Skip to main content

الدور الرابع: العصور المظلمة

(ع14- 20)

ابتداء من القرن السابع الميلادي

"ولكن بعد قليل هاجت عليها ريح زوبعية يقال لها أوركليدون. فلما خُطفت السفينة ولم يمكنها أن تقابل الريح سلمنا فصرنا نحمل. فجربنا تحت جزيرة يقال لها كلودي. وبالجهد قدرنا أن نملك القارب. ولما وضعوه طفقوا يستعملون معونات حازمين السفينة. وإذ كانوا خائفين أن يقعوا في السيرتس أنزلوا القلوع، وهكذا كانوا يُحملون. وإذ كنا في نوء خفيف جعلوا يفرغون في الغد. وفي اليوم الثالث رمينا بأيدينا أثاث السفينة وإذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أياماً كثيرة، واشتد علينا نوء ليس بقليل، انتزع أخيراً كل رجاء في نجاتنا".

هذا الدور من رحلة بولس يتطابق مع الدور الرابع في رحلة المسيحية أي دور كنيسة ثياتيرا والذي تميزه الملامح التالية:

1-ظلمة الوثنية تغزو المسيحية.

2-ضياع محتويات المسيحية بصفة عامة.

3-ضياع الأمل نهائياً.

أولاً: ظلمة الوثنية تغزو المسيحية:

لقد بدأت في هذه المرحلة ما دعاه المؤرخون بالعصور المظلمة. وسر ظلامها "كما فهمنا في الدور السابق" هو الانحراف عن كلمة الله. "إلى الشريعة وإلى الشهادة. إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر" (إش8: 20) وعندما أزيحت كلمة الله جانباً، ثم حُجبت عن الأنظار، فقد حلت محلها بكل أسف الخرافات البالية العجائزية التي لا حصر لها. كيف يحدث هذا في المسيحية؟ الإجابة سنفهمها ونحن ندرس هذه المرحلة من رحلة الرسول بولس إلى رومية إذ يقول المؤرخ الإلهي "لكن بعد قليل هاجت عليها "أي على السفينة" ريح زوبعية يقال لها أوروكليدون فلما خُطفت السفينة ولم يمكنها أن تقابل الريح سلمنا فصرنا نحمل" (ع14، 15). وكلمة أوروكليدون تتكون من مقطعين: "أويروس" وهي كلمة يونانية تعني ريحاً شرقية و "أكويلو" وهي كلمة لاتينية تعني ريحاً شمالية. ولهذا فقد اصطلح الملاحون على تسمية الرياح الزوبعية القادمة من الشرق والشمال باسم أوروكليدون[1].

الشرق والشمال، ما المدلول الروحي لهما؟ إننا على سبيل المفارقة نذكر قول موسى في بركته لنفتالي "يا نفتالي اشبع رضى وامتلئ بركة من الرب. واملك الغرب والجنوب". فإن كان الغرب والجنوب هما مرادفان لرضى الرب وبركته، فلنا أن نتصور ماذا يكون الشرق والشمال!

إن الشرق في كلمة الله يشير إلى البعد عن الله وإلى الوثنية (تك3: 24، 4: 16، 11: 2، إش2: 6، خر8: 16... الخ) بينما الشمال هو مصدر الرياح العاتية العاصفة "كما مرّ بنا في الدور السابق- حز1: 4". إذاً فلقد هبت على المسيحية في ذلك الدور ريح وثنية هائجة اقتلعت واكتسحت كل ما هو أمامها حتى قيل "لما... لم يمكنها "أي السفينة" أن تقابل الريح سلمنا فصرنا نُحمل". وهكذا يخبرنا التاريخ أن تعليماً فاسداً أعقب تعليماً آخر فاسداً دخل إلى المسيحية، وانفلت الزمام حتى تم القول "سلمنا فصرنا نُحمل".

أيمكننا أن نتخيل أن الذي كان يرفض السجود للتماثيل في ذلك الوقت كان يعتبر هرطوقياً! وأن الإمبراطورة ثيودورا- التي تعتبرها الكنيسة البابوية قديسة قد قتلت في زمن قصير مائة ألف شخص لا لشيء إلاَّ لأنهم رفضوا السجود للتماثيل[2]!! إن كان من يرفض السجود إلاَّ لله يعتبر في نظر الكنيسة هرطوقياً ويُقتل، فأي عصور مظلمة هذه؟ وأية وثنية مرعبة تلك؟!

ودعنا نتذكر في عجالة أمثلة قليلة عن التعاليم الغريبة عن المسيحية التي انتشرت في ذلك الوقت[3]والتي يرجع الكثير منها إلى الأفكار الوثنية.

*القرن السابع: أعتُبر البابا في روما أنه خليفة بطرس ورئيسا للكنيسة ومحل ابن الله على الأرض "نحو عام 590م". ونحو عام 600م تم نشر التعليم الخاص بالمطهر. وفي نفس الزمن أيضاً انتشر احترام آثار القديسين، والحج إلى الأماكن المقدسة. ثم إدخال الصور والتماثيل إلى أماكن العبادة للتبرك بها.

*القرن الثامن: دخلت عبادة الأيقونات وانتشر السجود للتماثيل والصلاة لها وتقبيلها، وتحليتها بالجواهر.

*القرن التاسع: إدخال عقيدة الاستحالة "ثم تثبيتها بعد ذلك في مجمع لاتيران في القرن الثالث عشر". وكذلك حكاية الماء المقدس.

*القرن العاشر: الطقس الخاص بمسحة المرضى.

*القرن الحادي عشر: عبادة العذراء وتثبيت ذلك رسمياً على يد البابا إربان الثاني في مجمع كليرمينت عام 1095م.

*القرن الثاني عشر: الأسرار السبعة. ثم تثبيتها في مجمع لاتيران في القرن الثالث عشر.

*القرن الثالث عشر: سن عيد صعود العذراء إلى السماء. وتثبيت مسألة كرسي الاعتراف في مجمع لاتيران عام 1215م. وكذلك عبادة القربان المقدس. والقداسات لأجل الموتى.

ناهيك عن مهازل الحروب الصليبية وبعدها صكوك الغفران وبعدها محاكم التفتيش... الخ الخ.

ثانياً: ضياع محتويات المسيحية:

"إذ كنا في نوء جعلوا يفرغون في الغد. وفي اليوم الثالث رمينا بأيدينا أثاث السفينة". وهذا يعني تفريغ المسيحية من محتوياتها العظيمة مثل كمال وكفاية عمل المسيح وعدم تكراره. كمال وكفاية كلمة الله، الكتاب المقدس الذي يجعل إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح. وكهنوت جميع المؤمنين وسجودنا الآن في الأقداس السماوية باعتبار المسيح هو كاهننا الأعظم. بالإجمال ما عاد للمؤمنين ضمير مُكمَّل وسلام قلبي على ذبيحة المسيح الكاملة. وفي جو كهذا ليس بمستغرب أن يُنبذ مبدأ الخلاص كلية، وتتحول حقيقة الخلاص في نظر البعض إلى "بدعة الخلاص"!! وليس عجيباً أن ترد في هذا الدور من الرحلة هذه الكلمة الصعبة "انتزع أخيراً كل رجاء في نجاتنا".

ثم يقول "وإذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أياماً كثيرة". إنها بحق عصور مظلمة. فلا نور في النهار ولا نور في الليل! ثم إن احتجاب السماء عن ركاب السفينة يشير إلى أن الدعوة السماوية قد غابت عن الكنيسة وفقدت المسيحية طابعها السماوي. فتجاهل المعلمون في هذا الدور دعوة الله العليا في المسيح يسوع، وتحولت المسيحية إلى ديانة عالمية، أو بالأسف إلى واحدة من ديانات[4]هذا العالم المختلفة.

بعد ذلك يقول الكتاب "لما حصل صوم كثير" (ع21). وهذا معناه أن ركاب السفينة في تلك المرحلة لم يكونوا محرومين من النور فقط. بل من الطعام أيضاً. فأولئك الذين تحولوا عن كلمة الله في الدور السابق، واكتسحتهم الأفكار والمبادئ الوثنية في هذا الدور نجدهم بالأسف في ظلمة وبلا طعام، فكلمة الله هي الضياء وهي الغذاء. ومسكين كل إنسان محروم من كلمة الله. ليس له طعام يسند قلبه ولا نور ينعش نفسه.

ولهذا يقول لوقا "جرينا تحت جزيرة يقال لها كلودي". وكلودي تعني صوت النوح[5]. لأنه إذ فقدت المسيحية محتوياتها السماوية العظيمة فقد فقدت أيضاً طابع الفرح السماوي، واختفى صوت التسبيح: الترنيم للخلاص الأكيد والرجاء السعيد. هذا كله ضاع، واتشحت المسيحية برداء الزهد والتصوف وتذليل الجسد والرعب من الأبدية. نعم إن كلودي أي صوت النوح كان هو طابع المسيحية في العصور الوسطى، العصور المظلمة.

ثالثاً: ضياع الأمل:

لما هاجت الريح الزوبعية أوروكليدون على السفينة وخطفت السفينة ولم يمكنها أن تقابل الريح يقول الوحي "سلمنا فصرنا نُحمل". وهذا التسليم ليس هو تسليم الثقة في الله- كما يقتبس البعض هذه الآية خطأ- بل إنه كما تدل عليه قرينة الكلام- تسليم اليأس والاستسلام. لقد وصل بهم الأمر إلى الحد الذي يقال فيه "انتزع أخيراً كل رجاء في نجاتنا" (ع20). وهو نفس ما تؤكده كلمة الله. إن من يدرس رسائل تيموثاوس الثانية وبطرس الثانية ورسائل يوحنا ورسالة يهوذا، تلك الرسائل التي تحدثنا عن أيام الارتداد النهائية، الأزمنة الصعبة، يعرف أنه لا أمل أن تعود الكنيسة في مجموعها إلى استعادة حالتها الأولى حتى يأتي الرب ويختطف الكنيسة الحقيقية، ويتقيأ الكنيسة الاسمية من فمه.

لقد تعرضت السفينة في هذا الدور إلى سبع مصاعب خطرة نذكرها فيما يلي دون تعليق:

1-هاجت عليها الريح الزوبعية، فخُطفت السفينة. فاستسلموا وصاروا يُحملون.

2-كاد قارب النجاة نفسه يُفقد. وبالجهد قدروا أن يملكوه "وكان قارب النجاة يربط بحبل تجره السفينة خلفها ليكون واسطة للنجاة عند اللزوم". حتى هذا كان سيضيع. فاضطروا إلى رفعه إلى السفينة.

3-كادت السفينة تتكسر. فاستلزم الأمر تحزيم السفينة أي شد وسطها بالحبال.

4-خافوا من أن يقعوا على السيرتس "الرمال المتحركة الزلقة"، فانزلوا القلوع وبهذا فإنهم فقدوا السيطرة على السفينة تماماً.

5-في اليوم التالي أفرغوا من حمولة السفينة ما يمكن الاستغناء عنه. وفي اليوم الثالث رموا أثاث السفينة. وهذه الخسارة تذكرنا بما صار قديماً لسفينة يونان المتجهة إلى ترشيش "التي تعني خراب أو هلاك".

6-ظلمة حالكة دامسة: فلا الشمس ولا النجوم كانت تظهر واستمر الحال على هذا المنوال أياماً كثيرة. وفي ذلك الزمان الغابر لم يكن شيء أكثر خطراً لدى النوتية من استمرار تلبد الجو بالغيوم إذ كانوا معتادين على الاسترشاد في سيرهم بالأجرام السماوية.

7-يأس مطبق: إذ اشتد عليهم نوء ليس بقليل، انتزع أخيراً كل أمل في النجاة.

ما أقسى تلك الفترة من الرحلة، وما أرهب تلك الأيام والليالي على ركاب السفينة التي لا يقدّر رعبها إلاَّ من اختبرها. وما أصعب تلك العبارة التي تختم هذه المرحلة "انتزع أخيراً كل رجاء "كل رجاء" في نجاتنا".

أليست هذه حالة الكنيسة في أواخر العصور الوسطى المظلمة؟ من كان يظن أنه سيعود للمسيحية يوماً مفهومها ومعناها بعد كل ما صار لها على أيدي البشر في عصور الجهل والظلام!!

لكننا سنرى في الدور التالي كيف تداخل الله.

"الله لنا إله خلاص. وعند الرب السيد للموت مخارج" (مز68: 20).

إذا خضتَ لُجَّ المياهِ العميق

فلا تقدِرَنَّ عليكَ اللجَجْ

أنا لك في الضيقِ نعمَ الرفيق

وضيقُك أبدلُه بالفرجْ

فما نال كيدُ العدوِ الخصيم

ولا خابَ من ليسوعَ استند

وإن قامَ يغزوه باب الجحيم

فلست بتاركِه للأبــد


[1] -ترد هذه الآية في الترجمة التفسيرية هكذا"ولكن ريحاً عاصفة تعرف بالشمالية الشرقية هبت بعد قليل".

[2] -انظر مختصر تاريخ الكنيسة لأندور مولر ص204

[3] -مجمعة من كتاب مختصر تاريخ الكنيسة لأندرو مولر وكتاب The Two "Babylon" لألكسندر هيسلوب، وبعض الموسوعات الكتابية.

[4] -انظر الفارق بين المسيحية والديانات العالمية في الفصل التاسع من كتاب "الشيطان" للمؤلف.

[5] -بحسب قاموس بوتس.

  • عدد الزيارات: 5714