلعة وتنبرج مع لوثر، وترجم الكتاب المقدس إلى الإنجليزية ترجمة أحدث ليست كسابقاتها معتمدة على ترجمات أخرى، بل ترجمة مباشرة من العبرية واليونانية. وقد دفع هذان الأخيران حياتهما ثمناً لعملهما العظيم. كما نبشت قبر وبكليف وأخرجت عظامه وأحرقتها. لكنها لم تقدر أن تلاشي الأثر العظيم لعملهما. لقد خرجت كلمة الله من حبسها وصارت طعاماً شهياً للمؤمنين بدلاً من خرافات رجال الدين التي لا تفيد.
- عدد الزيارات: 3874