Skip to main content

1- معنى "التغذي بجسد المسيح ودمه" الوارد في (يوحنا 6)

الباب الثاني

العشاء الرباني والايمان الحقيقي

 

مرّ بنا في الباب السابق أن الذين يؤمنون بالاستحالة, يعتقدون أن الآيات الواردة في (يوحنا 6), عن التغذي بجسد المسيح ودمه للحصول على الحياة الأبدية, لا يراد بها الإيمان بالمسيح بل التناول من العشاء الرباني, ولذلك يفهمونها بالمعنى الحرفي لا المجازي.

ومرّ بنا في الباب المذكور أيضاً أن الذين لا يؤمنون بالاستحالة, يعتقدون أن هذه الآيات, لا يراد بها العشاء الرباني بل الإيمان بالمسيح, ولذلك يفهمونها بالمعنى المجازي لا الحرفي.

وإن اختلف الفريقان المذكوران في المراد بهذه الآيات أو معناها, غير أنهما يتفقان على أن الأيات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, هي الواردة في (متى 26, مرقس 14, لوقا 22, 1 كورنثوس 11), والتي ذكرنا خلاصتها في الفصل الرابع من الباب السابق.

إزاء ما تقدم, رأينا من الواجب أن نأتي بمقارنة بين الآيات الواردة في (يوحنا 6) التي يختلف هذان الفريقان بشأن معناها, وبين الآيات الواردة في (متى 26, مرقس 14, لوقا 22, 1 كورنثوس 11) التي يتفقان على أنها خاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, لكي نعرف إذاً كانت الآيات الأولى خاصة بهذا العشاء كما يقول الذين يؤمنون بها. ثم نرد بعد ذلك على الاعتراضات التي توجه ضد هذه المقارنة.

أولاً – المقارنة

1- الكلمة المستعملة للتعبير عن "الجسد" في الآية "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه, فليس لكم حياة فيكم" الواردة في (يوحنا 6), تختلف في اللغة اليونانية عن الكلمة المستعملة للتعبير عن "الجسد" في الآية "هذا هو جسدي" وغيرها من الآيات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, المذكورة في (متى 26, مرقس 14, لوقا 22, 1 كورنثوس 11). ففي اللغة اليونانية تستعمل كلمة "ساركس" معناها "لحم", بينما كلمة "سوما" معناها "جسد". ولذلك نرى في الترجمة الإنجليزية (مثلاً) أن كلمة "جسد" الواردة في (يوحنا 6) هي "flesh أي لحم", بينما الواردة في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته هي "body أي جسد". ولذلك فمن المستبعد أن يكون حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6) عن وجوب التغذي بجسده ودمه, خاصاً بالعشاء الرباني.

وإطلاق المسيح على "الجسد" الوارد ذكره في (يوحنا 6)كلمة تختلف عن تلك التي أطلقها على "الجسد" الوارد ذكره في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, لم يكن جزافاً بل لسبب خاص, لأن المسيح كان مدققاً كل التدقيق في جميع أقواله وأعماله. وليس من العسير علينا أن نعرف هذا السبب, إذا وضعنا أمامنا أن المسيح كان يتحدث في (يوحنا 6), عن نفسه بوصفه غذاء البشرية ومصدر حياتها. ولما كان هناك شبه بين المسيح وبين اللحم من ناحية التغذية (لأن المسيح هو غذاء الروح, واللحم هو غذاء الجسد), كان من البديهي أن يستعمل المسيح عن نفسه في هذه المناسبة كلمة "ساركس" التي تعني "اللحم". أما عند تأسيس العشاء الرباني, فنظراً لأنه كان يريد أن يترك لتلاميذه تذكاراً يتذكرون به تقديم جسده (وليس لحمه فقط) فدية عن نفوسهم, كان من البديهي أن يستعمل عند تأسيس هذا العشاء, كلمة "سوما" التي تعني "الجسد".

2- فضلاً عن ذلك, فإننا إذا تأملنا الآيات الواردة في (يوحنا 6), نجد أن الغرض من التغذي بجسد المسيح ودمه في هذه الآيات, هو الحصول على الحياة الأبدية. فقد قال المسيح في الآيات المذكورة "اصنعوا هذا لذكري". ولذلك لا يكون التغذي بجسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا 6) خاصاً بالعشاء الرباني كما يقول المؤمنون بالاستحالة, لأن الغرض من تناولهما في الإصحاحات التي يجمعون مع غيرهم من المسيحيين على أنها خاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته.

وإذا كان الأمر كذلك, فما المراد بالتغذي من جسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا 6)؟ - للإجابة على ذلك نقول:

بما أن السبيل إلى الحياة الأبدية الذي لا يقبل تأويلاً ما, والذي يعلنه الوحي في كل سفر من أسفاره بكل وضوح وجلاء, هو الإيمان بالمسيح أو بالحري الإيمان الحقيقي به, فقد قال "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد, لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية[13]" (يوحنا 3: 16).

وبما أن المسيح أعلن لنا في (يوحنا 6) أن الحياة الأبدية تتوقف على الأكل من جسده والشرب من دمه, ولا يمكن أن يكون هناك سبيلاً مختلفاً للحصول على الحياة الأبدية الواحدة, أحدهما بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح, والثاني بواسطة الأكل من جسده والشرب من دمه.

إذاً فالأكل من جسد المسيح والشرب من دمه الوارد في (يوحنا 6), هو بعينه الإيمان الحقيقي بشخصه؛ ,أن الإيمان الحقيقي بشخصه, هو عين الأكل من جسده والشرب من دمه, إنما بأسلوب مجازي.

قد يبدو هذا الاستنتاج غريباً لأول وهلة لدى بعض القراء, ولكن سيظهر صدقه بكل وضوح وجلاء عند شرح الآيات الواردة في (يوحنا 6) في الفصل التالي. ولذلك نكتفي هنا بالقول إن الاختبار العملي, إلى جانب النصوص المقدسة التي سبق بيانها, يدل أيضاً على أن الحياة الأبدية هي فقط بواسطة الإيمان الحقيقي, لأننا نرى كثير من الذين يواظبون على التناول من العشاء الرباني كل يوم أو كل أسبوع, يحيون حياة بعيدة عن الله كل البعد, الأمر الذي يدل على أنه لا نصيب لهم في الحياة الأبدية على الإطلاق. بينما نرى المؤمنين الحقيقيين في كل الطوائف المسيحية دون استثناء, يحيون حياة التقوى والقداسة, الأمر الذي يدل على أنهم من أتباع الله, وأن لهم حياة أبدية معه.

ثانياً – الاعتراضات والرد عليها

(1) الإنجيل المكتوب بالآرامية (وهي اللغة التي كان المسيح يتحدث بها عندما كان على الأرض) يستعمل كلمة واحدة لكلمتي "الجسد" الواردتين في (يوحنا 6) وفي (متى 26, مرقس 14,..,..), وهذه الكلمة هي "فجرى" أي "جسدي", ولذلك يكون التغذي بجسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا 6) خاصاً بالعشاء الرباني (الرد على العشاء الرباني ص 30).

الرد: فضلاً عن أن الغرض من تناول جسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا 6), يختلف كل الاختلاف عن الغرض من تناولهما في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا: إن المسيح وإن كان قد تكلم بالآرامية عندما كان على الأرض, لكن إنجيل يوحنا كتب في أول الأمر باليونانية, اللغة الدولية وقتئذٍ. ولذلك تكون اللغة اليونانية هي اللغة التي يعتمد عليها في دراسة الإنجيل. أما الإنجيل المكتوب بالآرامية فهو مترجم عن اليونانية في القرن الثالث, وقد استعمل الذين ترجموه إلى هذه اللغة كلمة واحدة وهي "فجرى". للكلمتين السابق ذكرهما (كما فعل الذين ترجموا الإنجيل إلى العربية), لأن هذه الكلمة تستعمل لديهم للدلالة على الجسد واللحم معاً, كما هي الحال في اللغة العربية وبعض اللغات الأخرى. ولكن هذا لا ينفي الحقيقة الواقعة, وهي أن اللغة الأصلية للكتاب المقدس تبيّن أن المسيح استعمل للتعبير عن "الجسد" الوارد ذكره في الفصول الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته, وأنه لم يفعل ذلك جزافاً, بل لسبب خاص كما ذكرنا فيما سلف.

(2) إن حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6) عن التغذي بجسده ودمه, وإن لم يكن خاصاً بتأسيس العشاء الرباني أو كيفية ممارسته, لكنه وعد من المسيح بإعطاء هذا العشاء, لذلك يكون خاصاً به (الدرة البهية ص 100).

الرد: فضلاً عن أن الغرض من تناول جسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا 6), يختلف كل الاختلاف عن الغرض من تناولهما في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته كما ذكرنا فيما سلف, الأمر الذي لا يدع مجالاً للظن بأن حديث المسيح في (يوحنا 6) خاص بالعشاء الرباني نقول: إن إنجيل يوحنا الذي تحدث في الإصحاح السادس منه عن وجوب التغذي بجسد المسيح ودمه, لا يتحدث بعد هذا الإصحاح عن تأسيس العشاء الرباني أو ممارسته. و الجائز إطلاقاً أن بما أنه ليس من يسجل الوحي وعداً للمسيح في كتاب, ثم لا يسجل في هذا الكتاب بعد ذلك تنفيذ المسيح للوعد المذكور, لذلك فإن الاعتراض المذكور لا مجال له بأي وجه من الوجوه.

(3) إن الوحي ترك الكتابة عن تأسيس العشاء الرباني في إنجيل يوحنا, اكتفاء بما كتبه عن ذلك في أناجيل متى ومرقس ولوقا (أسرار الكنيسة السبعة ص 97).

الرد: إن كل إنجيل قائم بذاته وكامل أيضاً بذاته, والدليل على ذلك أن كل إنجيل أرسل في أول الأمر إلى جماعة من الناس غير التي أرسل إليها الآخر. كما أن الأناجيل لم ترسل وقتئذٍ إلى الجماعات التي أرسل إليها في وقت واحد, بل أرسلت إلى هذه الجماعات في أوقات متباعدة: فإنجيل متى أرسل في أول الأمر إلى العبرانيين سنة 39م, وإنجيل مرقس إلى الرومانيين سنة 61م, وإنجيل لوقا إلى اليونانيين سنة 63م عن طريق شخص يدعى ثاوفيلس كان من أبرز معاصريه ثقافة وتديناً, وإنجيل يوحنا أرسل إلى الفلاسفة بصفة خاصة سنة 98م لكي يوضح لهم أزلية "الكلمة" أو بالحري "اللوغوس", الذي كانوا يبحثون عنه بعقولهم ولكنهم لم يهتدوا إلى حقيقته – وقد كانت هذه الأناجيل متفرقة في القرن الأول، ولمكنا جمعت مع أعمال الرسل ورسائلهم في كتاب واحد في أوائل القرن الثاني.

ولذلك لو كان الحديث الوارد في إنجيل يوحنا عن التغذي بجسد المسيح ودمه وعداً من المسيح بإعطاء العشاء الرباني، لكان الوحي قد سجل شيئاً عن تأسيس هذا العشاء في الإنجيل المذكور، حتى يرى الذين كانوا يقرؤونه دون غيره من الأناجيل، كيف حقق المسيح وعده بإعطاء جسده ودمه مأكلاً ومشرباً بالفم، كما يقول المؤمنون بالاستحالة.

(4) أخيراً يقولون: ليس من المعقول أن يخلو إنجيل يوحنا من تسجيل شيء عن العشاء الرباني، وإلا لكان الذين أطلعوا على هذا الإنجيل دون غيره من الأناجيل في القرن الأول، قد حرموا من ممارسة هذا العشاء، ولذلك يكون حديث المسيح الوارد في (يوحنا6) عن التغذي بجسده ودمه، خاصاً بالعشاء المذكور.

الرد: فضلا عن أن الغرض من تناول جسد المسيح ودمه الوارد في (يوحنا6)، يختلف كل الاختلاف عن الغرض من تناولهما في الاصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، الأمر الذي لا يدع مجالا للظن بأن حديث المسيح الوارد في (يوحنا6) خاص بالعشاء المذكور كما سلف القول، فإن إنجيل يوحنا كُتب سنة 98م، أي بعد كتابة الثلاثة الأناجيل الأخرى بمدة تتراوح بين 37 سنة و 59 سنة، وفي هذه المدة كان العشاء الرباني يمارس عند جميع المسيحيين في كل البلاد (اقرأ مثلا أعمال2:42،20 7،1كورنثوس11:20)، ومن ثم لم تكن هناك ضرورة حتمية تستدعي تسجيل موضوع العشاء الرباني في هذا الإنجيل – فمثل العشاء الرباني من هذه الناحية مثل المعمودية المسيحية تماماً، فإنه لم يسجل أمر المسيح بها إلا متى ومرقس (متى 28:19، مرقس 16:16)، ومع ذلك كانت تمارس عند جميع المسيحيين في كل البلاد منذ العصر الرسولي (أعمال2،41، 8:12، 18:8)، لأنهم كانوا جميعاً على علم بضرورتها وكيفية ممارستها.

ومع كلّ فحديث المسيح الوارد في (يوحنا6)، وإذا لم يكن خاصاً بالعشاء الرباني، إلا أن له علاقة وثيقة بهذا العشاء، لأن الذين تغذوا بجسد المسيح ودمه روحياً، أو بتعبير آخر آمنوا به إيماناً حقيقياً كما سبقت الإشارة، هم الذين يستطيعون ممارسة العشاء الرباني حسب مشيئة الله، ويذكرون في قلوبهم بحق عمل المسيح المجيد الذي قام به على الصليب لأجلهم.

[13]ويعوزنا الوقت إذا أردنا أن نحصي الآيات التي تدل على أن الخلاص والحياة الأبدية هما بالإيمان أو بالحري الإيمان الحقيقي, ولذلك نكتفي بما يأتي: قال المسيح "من يؤمن بالابن تكون له الحياة الأبدية, ويقيمه الابن في اليوم الأخير". و"الحق الحق أقول لكم, إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني, فله حياة أبدية". و"أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي, فلن يموت إلى الأبد" (يوحنا 6: 40, 5: 24, 11: 25). وقال بولس الرسول "وليس لي بري الذي من الناموس, بل الذي بإيمان المسيح, البر الذي من الله بالإيمان". و"لكن بنعمة الرب يسوع نؤمن أن نخلص". و"لأنكم بالنعمة مخلصون, بالإيمان, وذلك ليس منكم هو عطية الله". و "آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك". و"لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات خلصت, لأن القلب يؤمن به للبر, والفم يعترف به للخلاص. لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى" (رومية 10: 8, أفسس 2: 8, أعمال 5: 11). وقال بطرس الرسول "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس" (1 بطرس 1: 9). وقال يوحنا الرسول "وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله, ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يوحنا 20: 31)- وهذا الإيمان كما يتضح من الكتاب المقدس ليس مجرد الاعتراف الشفوي بالمسيح, بل هو عمل روحاني به تتصل النفس بالله, وتثق كل الثقة في كفاية كفارته في المسيح – والله يجيب على هذه الثقة بمنح النفس خلاصه الأبدي وما يترتب عليه من بركات.

  • عدد الزيارات: 7710