نظرات استهلالية
يتحدث هذا الكتاب عن رحلة الرسول بولس المذكورة في آخر سفر الأعمال، هذه الرحلة التي بدأت من قيصرية وانتهت بأسر الرسول في روما. ولقد وردت تفصيلات تلك الرحلة المثيرة بكل دقة في الإصحاح السابع والعشرين من سفر الأعمال، المواني التي مروا فيها، والصعوبات التي تعرضوا لها، التحذيرات الرسولية، والتشجيعات الإلهية، أثاث السفينة الذي رموه ثم المراسي التي نزعوها. الطعام الذي أكلوه ثم الحنطة التي طرحوها... وتفصيلات أخرى دقيقة سنشير إليها في حينه. حتى أن الشخص الملم بكلمة الله من الطبيعي أن يسأل: ألا توجد قيمة لكل تلك التفصيلات الدقيقة سوى قيمتها التاريخية فقط؟ أليس من دروس روحية نتعلمها من تلك التفصيلات؟ والإجابة التي اقتنع بها عدد من الشراح هو أن سفر الأعمال، السفر المشغول بالحديث عن نشأة الكنيسة وتكوينها من يوم مولدها في أعمال 2 ثم أيامها الباكرة بعد ذلك، يختم برحلة تقدم لنا بلغة تصويرية رحلة الكنيسة من بدايتها المجيدة إلى نهايتها المحزنة. لقد كان الرسول بولس خادم الكنيسة (كو1: 24: 25) بمعنى أنه الإنسان المعيَّن من الله لإعلان الحق الخاص بالكنيسة، فليس عجيباً أن ترينا رحلته الأخيرة تلك، رحلة الكنيسة من الأول للآخر، أي من يوم الخمسين إلى الاختطاف بل وإلى ما بعد ذلك أيضاً.
يبدأ إصحاح 27 من سفر الأعمال بسفر الرسول بولس في البحر إلى روما بعد أسره في أورشليم ومكوثه في السجن في قيصرية سنتين. فرحلة الرسول إذاً التي نتحدث عنها بدأت في الواقع بأورشليم وانتهت برومية. تماماً كما أن سفر الأعمال يبتدئ بأورشليم وينتهي برومية. والمسيحية كما نعلم بدأت من أورشليم والآن ها زعامة المسيحية قد آلت إلى روما. وستظل هناك إلى ما بعد اختطاف الكنيسة. فأكبر كنيسة في العالم هي في روما، وأكبر رئيس ديني في العالم هو في روما، وأكبر تجمع ديني عالمي يتبع كنيسة روما. هذه هي أولى المشابهات بين رحلة الرسول ورحلة المسيحية. لكننا سوف نرى فيما يلي كيف تتطابق هذه الرحلة الواردة في أعمال 27 في تفصيلاتها الدقيقة مع رحلة المسيحية عبر العصور من البداية حتى النهاية.
رحلة واحدة في ثلاث سفن:
لقد استخدمت في هذه الرحلة ثلاث سفن متتالية، السفينة الأولى هي سفينة أدراميتينية (27: 2) وصلت إلى ميناء ميرا في مقاطعة ليكية. وعندها استبدل المسافرون سفينتهم الصغيرة بسفينة ثانية إسكندرية (27: 6)، أي من ميناء الإسكندرية في مصر، ويبدو أن هذه السفينة الإسكندرية كانت أكبر من سابقتها وبوسعها أن تعبر البحر الكبير. لكن هذه السفينة تكسرت عند ماليطة ونجا ركابها جميعاً. وبعد نجاة الركاب واصلت الرحلة مسيرتها بعد ثلاثة أشهر في سفينة ثالثة هي أيضاً إسكندرية (28: 11)، لكن الوحي يذكر هذه المرة أنها كانت موسومة بعلامة الجوزاء، وهي علامة وثنية، كان الملاحون يرسمونها على سفنهم لتجلب لهم الحظ السعيد في البحر.
وهكذا يمكن تقسيم رحلة المسيحية أيضاً إلى ثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى: هي مرحلة التأسيس في العصر الرسولي وما تلاه من عصور الاستشهاد، وفيها كانت الشهادة صغيرة لكنها نقية. وتم بصدق القول: دماء الشهداء هي بذار المسيحية.
المرحلة الثانية: عندما اعتنق قسطنطين الكبير المسيحية عام 313 وجعلها الديانة الرسمية للدولة ، ومن وقتها انتشرت المسيحية وأصبحت ديانة عالمية. وستنتهي هذه المرحلة الثانية قريباً بنهاية مزدوجة: نجاة جميع المؤمنين الحقيقيين بالاختطاف إلى السماء، بينما ستتكسر المسيحية تماماً كإناء للشهادة للحق.
المرحلة الثالثة: هي ما ستؤول إليه الحالة بعد الاختطاف إذ ستواصل المسيحية الاسمية مسيرتها (بعد ترتيب أوضاعها نظراً للحادثة التي ستهز كيانها، أعني الاختطاف) في سفينة وثنية تنتهي بالمسيحية إلى أسوأ أشكال الوثنية التي عرفها العالم في كل عصوره أعني بابل. وكما نفهم من سفر الرؤيا فإن بابل أم الزواني ورجاسات الأرض هي المرأة الجالسة على السبعة الجبال (رؤيا17: 9) وتشير إلى روما المدينة المبنية على السبعة الجبال. وبالتحديد إلى نظام البابوية في روما- أعني الفاتيكان، الذي سيصبح بعد اختطاف الكنيسة إلى السماء معقلاً ومجتمعاً لوثنية العالم كله، ويتم القول الخطير "سقطت سقطت بابل العظيمة وصارت مسكناً لشياطين ومحرساً لكل روح نجس، ومحرساً لكل طائر نجس وممقوت" (رؤ18: 2).
رحلة المسيحية أو تاريخ الكنيسة النبوي
يصور لنا الروح القدس رحلة الكنيسة على الأرض في أجزاء عديدة من الكلمة النبوية، فنرى تلميحاً لها في تاريخ قضاة إسرائيل في سفر القضاة، وكذلك مقدمة سفر راعوث، كما نرى مشابهة لها في تاريخ مملكة إسرائيل ويهوذا. وأيضاً في إنجيل متى 13 في أمثال ملكوت السماوات، وفي أجزاء أخرى أيضاً لن يكون بوسعنا الإشارة إليها الآن ولا الحديث عن تفاصيلها، خشية الخروج عن القصد من هذا الكتاب الصغير. لكن ربما يكون سفر الرؤيا إصحاح 2، 3 هو أوضح أجزاء الوحي التي تتحدث عن هذا التاريخ النبوي للكنيسة في الرسائل السبع الموجهة إلى الكنائس السبع التي في آسيا.
هذا الجزء من كلمة الله في هذا السفر النبوي يتحدث إلينا مباشرة عن الفترة الحاضرة، أعني الفترة من يوم الخمسين إلى يوم الاختطاف، إذ يقول الرب ليوحنا في الإصحاح الأول من سفر الرؤيا ما يمكن أن نعتبره مفتاحاً لهذا السفر النفيس "أكتب ما رأيت، وما هو كائن، وما هو عتيد أن يكون بعد هذا" (1: 19). وهذا التقسيم للسفر يقسم لنا السفر موضوعياً ليسهل لنا فهمه. لكن لا يقسمه إلى أقسام متساوية لأن غرض سفر الرؤيا الأساسي هو أن يُعلن الله لعبيده مالا بد أن يكون عن قريب (1: 1).
فقسمه الأول: "ما رأيت" هو مشهد الرب القضائي الوارد في الإصحاح الأول من السفر (رؤ1: 12- 20).
وقسمه الثاني: "ما هو كائن" أي كل الفترة الحاضرة.
أما قسمه الثالث: فهو مالا بد أن يكون بعد هذا- أي الأمور التي ستلي اختطاف الكنيسة إلى السماء وهي كل الأقوال الواردة من رؤيا4 إلى آخر السفر حيث أن هذه العبارة هي فعلاً نفس ما يفتتح به الإصحاح الرابع.
فإذا فهمنا ما سبق يكون من السهل علينا أن نفهم أن ما هو كائن هو موضوع رؤ2، 3. وفيه تقسم كل فترة الكنيسة إلى سبعة أدوار كالآتي:
دور كنيسة أفسس "وكلمة أفسس تعني محبوبة أو مشتهاة" رؤ2: 1- 7 يصور لنا العصر الرسولي وما تلاه حتى عام 167 م تقريباً.
ودور كنيسة سميرنا "وكلمة سميرنا معناها مر" رؤ2: 8- 11 تصور لنا عصور الاستشهاد حتى عام 313 م.
ودور كنيسة برغامس "وكلمة برغامس تعني انغماس أو زواج بالإرغام" رؤ2: 12- 17 يصور لنا أيام المسيحية عندما صارت ديانة عالمية من عام 313 حتى أواخر القرن السادس الميلادي تقريباً.
ودور كنيسة ثياتيرا "التي تعني تمثيلية أو قد تعني كما يقول البعض الذبيحة المتكررة" رؤ2: 18- 29 تصور لنا الكنيسة البابوية في العصور المظلمة ويستمر هذا الدور حتى مجيء الرب.
ودور كنيسة ساردس "وتعني بقية" رؤ3: 1- 6 تصور لنا الإصلاح في أوائل القرن السادس عشر، ثم بعد ذلك عندما تحولت حركة الإصلاح الروحية إلى حركة سياسية فدخلتها برودة الموت. ويستمر هذا الدور أيضاً إلى مجيء الرب.
ودور كنيسة فيلادلفيا "وتعني المحبة الأخوية" رؤ3: 7- 13 تصور لنا النهضة الأخيرة التي لمعت في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وتستمر هذه الحالة أيضاً حتى مجيء الرب.
وأخيراً دور كنيسة اللاودوكيين "وتعني حكم الشعب" رؤ3: 14- 22 تصور لنا الارتداد الأخير والتحول عن المسيح الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر ويستمر إلى أن يختطف المسيح الكنيسة الحقيقية إلى السماء، وها نحن ننتظر نهاية الرحلة بمجيء الرب بين لحظة وأخرى، وعندئذ سيتقيأ الرب الكنيسة المدعية من فمه.
وعلى ذات المنوال الذي استخدمه الرائي بالروح القدس في رؤيا2، 3 سأنسج تطبيقي على هذا الإصحاح، أعمال27.
ملاحظات ابتدائية:
قبل البدء في سرد تفصيلات تلك الرحلة وتطابقها العجيب مع رحلة المسيحية عبر العصور نذكر أولاً بعض المعاني المجازية التي ستساعدنا على فهم التطبيقات الروحية لهذه الرحلة.
1-فالسفينة سنعتبرها صورة للكنيسة أو للمسيحية كشاهدة لله على الأرض. ليست الكنيسة في امتيازاتها كجسد المسيح[1]أو عروس المسيح، بل باعتبارها مستودعاً للحق، لقد قال بولس من جهة الذين ارتدوا عن الإيمان المسيحي "أعني مجمل التعاليم المسيحية، أو بالحري الإيمان المسلَّم مرة للقديسين" أن سفينة إيمانهم انكسرت (1تي1: 19). لكن هذا الارتداد الفردي عن المسيحية الذي يحدث بين الحين والآخر في هذه الأيام الشريرة سيصبح بعد اختطاف الكنيسة ارتداداً عاماً فيحدث تحول نهائي عن الحق وارتداد كامل عن مجمل التعاليم المسيحية الأساسية، وبالتالي ستتكسر سفينة الإيمان بصفة عامة عند الاختطاف. لهذا سنعتبر السفينة في هذا التطبيق صورة للمسيحية كإناء للشهادة للحق تمخر بحر هذا العالم إلى الشاطئ الآخر، ومن هذا الوجه ينتظرها التكسّر عن قريب.
2-وبولس إناء الوحي سنعتبره يمثل صوت الله المتكلم إلى الإنسان لاسيما فيما يختص بذلك الحق[2]الذي ائتمنه الله عليه، سواء "إنجيل مجد الله المبارك" (1تي1: 11) أو "السر المكتوم منذ الدهور في الله" (أف3: 9) بالإجمال سنعتبر بولس يمثل صوت الوحي وتعاليم المسيحية السامية.
3-أما ركاب السفينة الذين عددهم 276 ووصلوا جميعهم سالمين إلى البر فسنعتبرهم في تطبيقنا يمثلون عائلة الإيمان أو عائلة الله، إنهم المسافرون مع بولس أو بالحري هم "شركاء الدعوة السماوية" (عب3: 1) الذين صاروا يُكوَّنون مع المسيح فريقاً واحداً (عب2: 11).
4-وأخيراً فإن الرياح التي تعرضت لها السفينة مرات عديدة خلال الرحلة (ع4، 7، 14، 15، 40) سنعتبرها تمثل هياج الشيطان "رئيس سلطان الهواء" (أف2: 4) ضد الكنيسة مستخدماً أعوانه، مثيراً الاضطرابات والاضطهادات بقصد إغراق السفينة ومن عليها لو قدر.
وسنرى كيف أنه قدر فعلاً على إتلاف وتحطيم السفينة، أما المسافرون فإنه لم يقدر أن يُهلك أي واحد منهم.
ببطء لكن بثبات
لم تكن رحلة بولس هذه سهلة أبداً، لقد تعرضت لكل أنواع الصعاب، وتكالبت ضدها كل قوى الشيطان، لكأن ذلك العدو الشرس الذي نراه في فاتحة سفر أيوب يهيَّج رياحاً عاتية ليهدم بيت ابن أيوب الأكبر على من فيه، قد جمع كل العواصف التي يعرفها لإعاقة الرحلة أو لإغراق السفينة. لقد وصلت السفينة إلى ميناء يقال له المواني الحسنة لكنه كان اسماً على غير مسمى، ومرة أخرى ظن النوتية أنهم ملكوا مقصدهم لكن اتضح خيبة ظنهم فبعدها مرت على السفينة وركابها فترات ما أصعبها وذاقوا الأمرين، كقول المؤرخ الإلهي "إذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أياماً كثيرة، واشتد علينا نوء ليس بقليل، انتُزع أخيراً كل رجاء في نجاتنا" (ع20). لكن رغم صعوبة ما تعرضوا له فقد بلغوا مقصدهم في النهاية. ورغم المخاطر التي تعرض لها كل ركاب السفينة لم يهلك منهم أحد. وما أجمل القول الذي يُختم به الإصحاح "وهكذا حدث أن الجميع نجوا إلى البر".
والآن حاول أن تتبع مسار تلك السفينة على خريطة، وسرعان ما ستكتشف أن تلك الرحلة لم تكن خطاً مستقيماً. لقد انحنى المسار وتباطأ المسير، لكن بولس كان متيقناً أنه سيبلغ روما مهما حدث، لا لشيء إلاَّ لأن الله وعده بذلك "ينبغي لك أن تقف أمام قيصر" (ع24). وبكل تأكيد كان وعد الله القديم "إذا اجتزت في المياه فأنا معك" (إش43: 3) سبب تعزية لبولس. بل إنه كان يوقن أيضاً أن شعرة لن تسقط من رأس واحد من المسافرين معه، لأن الله قال ذلك أيضاً (ع24).
وهذا كله في تمام الانطباق على رحلة أكبر وأهم، هي رحلة الكنيسة فلا يوجد أكثر مما تعرضت وتتعرض له المسيرة من مصاعب واضطهادات، لكننا لابد أن نبلغ البر سالمين، رغم عاصف الريح وعاتي الموج، على حساب ذاك الذي وعد بأنه لن يتركنا "أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (28: 20). ومع أنه لا مواني حسنة في رحلتنا لكن هذا فضل لنا كيلا تتعلق قلوبنا بالأرض وبالمكوث هنا. قريباً- على أي حال- سيتم القول "الجميع نجوا إلى البر".
تُقت له في غربـةٍ في عالمِ الهــولِ
حيث الجهادُ والعنا ووحشة الليـل
فقد تناهى الليـلُ والصبحُ دنا جداً
والربُ آتٍ مسرعاً لينجـز الوعـدَ
[1] -لا يقدر أي إنسان أن يلحق أي ضرر لجسد المسيح، والكنيسة من هذه الوجهة لا تقوى عليها أبواب الجحيم (متى16: 18). أما الكنيسة كإناء للشهادة فقد فشلت "كما سنرى في هذا الكتاب"، وسوف تتحطم قريباً.
[2] -عندما يذكر الرسول بولس في آخر رسالة كتبها، رسالة تيموثاوس الثانية، أن جميع الذين في آسيا "المقصود مقاطعة آسيا"، ومن ضمنهم طبعاً أفسس عاصمة المقاطعة التي إليها كُتبت رسالة أفسس وشُرحت الدعوة السماوية وحقيقة الجسد الواحد بأكثر إفاضة، فعندما يقول الرسول في 2تي1: 15 إنهم ارتدوا عنه "ولا يقول إنهم ارتدوا عن المسيح أو المسيحية" فإنه كان يشير إلى تحولهم عن تلك التعاليم السامية التي سُر الروح القدس أن يستخدم بولس في توجيهها إليهم.
- عدد الزيارات: 4492