الدور الأول: العصر الرسولي وما تلاه
(ع1- 3)
"فلما استقر الرأي أن نسافر في البحر إلى إيطاليا سلموا بولس وأسرى آخرين إلى قائد مائة من كتيبة أوغسطس اسمه يوليوس فصعدنا إلى سفينة أدراميتينية وأقلعنا مزمعين أن نسافر مارين بالمواضع التي في آسيا. وكان معنا أرسترخس رجل مكدوني من تسالونيكي. وفي اليوم الآخر أقبلنا إلى صيداء فعامل يوليوس بولس بالرفق وأذن أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل على عناية منهم".
هذه الرحلة من الرحلة تمثل لنا في رحلة الكنيسة، العصر الرسول وما تلاه. تلك الفترة التي ميزتها أشياء ثلاثة هامة:
1-إنها بداية محتقرة.
2-لكنها بداية مباركة.
3-ثم نرى بداية الانحراف.
أولاً: بداية محتقرة:
تأمل هذه العبارة "سلّموا بولس وأسرى آخرين"! بولس الرسول العظيم، إناء الوحي الذي استخدمه الله في كتابة أسفار في الكتاب المقدس أكثر من أي واحد آخر من كتبة الوحي، هو في نظر الناس كأحد الأسرى الآخرين، القتلة واللصوص!
ليس هذا غريباً على العالم الذي قدم الصليب لسيدنا. فهل ينتظر خادم المسيح أفضل مما قدمه العالم لسيده؟ ألم يعامل البشر ربنا المعبود نفس معاملة الأثمة والأشرار؟ (مر14: 48، 15: 28) إذاً "يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه والعبد كسيده" (مت10: 25). ولهذا فقد سار وراء المسيح أتباعه يشتركون مع سيدهم في تجاهل العالم واحتقار لهم "من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه" (1يو3: 1) "كمجهولين ونحن معروفون" (2كو6: 9).
لكن ليس الرسل وحدهم، بل كانت هذه نظرة العالم للمسيحية في البداية. فقيل عنها "شيعة الناصريين" (أع28: 22). وكان لقب "مسيحي" من شأنه إشعار صاحبه بالخجل (1بط4: 16). هذه كانت نظرة العالم إلى المسيحية.
ثانياً: بداية مباركة:
يقول في (ع2) "فصعدنا إلى سفينة أدراميتينية" "أي سفينة منتسبة إلى أدراميس وهي ميناء في ميسية. ويقال أن كلمة أدراميس تعني قصر الموت[1]). وهكذا بدأت المسيحية رحلتها من العالم مكان الموت أو قصر الموت "وأقلعنا مزمعين أن نسافر مارين بالمواضع التي في آسيا" وهي المواضع التي خدم فيها بولس معظم خدماته، والتي إلى الكنائس السبع فيها كتب يوحنا رسائله السبع التي تحدثنا عن رحلة المسيحية على الأرض كما مر بنا (رؤ2، 3).
ثم يستطرد الوحي فيقول "وكان معنا أرسترخس رجل مكدوني من تسالونيكي". وأرسترخس هذا هو الاسم الوحيد من كل الركاب "بخلاف بولس" الذي يذكر في الإصحاح، ومعناه باتفاق كل المفسّرين "خير حاكم" وهكذا فإننا في أثناء رحلتنا نحو السماء لنا الحاكم أو المرشد الأفضل. فالمسيح قبل أن يصعد إلى السماء قال لتلاميذه "لا أترككم يتامى... أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (يو14: 16، 18). نعم إن الروح القدس الآن هو القائد الأفضل للمؤمنين في طريقهم نحو السماء "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رؤ 8: 14).
إذاً فهناك شخصان مذكوران بالاسم[2]من ركاب السفينة هما بولس وأرسترخس. بولس يمثل الحق الإلهي "كلمة الله" وأرسترخس يمثل الحاكم أو المرشد الإلهي أي "روح الله" ألعلنا نحتاج في رحلتنا شيئاً آخر بالإضافة إلى كلمة الله وروح الله؟!
لكن المؤرخ الإلهي لم يكتف بذكر اسم ارسترخس، بل يضيف إليه كلمتين هامتين فيقول "رجل مكدوني من تسالونيكي". وما أجمل ما يعيده إلى ذاكرتنا هذان المكانان: مكدونية وتسالونيكي. فمكدونية تذكرنا بالنعمة الإلهية والفرح العميق اللذين ميّزا المؤمنين في البداية "ونعرفكم أيها الأخوة بنعمة الله المعطاة في كنائس مكدونية أنه في اختبار ضيقة شديدة فاض وفور فرحهم" (2كو8: 1). هذا ما ميّز المسيحيين في البداءة، فرح رغم الضيق. وهذا ما تذكرنا به مكدونية. أما تسالونيكي[3] فإنها تذكرنا بالمؤمنين الذين رجعوا إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحي الحقيقي وينتظروا ابنه من السماء يسوع (1تي 9: 10).
تسالونيكي إذاً تحدثنا عن التحول من الزيف إلى معرفة الحق. وليس ذلك فقط بل تحدثنا أيضاً عن انتظار تحقيق الرجاء المبارك. فإن رسالتي تسالونيكي تحدثاننا بصورة ملفتة عن مجيء الرب. فلا يكاد يخلو إصحاح من الرسالتين من الكلام عن مجيء الرب. لكأن القديسين في البداية وقد تركوا قصر الموت "العالم" راكبين سفينة الإيمان نحو الوطن السماوي كانوا ينتظرون بشوق مجيء المسيح للاختطاف وعلم المحبة يرفرف على السفينة، والفرح يملأ قلوب كل المسافرين.
في تسالونيكي أيضاً نرى تقدير المؤمنين لكلمة الله، وللأواني التي حملت إليهم هذه الكلمة، أعني خدام الله خدام الكلمة (1تس2: 13، 3: 6)، هذا من ناحية. ثم تقدير الرسل لهم وفرحهم بهم من الناحية الأخرى (1تس2: 7، 8، 17- 20). فما أجمل هذه الحالة! هذه كانت حالة الكنيسة في عهدها الأول.
ثالثاً: بداية الانحراف:
يؤسفنا أن نقطع الاسترسال في الصورة المباركة السابقة لنقول إن بذور الانحراف ظهرت مبكراً جداً في أيام الرسل أنفسهم. وتَّمثل هذا الانحراف في أمرين رئيسين.
1-ظهور الميل للرياسات البشرية.
2-ترك المحبة الأولى.
1-ظهور الرياسات البشرية: أسمع مثلاً ما يقوله الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس "منكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم (أع 20: 30). وهل المؤمنون يتبعون أشخاصاً؟ أتنتسب جماعات القديسين إلى البشر؟ أما يكفي القديسين كلمة الله قانوناً وروح الله قائداً؟ هذا بالأسف ما حدث. وسنجد بعد قليل كيف أن الرحلة لم تتبع كلام بولس (ع10، 11، 21). أما أرسترخس الذي ورد ذكره مبكراً في ع2، أرسترخس الذي معنى اسمه خير حاكم لن نعود نسمع عنه شيئاً. وأليس هذا ما حدث في رحلة المسيحية. إذ لم يستطع القديسون أن يستمروا طويلاً متكلين على إرشاد روح الله غير المنظور لهم فاستبدلوه بالرياسات البشرية والأنظمة الرسمية. ثم تكونت بعد ذلك طبقة متسلطة على الشعب، وهو ما يشير إليه الرب في خطابه لملاك كنيسة أفسس، الكنيسة الأولى الواردة في رؤيا2: 1- 7 في قوله "أعمال النيقولاويين التي أبغضها أنا" (رؤ2: 6) وكلمة نيقولاوي معناها متسلط على الشعب. وألئك الذين أرادوا التسلط على الشعب، حتى لو كانت لهم الدوافع الحسنة في حفظ جماعة الرب من الانحراف، فإنهم تجاهلوا وجود الروح القدس ساكناً في كل مؤمن، وساكناً في الكنيسة كبيت الله. وهكذا نحّوا الروح القدس جانباً.
لاحظ أن أرسترخس ظل مع الركاب إلى أن وصلوا جميعاً سالمين إلى البر، ولو أن أحداً لم يعد يلتفت إليه عملياً. وهو نفس ما حدث بالنسبة للروح القدس. فمع أنه لم يترك الكنيسة ولا يتركها كوعد الرب الكريم (يو14: 16، 17)، إلاَّ أن البعض ظنوا، نظراً لزحمة الأنظمة البشرية أنه عاد إلى السماء، فاجتمعوا في أوائل القرن الحالي وصلّوا لكي يحضر الروح القدس من السماء طالبين يوم خمسين جديداً. وكان الأجدر بهم لا أن يطلبوا حضوره كأنه ترك الكنيسة، بل أن ينتبهوا لحقيقة حضوره، سواء في سلوكهم الفردي أو الكنسي، ويرجعوا لدراسة كلمة الله، ويتصرفوا عملياً بالإيمان على هذا الأساس. لكن هذا ما حدث.
2-ترك المحبة الأولى: سار مع الانحراف السابق، بل وربما سبقه، انحراف آخر هو ترك المحبة الأولى (رؤ2: 4) أو المحبة الفضلى. إذ نقرأ في (ع3) "وفي اليوم الآخر أقبلنا إلى صيداء[4]، فعامل يوليوس بولس بالرفق، وأذن أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل على عناية منهم".
هذا ما حدث في اليوم الآخر. وعبارة "اليوم الآخر" فيها تلميح إلى الجانب الآخر من الصورة. فلم تكن كل الصورة منيرة، بل نجد هنا جانبها الآخر.
ثم إن عبارة "اليوم الآخر" تفيد اليوم التالي مباشرة، أي بعد فترة بسيطة جداً من المحبة الأخوية والمحبة للرب التي ميزت الكنيسة في أول عهدها. لقد حدث التحول والانحراف، إذ "أقبلنا إلى صيداء". وصيداء تعني الصيد، أو موضع الصيد. وتذكرنا بقول بطرس في ضعفه "أنا أذهب لأتصيد" (يو21: 3) عندما عاد بطرس إلى البحر وإلى الصيد الذي منه دعاه المسيح ليكون شاهداً وخادماً له. هكذا الكنيسة أيضاً ذهبت إلى بحر مصالحها العالمية.
أما بطرس فقد تاب سريعاً ورجع ثانية إلى الرب وإلى خدمته بعد ليلة انحرافه. وأما الكنيسة فقد خرجت ولم تعد. وظل بولس يبحث عنها حتى استشهاده. أسمعه يقول مرة "لأن الكثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح... الذين يفتكرون في الأرضيات" (في3: 18، 19). وأيضاً "الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح" (في2: 21). وفي آخر الرسالة قبيل استشهاده "جميع الذين في آسيا ارتدوا عني"، "الجميع تركوني" (2تي1: 15، 4: 16).
وقد تعني كلمة صيداء أيضاً "الغنيمة الوافرة". ويا للأسف أن يبحث كل واحد عن ربح وغنيمة في هذا العالم الزائف بدل أن ينشغل بالمسيح وأموره. ويا للأسف أن يقال "من الصغير إلى الكبير كل واحد مولع بالربح" (أر8: 10).
وأما رائحة مصادقة العالم فإننا نشتمها في القول "في اليوم الآخر أقبلنا إلى صيداء. فعامل يوليوس بولس بالرفق وأذن له أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل على عناية منهم" فإن الرفق والعناية من الأصدقاء في صيداء نشتم منها رائحة الصداقة العالمية أكثر منها رائحة المحبة الأخوية. وألم يحدث هذا فعلاً في تاريخ الكنيسة في أواخر أيام الرسل؟ أما ترد في آخر صفحة من الصفحات المجيدة التي سجلها بولس الرسول بالوحي هذا القول المؤثر "بادر أن تجيء إليّ سريعاً لأن ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر" (2تي9: 10) هذه صورة لبداية الانحراف ويا لها من صورة معبرة!.
وعندما يجتمع هذا الثنائي الخطير: إبدال الروح القدس بالتنظيمات الرسمية والرياسات البشرية من جانب مع محاولة أخذ الغنيمة والبحث عن المكسب من الجانب الآخر فإنه لا ينتج سوى ما حذرت منه كلمة الله مراراً. فمثلاً يقول بطرس الرسول "أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم أنا الشيخ رفيقهم... ارعوا رعية الله التي بينكم نظاراً لا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة" (1بط5: 1- 3). ويقول الرسول بولس "يوجد كثيرون يجب سد أفواههم. فإنهم يقلبون بيوتاً بجملتها معلمين مالا يجب من أجل الربح القبيح" (1تي10: 11).
وأخيراً نقول إن جنسية السفينة الأدراميتينية تعني كما ذكرنا في حاشية سابقة: ليست في السباق فالسفينة الأدراميتينية إذاً تفيد أن المسيحية بالأسف قد خرجت مبكراً جداً من السباق. وذلك لأن أمام المؤمنين الحقيقيين سباقاً "لنحاضر بالصبر في الجهاد "السباق" الموضوع أمامنا"(عب12: 1) أنه سباق نحو جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع (في3: 14). لكن ويا للأسف قد خرج المسيحيون بصفة عامة من هذا السباق!
والآن دعنا قبل سرد باقي تفصيلات الرحلة نتذكر خلاصة ما رأيناه في هذا الدور.
لقد رأينا أولاً نظرة العالم إلى المسيحية، نظرة الازدراء والتحقير.
ورأينا ثانياً نظرة الإيمان إلى الكنيسة. أنها ذات نظرة الله، نظرة التكريم والتقدير.
ثم رأينا أخيراً نظرة الرب الفاحصة الذي يقول لكل ملائكة السبع الكنائس "أنا عارف أعمالك" (رؤ2، 3).
ويا لها من نظرات ثلاثية جديرة بالتأمل والاعتبار!
[1] -بحسب قاموس بوتس. لكن ماكسون ودافيدسون يذكران أن أدراميتينية تعني ليست في السباق وسوف نعلق على هذا المعنى أيضاً بعد قليل.
[2] -نستنتج من القول "صعدنا" و "أقلعنا" و "أقبلنا"... أن لوقا كاتب السفر كان في الرحلة. لكن اسمه لم يرد في الإصحاح.
[3] -معناها بحسب قاموس بوتس: نصرة الله، وبحسب قاموس جاكسون وقاموس دافيدسون: النصرة على الزيف والكذب.
[4] -يقول قاموس الكتاب المقدس لطمسن أن صيداء تعني مكان صيد السمك. وجاكسون يقول أنها تعني صيد "hunting" ويقول فاوست في موسوعته أنها تعني مدينة الصيد "fishing town" أما "بوتس" في قاموسه فيقول أنها تعني الغنيمة الوافرة. وسوف أشير أيضاً إلى هذا المعنى بعد قليل.
- عدد الزيارات: 4139