تمهيد
كلمة في مضمون البحث
سادت عبر العصور محاولات شتى لطمس معالم المسيحية العربية وتغييبها عن الأذهان والوجود، والأغراض من ذلك تعددت في نفوس المغرضين. وقد دأبت المؤسسات الثقافية والتربوية والتعليمية في العالم العربي على سلب المسيحيين حقهم في التاريخ العربي، فجاءت مناهجها الدراسية منصبة كاملة في خانة الإسلام، مما حشا فكر الأجيال المتعاقبة بأن تاريخ العرب لم يكن يوما يخص سوى الإسلام والمسلمين.
ولم يزل إلى اليوم الصمت يحوم وسط المجتمع العربي بكل طبقاته حول الدور التاريخي للمسيحيين العرب، وهو صمت لا ينبع عن جهل بالتاريخ، بقدر ما هو تجاهل متعمد مصدره أولا وأخيرا الاستعلاء الديني. من هنا نبعت الضرورة إلى تسليط الضوء على المسيحية العربية، وإبراز دورها، وتوضيح علاقتها الأصيلة بالعرب والعروبة منذ نشأتها إلى الآن، بحسب ما ترويه بطون التاريخ، فنشأ هذا البحث المتواضع ناهلاً من علم الباحثين لأغراض ثلاث:
أ - التذكير بمسيحية العرب، لكي نبقيها في الأذهان ونمنع أجيالها الناشئة من مساوئ النسيان، لأن من نسى تاريخه وواقع أجداده نساه التاريخ.
ب - التعريف بدور المسيحية في نهضة العرب وترقية الفكر والآداب العربية، وهو دور لم تعط له مكانته المستحقة في التاريخ العربي.
ت - إعلامنا بحاضر المسيحية وواقعها ووجودها ومعاناتها وسط مجتمع عربي تسوده المرجعية الدينية.
في أقل حيز ممكن، وبصورة أقرب ما يمكن إلى الواقع سأحاول إعادة تركيب أحداث ووقائع من تاريخ المسيحية وحاضرها في جغرافية ما يعرف اليوم بالعالم العربي. وما أسوقه هنا من حقائق ما هو إلا غيض من فيض.
كلمة في المصطلحات
وليس من بد على حث القارئ أن يلقي بباله إلى مسألة المصطلحات المتداولة والمستخدمة في هذا البحث. فتارة يأتي الحديث عن "مسيحيون عرب"، وتارة أخرى عن "عرب مسيحيون"، وطوراً عن "نصارى". وهي مصطلحات يعسر علي في نطاق هذه الدراسة تعريفها أو رسم الحدود الفاصلة بينها. هنا مجرد توضيحات بسيطة لها:
1 - المسيحية العربية:
عند الحديث عن المسيحيين العرب من حيث القومية أو التشكل ينبغي علينا توضيح المفهوم العام في هذا السياق، والنظر في المصطلحات المستخدمة، إذ قد أجاز بعض المسيحيين تسمية "عرب مسيحيون" بينما رفضوا مصطلح "مسيحيون عرب"، على خلفية تمايز في القومية والعرق بينهم وبين العرب.
وظني، أن لا خلاف بين التعبيرين عند العامة من الناس، واستعمالهما له ذات المدلول وهما يشيران إلى من دان بالمسيحية ضمن جغرافية العالم العربي. ولمن رغب التحديد، فإن تعبير "عربي مسيحي" يشير إلى تأصل المسيحي في تربة الحضارة والقومية والعصبية العربية، بينما يدل تعبير "مسيحي عربي" على انغراسه في بيئة لا ينتمي لها ديناً أو قومية، لكنه يشايعها ثقافياً.
وغني عن القول، أن مصطلح "المسيحية العربية"، عندما يرد ضمن الحديث عن عصر ما بعد الإسلام، فإن معانيه تقتصر غالبا على عروبة اللغة والبيئة الجغرافية والثقافية.
2 - المسيحية المشرقية:
هو تعبير استعاضوا به عن "المسيحية العربية"، غالبا لفصل المسيحية عن العروبة. لكن توخيا في التدقيق ومنعا لكل التباس، نوضح بأن استخدامنا للمصطلح نعني به تحديداً كل كنائس العالم العربي وبلدان الشرق المجاورة له، ومن سكن تلك البلدان ودان بالمسيحية، بخلاف منشأ عقيدته وفكره، طالما إيمانه لا يتناقض مع الإيمان الأقدس القويم. ويحثنا على هذا الرأي:
أ - أن استخدام مصطلح "المسيحية المشرقية" فقط للإشارة إلى الكنائس المتجذرة في تربة الشرق، والتي نشأت مع المسيحية الأولى هو أمر لا يصح لأنه يقصي من دائرة هذا البحث كل ما هو دخيل على الشرق من اتجاهات فكرية مسيحية، كالكاثوليكية والبروتستانتية، التي لم تنبع من المشرق ولا تتبع مرجعيات تتمركز فيه.
ب - أن حصر هذا المصطلح بالمسيحيين المتواجدين ضمن ما يعرف اليوم بالعالم العربي فيه تجنب للصواب، لأن حضور بعض كنائس المشرق لا يقتصر على العالم العربي. فكنيسة المشرق الآشورية لها تمثيل قوي في إيران، ومثلها الكنيسة الرسولية الأرمنية، وكذلك الكنيسة السريانية، التي لها تمثيل في الهند وغيرها.
3 - النصرانية:
يستخدم البعض هذا المصطلح للإشارة إلى الفرق التي تدين بالمسيحية. ويطلق في الشرق عموما لفظة "النصارى" على أتباع المسيح، ولفظة "التنصّر" على اعتناق المسيحية. والآراء في أصل هذا اللفظ مختلفة. فقيل:
أ - أن أصل اللفظ كلمة "نصرايا" السريانية وتطلق على مسيحيي الشرق.
ب - أن للفظ صلة بـ "الناصرة" المدينة التي أتى منها يسوع الناصري.
ت - أن أتباع المسيح أطلقوا هذا اللفظ على أنفسهم نسبة إلى قول القرآن "نحن أنصار الله".
ج - أن هذا اللفظ أطلق حصرا على فرق مسيحية زائفة كانت قد ظهرت في جزيرة العرب.
ليس غرضنا هنا تتبع أصول لفظ "النصرانية"، وإنما التوضيح، أنه رغم اختلاف الآراء في مصدره يبقى هنالك إجماع حول مدلوله الأساسي، ألا وهو: أتباع المسيح في الشرق والغرب بما فيهم العرب. وإذ تأتي هذه الألفاظ ضمن الاقتباسات الواردة في هذا البحث، نوردها كما هي كمرادف للمسيحية ومعتنقيها، بغض النظر عن موقفنا منها.
كلمة في المراجع
إنّ الحقيقة المتعلقة بالمسيحية العربية هي غير التي تدرس في كتب التاريخ المنهجية، التي لم يجاز لها تاريخا يتنافى مع التصور الإسلامي أو يضعف من صورته. هذه المنهجية خلقت عند الكثيرين قناعة بأن المسيحية دخيلة على الثقافة العربية وظاهرة مستوردة في بلادهم، وأنها اقتصرت قبل الإسلام على شعوب من أصول غير عربية.
في هذا البحث نضرب صفحاً عن المراجع البالية. ولمّا كان الاعتماد على المصادر الإسلامية ليس فيه الكفاية لإخراج تاريخ متتابع ومتماسك للمسيحية العربية قبل الإسلام وما بعده، نعتمد على الجانبين معا، المسيحي والإسلامي، ملقين البال على رأي الدكتور جواد علي بأن "تاريخ المسيحية العربية ليس من الميسور كتابته دون الاستعانة بالمصادر المسيحية" [1]، وقول الدكتورة سلوى بالحاج صالح، أن "للمواد النصرانية أهمية كبيرة في تدوين تاريخ انتشار
----------------------------
1 - تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج صالح، ص 8
النصرانية في بلاد العرب ... كما أنها تصحح شيئا مما ورد في الموارد العربية من أغلاط". [2]
لقد توجب، في سبيل تحرير تاريخنا الحبيس، الاعتماد على مراجع لعلماء وباحثين أرخوا في المسيحية العربية بصدق وحيادية وبضمير علمي حي معطين غاية الأهمية للمصادر والشهادات المسيحية، اليونانية والقبطية والسريانية. وقد أخذنا أيضاً ما ينصب في صالح التاريخ الحق مما ذكرته أمهات الكتب الإسلامية.
وبحثنا سوف يعتمد تسمية الأشياء بأسمائها، بعيدا عن أسلوب التودد الذي نهجه البعض ممن كتبوا في موضوع المسيحية العربية وأحوالها في المجتمع العربي الإسلامي، ويقيني أنه لولا واقع المجتمع والظروف الصعبة التي وجدوا فيها لما نهجوا إلى المحاباة.
---------------------------------
2 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، الفصل الثاني
- عدد الزيارات: 583