الفصل السادس: شبه الجزيرة العربية، وسطها وأطرافها
شرق الجزيرة العربية
من العوامل التي ساعدت على انتشار المسيحية في الجزيرة العربية انتشاراً واسعاً، أنها كانت وقتذاك محاطة بسوار من الدول والدويلات، كانت فيها المسيحية إما الديانة الرسمية أو الغالبة.
ويعتقد بأن المسيحية دخلت بداية إلى شرق الجزيرة من الحيرة شمالا، فوجدت سبيلاً إلى البحرين وقطر وهجر وبعض جزر الخليج. وساهم الاتصال الوثيق الذي لنصارى العربية الشرقية بأهل الحيرة في انتشار المذهب النسطوري في تلك البقاع. فتأتي المراجع إلى ذكر الراهب عبد يشوع القناني الذي عمّد أهل اليمامة، وقد عرف معظم أهلها من النصارى عند ظهور الإسلام. [65] وفي المراجع السريانية، أن عبد يشوع أنشأ في جنوبي قطر، ديرا باسم مار توما، زاره نحو سنة 390م. مار يونان الناسك أحد تلاميذ الراهب المصري مار أوجين؛ فوجده آهلا بمئتي راهب. وتذكر الكتب أسقف ديرين من جزائر البحرين، وكذلك إيليا أسقف سماهيج في عمان. وكان في بلاد البحرين أسقف يدعى إسحاق وآخر يدعى فوسي.[66]
اتبع النساطرة في التبشير نظم إدارية كنسية، فجعلوا في بيث قطريا (قطر) كرسياً مطرانياً خاضعا لبطريرك ساليق يشرف على إدارة خمسة أسقفيات. وقد اشتركت قبائل الكنديين بشكل فعلي في العمل التبشيري بين أبناء جنسهم العربي، وبشكل خاص في اليمامة، التي كان عليها هوذة بن علي الحنفي، أحد ملوك المسيحيين وذو مكانة عند العرب. ومن شعر للأعشى مدح به هوذة بن علي حاكم اليمامة، نستنتج انه كان مسيحيا أعان على تحرير وفك أسر بعض القوم من بني تميم. [67]
وقد انتشرت المسيحيّة في قبيلة أزد القحطانيّة وبني جرم من قضاعة ومنهم بنو ناجية الذين تنصروا بأكملهم. وتجمع كافة المصادر الإسلامية أن بني ناجية سكان عمان كانوا على دين النصرانية قبل الإسلام.
مكة والحجاز
دخلت المسيحية إلى وسط الجزيرة العربية وتغلغلت في معظم نواحيها ومدنها. فانتشرت في شرق الحجاز وهضبة النجد، في دومة الجندل، ومعان، وتيماء، وتبوك، وفي كل وادي القرى بين الشام والمدينة، المنطقة التي سكنتها قبائل قضاعة وكان فيها قوم من الرهبان ذكرهم الشاعر جفر بن سراقة:
فريقان رهبانٌ بأسفل ذي القرى وبالشام عرّافون فيمن تنصَّرا [68]
-----------------------------
65 - المفصل في تاريخ العرب، جواد علي، فصل 79 وفصل 80 وفصل 166، والنصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج 1 ص 72
66 - الشهداء الحميريون في الوثائق السريانية – البطريرك أغناطيوس يعقوب الثالث ص 7، المسيحية العربية، الاب ميشال نجم، ص 70، جواد علي، فصل 80، النصرانية وآدابها، الأب لويس شيخو، ج1 ص 71
67 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، الفصل 33 و 44و 79و 141، تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج، ص 84
68 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج1 ص 110
ثم تسربت بعض الأفكار المنحرفة عن المسيحية إلى مناطق عديدة في الجزيرة، كالحجاز ومكة. أما معظم هذه الأفكار فكانت تابعة لتيارات روحية سماها العرب بالنصرانية. وكانت لهذه الأفكار النصرانية آثار خصبة، اعتبرها البعض بمثابة الخميرة التي أعدت عرب الجزيرة إلى قبول الإسلام.
قام بمهمة التبشير بداية مسيحيون غير عرب، قدموا من بلاد مابين النهرين والشام. لكن ما لبث العرب أن انخرطوا بنجاح في الخدمة التبشيرية بعد أن تلقنوا العلوم في مدراس مسيحية على يد الرهبان. ومن القبائل العربية التي قامت بدور تبشيري مهم في وسط الجزيرة وشمالها بني آكل المرار من قبيلة كندة. وكان لبعض المبشرين الرهبان خيامهم، يرتحلون بها مع الأعراب من مكان إلى مكان ليخدموهم ويعلموهم ويشفوا مرضاهم، فعرفوا لذلك بـ "رهبان الخيام"، [69] كما وعُيّن على مسيحية الجزيرة رعاة وأساقفة يعتنون بأمورها.
نجحت الحملات التبشيرية بتنصير قبائل عربية كاملة بما في ذلك رؤساء القبائل ووجهاءها. يقول الدكتور كامل النجار: "كانت النصرانية معروفة، قبل دخول الإسلام، في كل جزيرة العرب... ونجد أخبار الفتوح تشير إلى أسماء أمراء عرب كانوا على هذا الدين، يحكمون عدة مواضع من أعالي الحجاز".[70] ويذكر ابن هشام أن من وفد تميم القادم على محمد زعيم اسمه الزبرقان بن بدر من مفاخر قبيلته بناء البيع (الكنائس). هذا قال للرسول أبيات شعرية منها:
نحن الكرام ولاحيٌّ يعادلنا منَّا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم عند النهاب وفضل العز يتبع
ومن تميم أيضا أسقف مسيحي يدعى محمد بن سفيان بن مجاشع، هو أحد الثلاثة الذين سمّوا محمد قبل مولد الرسول العربي، وتقول المصادر الإسلامية أن تسميتهم جاءت بناءا على نبوة أحد الرهبان بمبعث رسول الإسلام.[71]
وكان لمدينة إيلة (العقبة) أسقف اسمه يوحنا بن رؤبة، لقبه المسعودي بأسقف إيلة. وتواجد في يثرب جماعات مسيحية نزحت إليها إما بقصد التجارة أو بدافع التبشير، هؤلاء يذكرهم حسان بن ثابت ببيت شعري:
فرحت نصارى يثرب ويهودها لما توارى في الضريح المُلحد.
في تقويم قديم للكنيسة النسطورية، أن النساطرة أقاموا مطراناً في يثرب وكان لهم فيها ثلاثة كنائس. ويرى الأب لويس شيخو أن نصرانية الأوس والخزرج في يثرب ثابتة كونهم ينتسبون إلى الحارث ابن ثعلبة من بني غسان.[72]
تذكر أمهات الكتب الإسلامية بأن الأكيدر ملك دومة الجندل كان نصرانيا،[73] ومعظم سكان دومة الجندل ينتمون إلى قبائل قيدار الإسماعيلة وقبيلة سبأ وقبيلة كلب من قضاعة.
إن كتب السيرة تمتلئ بذكر القساوسة والرهبان والمبشرين والخطباء المسيحيين زمن محمد، مما يعطينا صورة جيّدة عن مدى انتشار النصارى والنصرانية في بلاد العرب في أواخر العصر الجاهلي وبداية ظهور الإسلام ولعل أشهر الخطباء قس بن ساعدة، الذي كان يعظ في سوق عكاظ قرب مكة. وتذكر المصادر خطبته: "يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور..." [74]
------------------------------
69 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي ، الفصل 166
70 - قراءة نقدية للإسلام، د. كامل النجار، فصل 2
71 - شيخو، السابق، ج1 ص 126، أسد الغابة في معرفة الصحابة، حرف الميم
72 - شيخو، السابق، ج1 ص 114
73 - جواد علي، الفصل 44
74 - البداية والنهاية – ابن كثير، الجزء الثاني، ذكر قس بن ساعدة الإيادي
وكان للأديرة تأثيراً مهماً في تعريف التجار العرب والأعراب بالمسيحية. فيها وجد التجار ملاجئ لراحتهم ومحلات يتجهزون منها بالماء، الأمر الذي ساهم في توصيل الحقائق المسيحية إليهم. فلا شك بأن الحركة الرهبانية كانت، كما يصفها الدكتور محمد الفيومي، أهم الروافد التي "حملت المسيحية إلى الجزيرة العربية بل ومكة ذاتها".[75]
وحازت مكة أيضا نصيبها من نصرانية أتتها بهبوب الرياح الفكرية من بلاد الشام. فيشهد شريف محمد هاشم عن دور الأديرة في نشر المسيحية بين العرب قائلا: "كان لابد لكل آت من الشام أو راجع منها أن يمر بها لبعض الوقت، يقضيه بضيافتهم في جو من التعبئة النفسية والتثقيف النصراني...ولايسعنا إلا الاعتراف بأنه كان للرهبان فضل كبير بتحويل أولئك الشباب عن عبادة الصنام إلى عبادة قوة أخرى".[76]
وجب التأكيد، على أن المسيحية كانت قد تفشت في مكة، وهي وإن لم تكن قوية ومنظمة كحالها في المناطق الأخرى، فقد استطاعت اختراق بعض بطون قريش، بل ويؤكد الدكتور جمال الدين الخضور وجودها في جوف الكعبة ذاتها.[77]
ويشهد اليعقوبي في تاريخه دخول قومٍ من قريش للنصرانية، وخص بهم بني أسد، وهي شهادة هامة على اجتياح النصرانية لقبيلة نبيّ الإسلام، "وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى ... ورقة بن نوفل".[78] وورقة هذا كان ابن عم خديجة زوجة محمد الأولى، وأصبح قساً ثم أسقفاً على شيعة النصارى. من أشعاره:
أدين لرب يستجيب ولا أرى أدين لمن لا يسمع الدهر واعياً
أقول إذا صليت في كل بيعة تباركتَ قد أكثرتُ باسمك داعياً [79]
ويذكر الأرزقي في كتابه "أخبار مكة"، أن أهل مكة لما جددوا بناء الكعبة، قبل مبعث محمد بخمس سنوات، رسموا على جدرانها صور الملائكة، والأنبياء، مع صور المسيح وأمه. وعند فتح مكّة، أمر محمد بطمس تلك الصور فطمست، لكنه وضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه وقال: "امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي". [80] ويرى البعض، أن هذه الصور والنقوش في الكعبة تشبه الآثار النصرانية الكثيرة الموجودة في "بيوت العماد" المسيحية في فلسطين.
استدل الأب لويس شيخو من الخبر المروى عن تلك الصور، كما من بيت شعري لعدي بن زيد يقول فيه: "سعى الأعداء لا يألون شراً - عليك ورب مكة والصليب"على أنها دليل على نصرانية مكة، وأن البيت هو في الأصل كنيسة أقامها النصارى بعد المسيح بعهد قليل ووضعوا فيها صور الأنبياء والمسيح ومريم وكانوا يحّجون إليها ويقدسونها. ولذا أقسم بها عدي، وأقسم بها الأعشى قائلا: [81]
حلفت بثوب راهب الدير والتـي بناها قصيٌ والمضاض بن جرهم
وقصي بن كلاب هو أول من جدَّد بناء الكعبة من قريش. وعن وهب بن منبه قال: "بناها إبراهيم عليه السلام ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي بن كلاب". يخالف الدكتور جواد علي الأب شيخو الرأي، فيقول باستحالة أن يحلف عدي النصراني بآلهة مكة الوثنية أمام ملك نصراني هو النعمان.[82] لكن رأيه لا يبطل قطعا رأي شيخو، ولا ينفي أهمية الكعبة عند النصارى. وطالما لا يوجد مايؤكد أنهم رأوا فيها مجرد صرح وثني يكون الحلفان بربها أمر وارد.
-----------------------------
75 - د. محمد إبراهيم الفيومي - في الفكر الديني الجاهلي –ص 91 – 92
76 - الإسلام والمسيحية في الميزان – شريف محمد هاشم، ص 36 ، وضع كتابه للرد على كتاب "قس ونبي" للأب جوزيف قزي.
77 - قمصان الزمن فضاءات حراك الزمن، د.جمال الدين الخضور، الفصل الخامس
78- اليعقوبي 1/ 101، وأيضا السيرة، الروض الأنف، المجلد الأول، ذكر ورقة بن نوفل
79- الأغاني، أبي فرج الأصفهاني 3/282
80- أخبار مكة وما جاء فيها من آثار للازرقي ج 1، بناء قريش الكعبة . أيضا في السيرة الحلبية للإمام برهان الدين الحلبي - بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى، السيرة النبوية لأبن هشام، باب حجر الكعبة، و جواد علي، فصل 74
81 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج1 ص 117 – 118، مقدمة ابن خلدون، الفصل 6
82 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، الفصل 82
المسيحية في اليمن
يحيطنا الأدب السرياني بأمر مسيحية اليمن علماً. فيسطر المؤرخ اليعقوبي يوحنا الأفسسي بلوغ المسيحية مع مطلع القرن الرابع إلى قبائل الحميريين المتحضرة التي ورثت مملكة سبأ بعد انهيار سد مأرب.
قال البعض باحتمال دخول المسيحية إلى اليمن عن طريق الساحل مع السفن، إذ كان المبشرون يتنقلون مع البحارة والتجار، وقد تمكنوا من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب وفي سقطرى والهند. ولا يستبعد آخرون، أن المبشرين دخلوا إلى اليمن عن طريق الحجاز، وتشير بعض المصادر إلى أن النساطرة بعد دخولهم إلى شمال الجزيرة، انحدروا من هناك إلى قلبها فجنوبها. يقول جواد علي: "من الحيرة انتقلت النسطورية إلى اليمامة فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران واليمن، وصلت اليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجارية". [83] ولم يكن التأثير اليعقوبي أقل قوة مما للنساطرة في اليمن، إذ أرسل المطران يعقوب السروجي إليها فرقاً من الرهبان والمبشرين.
بالاستناد إلى الموارد الإسلامية، أن رجلا اسمه فيميون وفد إلى نجران وبشر بالمسيحية. فقال ابن إسحاق عن حديث وهب بن منبه: "كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون ... فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام".[84] وفي شخصية فيمون تقول المراجع السريانية أنه تاجر وثني معتبر اسمه حيّان وأن حفيدته هي الشهيدة النجرانية حبصة ابنة حيان الصغير. [85]
أيضا تذكر المصادر الإسلامية أسما عربيا من بين الذين اشتهروا في نشر المسيحية وتثبيتها في اليمن، هو عبد الله بن ثامر، وكان قد أخذ المسيحية عن أحد الرهبان. تذكره السيرة بأنه رأس نصارى نجران، ويقول اليعقوبي: "أظهر دينه باليمن، وكان إذا رأى العليل والسقيم قال: أدعو الله لك حتى يشفيك، وترجع عن دين قومك! فيفعل ذلك، فكثر من اتبعه".[86]
كان للحبشة المسيحية تأثير مهم على مسيحية اليمن، إذ بعد احتلالها صارت المسيحية ديانة اليمن الرسمية. وانتشرت الكنائس في البلاد الحميرية، لاسيما في نجران وظفار ومأرب والهجران وحضرموت. وفي القرن السادس كانت نجران قد أصبحت كرسيا أسقفيا. ورسم على ظفار أسقفا هو جرجنسيوس، صاحب كتاب "شرائع الحميريين"، الذي صار فيما بعد رئيس أساقفة ظفار يشرف على مجمل كنائس اليمن والعربية الجنوبية. وقد اشتهرت كنيسة نجران بحرمتها الكبيرة لدى مسيحيي اليمن، فأطلق عليها اسم "كعبة نجران". فيها قال الشاعر الأعشى:
وكعبة نجران حتم عليك حتى تنـاخي بأبوابها
نزور يزيد ، وعبد المسيح وقيساً ، هم خير أربابها
من جملة ما يوثق مسيحية أهل اليمن وإيمانهم بألوهية المسيح والثالوث الأقدس، كتابة مؤرخة بسنة 575 بحسب التقويم الحميري (460 م). جاء في الكتابة عبارة "رحمنن وبنهو كرشتش غلبن"، أي ما معناه "الرحمن وابنه المسيح (كريستوس)". ووثيقة أخرى هامة وخطيرة تركها الملك أبرهة وهي تتحدث عن ترميم سد مأرب. افتتح نص الوثيقة بعبارة "بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطرو وذن مزندن، أي "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذه الكتابة".[87]
--------------------------------
83 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، فصل 80
84 - السيرة- الروض الأنف، الجزء الأول " ابتداء وقوع النصرانية بجران"
85 - الشهداء الحميريون في الوثائق السريانية، ص 7 و 8
86 - سيرة ابن هشام - الجزء الأول- ابن ثامر، تاريخ اليعقوبي 1/77
87 - الشهداء الحميريون في الوثائق السريانية - البطريرك أغناطيوس يعقوب الثالث، ص 8 ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – الدكتور جواد علي ، الفصل 31 و 41 و 79
اشتدت المنافسة بين اليهود والمسيحيين في الجنوب العربي، فانقلبت عداء مريرا انتهت بمأساة مروعة كتبت صفحة من أسوء صفحات تاريخ مملكة حمير في اليمن. ابتدأت المأساة لمّا استولى على الحكم يهوديا اسمه يوسف أسعر، أو يوسف مسروق الملقب "ذي النواس". هذا أضطهد المسيحيين وكال لهم شتى أنواع العذاب. فأحرق كنيسة نجران ودفع بأكثر من خمسة آلاف مسيحي إلى حد السيف، على رأسهم حارث بن الكعب. ولمّا جاءت امرأة اسمها زاروبا لترثي القتلة حرقوها هي الأخرى، ثم جمعوا كل النساء في مكان للقتل. أما صلاتهن للمسيح عند الاستشهاد فكانت "اقبل حياتنا ذبيحة مرضية في عينيك". [88]
لم يكن هذا الحادث ببعيد العهد عن الإسلام، فأشار إليه القرآن بأصحاب الأخدود، وذكرته كذلك الكتب الإسلامية، غير أن "ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني فيَ النزاع، فإنه أطيب جداً وأوضح مما ورد في الموارد الإسلامية وفي الرواية اليهودية... فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضاً، ولكنها أخذت من موارد ووثائقّ مسجلة دوّن بعضها بعد وقوع الحادث بقليل".[89]
لعل المصادر السريانية هي الأهم في هذا الشأن. فلمّا دون يوحنا الأفسسي هذا الحادث، عرض من الوثائق الهامة رسالة لمار شمعون الأرشمي، تضمنت وصفا للأحداث بواسطة شهود عيان قدموا من اليمن إلى الحيرة. وعنه أخذها البطريق ديونيسيوس ابن العبري، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية.
أيضا من الوثائق التي تتعلق بشهداء نجران، كتاب ليعقوب السروجي، وقصيدة في رثاء الشهداء لبولس أسقف الرها، ونشيد كنسي سرياني ليوحنا بسالطس رئيس دير قنسرين، وميمر ليعقوب الرهاوي. و قد دون سرجيوس أسقف الرصافة ومؤلف القسم السرياني الخاص بشهداء نجران، أسماء الشهداء على الجدار الشمالي للكنيسة الكبرى، كنيسة القديس سرجيوس.[90]
يشير بطريرك السريان اغناطيوس يعقوب الثالث إلى وثيقة سريانية هامة في الخزانة البطريركية، تميط اللثام عن إيمان الشهداء الحميريين ورئيسهم الحارث بن كعب. وهي الرسالة المذكورة آنفا لمار شمعون الأرشمي سنة 524 والموجهة إلى شمعون رئيس دير الجبول في سوريا الشمالية، وتتضمن قصص بعض الشهداء الحميريين الذين تكللوا بالشهادة في مدينة نجران. منهم، شهداء حضرموت والقس مار إيليا، الذي كان قد تهذب في دير مار إبراهيم في تلا المجاورة لمدينة الرقة، وقد رسمه قسيسا مار يوحنا أسقف تلا . ونالت أيضا إكليل الشهادة أمه وأخوها. واستشهد القسيس مار توما الذي تهذب في دير مار انطيوخينا في مدينة الرها.[91]
جاء في الوثيقة: "أن المنافق ذي النواس عرى الشريف الحارث بن كعب وقال له:" ... فإنني أشير عليك، ضنا بشيخوختك، أن تكفر بالمسيح المضل وبصليبه، فتحيا، وإلا مت شر ميتة... فأجابه: أتريد أن تجعلني في شيخوختي غريبا عن المسيح ربي؟... حاشا لي أن اكفر بالمسيح الإله الذي آمنت به منذ صباي واعتمدت باسمه ... فالآن لا مانع من جهتنا أن نموت من أجل المسيح. فلمّا رأى الملك أن لا سبيل لكفرهم بالمسيح، أمر أن يساقوا إلى الوادي حيث تحز رؤوسهم وتلقى أشلاؤهم. ولمّا بلغوا الوادي، وقفوا جميعهم معا، وبسطوا أيديهم إلى السماء وقالوا:" أيها المسيح إلهنا، هلم إلى معونتنا وتقبل نفوسنا... ثم بادر كل منهم إلى حيث رأى سيفا مسلولا وجثا على ركبتيه واقتبل السيف، حتى استشهدوا جميعا".[92]
----------------------------------
88- جواد علي، فصل 41
89 - تاريخ الكنيسة، جون لوريمر، ج 2 ص 19
90 - جواد علي، فصل 37
91 - الشهداء الحميريون في الوثائق السريانية – توطئة، جواد علي، الفصل 41
92- الشهداء الحميريون، ص 23 - 25
خلاصة:
كانت القبائل العربية في نواحي فلسطين وبادية الشام من أوائل الشعوب التي عرفت المسيحية واعتنقتها. ولم يكن حلولهم بتلك المناطق ليثبت قطعا اعتناق بعضهم للمسيحية، لولا وجود الدلائل التاريخية على ذلك.
إنّ العرب، خلافا لأي شعب آخر، في انتقالهم إلى المسيحية، لم ينتقلوا إلى ديانة غريبة عنهم. السبب أنهم هم وأرضهم وأجدادهم يمثلون، إلى جانب الشعوب الشرقية الأخرى، البيئة الجغرافية، الثقافية التي ولدت فيها المسيحية. هذه من الثوابت التي لا جدال فيها، إلا لمن يرغب في إثارة الجدل. فليست المسألة المختلف عليها انتشار المسيحية المبكرة بين القبائل العربية من عدمه، وإنما ضبط بداية تشيعها للمسيحية.
تشكلت المسيحية من ثلاثة مذاهب كبرى ساهمت في نشأة المسيحية العربية وتطورها. وقد اعتنق العرب كل من هذه المذاهب الثلاثة.
أخذت المسيحية العربية تنتظم بشكل واضح في القرن الرابع بعد المرسوم القسطنطيني، فكان لها حضوراً قوياً وتمثلها أبرشيات في بلاد الشام والعراق وبلاد النهرين وشبه الجزيرة العربية.
- عدد الزيارات: 700