Skip to main content

الروح القدس في العهد الجديد

في العهد الجديد وجدنا أن الموقف مختلف اختلافاً تاماً. فلقد تحققت معجزة الدهور، و"الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس 3: 16). والله الأزلي، خالق السماء والأرض، قد تنازل، وهو "القدوس" صار مولوداً من عذراء. "الكلمة صار جسداً، وحل بيننا، (ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب)، مملوء نعمة وحقاً" (يوحنا 1: 14). فإذا كانت كواكب الصبح ترنمت معاً وهتف جميع بني الله فرحين عندما رأوا أعماله في الخليقة (أيوب 38: 7)، فكم كان تعجبهم وفرحهم عندما رأوا خالقهم وقد صار إنساناً، طفلاً في مزود بيت لحم، إذ جاء ليطلب ويخلص العالم، مانحاً الخطاة الهالكين حياة أبدية، وذلك بموته على خشبة العار – وهكذا رأوا مجد نعمته. "وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي، يسبحون الله قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة" (لوقا 2: 13 و 14). و"الله كان في المسيح مُصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم" (2 كورنثوس 5: 19).

لقد شغل الثالوث الإلهي نفسه بهذه الحادثة العجيبة. وبعد ذلك فإن الابن في "مشورة السلام"، قال: "هأنذا جئت لأفعل مشيئتك" (عبرانيين 10: 9)، والله أعدّ له جسداً (عبرانيين 10: 5)، والروح القدس ولد الإنسان يسوع من مريم (1: 20). وفي بدء ظهر الرب يسوع في خدمته العلنية رأينا أول إعلان للثالوث الإلهي: فالابن في اتضاعه على الأرض، والله الآب الذي يتكلم من السماء مُعلناً أن يسوع هو ابنه، والله الروح القدس في صورة جسمية نازلاً على الابن على الأرض مُعلناً الله (يوحنا 1: 18)، كيف لا يصبح الروح القدس منظوراً أيضاً؟ فإننا نجد في الأناجيل إعلاناً مجيداً عنه أيضاً.

وقبل كل شيء، فإننا نرى ما قيل عن الروح بالارتباط مع حياة الرب يسوع الأرضية، ففي ميلاده نجد: " الروح القدس  يحل عليك. وقوة العليّ تظللك. لذلك فالقدوس المولود منك يُدعى ابن الله" (لوقا 1: 35). وقد رأينا في ظهوره أثناء خدمته العلنية أن الروح القدس نزل عليه بهيئة جسمية شاهداً بأن يسوع هو ابن الله (يوحنا 1: 32 - 34). وقيل في لوقا 4: 1 "وأما يسوع، فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح في البرية". وفي عدد 14 "ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل". وكان الروح يعلِّم ويُعزّي ويشفي (ع 18، 19)، ويُخرِج الشياطين (متى 12: 28)، نعم، وقدّم نفسه لله بلا عيب (عبرانيين 9: 14). نعم فإن الله لم يُعطه الروح بكيل (يوحنا 3: 34).

وفي قربان الدقيق، نجد رمزاً مجيداً له (لاويين 2). فالدقيق الجيد (أو النقي) – الذي يشير إلى إنسانية المسيح النقية التي بلا خطية، ةالملتوت بالزيت (الزيت يشير إلى ا الروح القدس)، والممسوح بالزيت، أو المسكوب عليه الزيت. إن هذه الصورة الرمزية جميعها تُرينا المسيح كإنسان، لا أثر فيه للخطية بتاتاً، بل تصور أمامنا طبيعته الإنسانية المؤيدة بقوة الروح القدس والممسوحة بالروح القدس أيضاً.

ونجد في تعاليم الرب يسوع صورة واضحة عن الروح القدس وعمله. ففي يوحنا 3 يقول أن الولادة ثانية تتم بالروح القدس إذ به نقبل طبيعة جديدة، وفي إصحاح 4: 14 يضيف بأن عطية الله للمؤمن تصير فيه ينبوعاً، ينبع إلى حياة أبدية – وهذه هي القوة المرتبطة بالطبيعة الجديدة. وفي إصحاح 7: 37 - 39 نجد الروح القدس كأنهار ماء حي تنساب من بطن أولئك الذين يؤمنون بيسوع بعد صعوده.

ثم نأتي إلى إصحاحات 14 و 15 و 16، لنرى جزءاً مختصاً بالروح القدس، وهو إعلان جديد تماماً. فهناك يتحدث الرب عن "معزّي آخر" سيأتي عندما يفارقهم. وهنا نرى أقنوماً إلهياً يبقى مع تلاميذ الرب في ذات المكان الذي شغله الرب يسوع قبلاً. كان الرب يسوع على وشك الرحيل من هذه الأرض، والموت ماثلاً أمام عينيه. وكان عليه أن يتمم العمل الذي أعطاه إياه الله أن يعمله، لكي يتمجّد الله أعظم مجد. ولذلك لم يكن أمام الله سوى أن يمنحه هذه المكافأة، وذلك بتمجيده عن يمين أبيه. وكان معنى هذا أن يُترَك التلاميذ وحدهم. ولكي ما يعزيهم، فإن الرب وعدهم بإرسال معزياً آخر، هو روح الحق. وكان لا بد أن يبقى معهم، نعم ويكون فيهم. وكانت هذه العطية عظيمة جداً نافعة للتلاميذ، وبذلك يمكن للرب أن يتركهم، وفي هذه الحالة فقط، يأتي إليهم المعزي.

رأينا أنه حتى ذلك الوقت الذي كان الرب يتكلم فيه معلناً عن الروح القدس، فإن الروح لم يكن قد سكن في أحد على الأرض سوى الرب يسوع ذاته. ولم تكن معمودية الروح القدس قد حدثت بعد. وبقيت هذه الأشياء كمواعيد تنتظر التحقيق (يوحنا 14: 16). وكما رأينا في متى 3: 11 أن معمودية الروح القدس لم تتم قبل تجسّد الرب يسوع. كذلك رأينا في يوحنا 7: 39 أن الوعد لا يتم قبل صعود الرب إلى السماء. ولكن الوعد تحقق "ليس بعد تلك الأيام بكثير" (أعمال 1: 5)، وكان هذا التحقيق في أعمال 2. فالله الروح القدس عمّد كل المؤمنين إلى جسد واحد (1 كورنثوس 12: 13). وسكن في هذا الجسد الواحد، باعتباره مسكن الله في الروح، وهيكل الله (أفسس 2: 22، 1 كورنثوس 3: 16)، وسكن في كل مؤمن فردياً (1 كورنثوس 6: 19).

وبالرجوع إلى الأعداد مثل لوقا 1: 15 و 41 و 67، فإنها لا تتعارض مع ما تقدّم ذكره. ونحن نقرأ هنا عن امتلاء بالروح القدس –ففي حالة يوحنا المعمدان الذي امتلأ وهو في بطن أمه. فقد كان هذا امتلاء بقوة ومواهب الروح بطريقة فائقة تتمشى مع مركزه الذي تميّز به باعتباره "السابق" الذي يُعِدّ طريق الرب. ولكن هذه الحالة لا تتساوى مع سكنى الروح القدس في المؤمنين. وهذا نجده بوضوح في أعمال 4: 8 و 31، إذ امتلأ بطرس والتلاميذ بالروح القدس، على الرغم من انسكاب الروح القدس الذي أخذوه قبلاً في يوم الخمسين. فسكنى الروح القدس والامتلاء بالروح القدس هما بركتان متميزتان عن بعضهما، سواء كانت متزامنتين أو منفصلتين.

  • عدد الزيارات: 5557