4- حديث المسيح عن العشاء الرباني
1- قال الوحي "أخذ (يسوع) خبزاً وشكر وكسر" (لوقا 22: 19), وبالتأمل في هذه العبارة نلاحظ ما يأتي:
(أ) "أخذ خبزاً"- إن الخبز مثال للمسيح من ناحيتين رئيسيتين. فالخبز قوام الحياة الجسدية, والمسيح قوام الحياة الروحية. والخبز اجتاز في النار حتى أصبح طعامنا الجسدي, والمسيح احتمل نار دينونة الخطية عوضاً عنا, لكي يكون طعامنا الروحي الذي يهبنا حياة إلى الأبد, ولذلك قال المسيح مرة عن نفسه "أنا هو خبز الحياة" (يوحنا 6: 35).
(ب) "وشكر" – إن الشكر كما نعلم، لا يصدر إلاّ من نفس راضية فرحة, ولذلك فالمسيح وإن كان قد خيّم عليه ظل الصليب وقتئذٍ, غير أنه كان راضياً وفرحاً أيضاً. وطبعاً ليس هناك من سبب لذلك سوى أنه (أي المسيح) كان عتيداً أن يحمل عن البشرية آثامها ونتائج آثامها. وبذلك يكون له المجد قد تحول بقلبه وفكره عما كان ينتظره على الصليب من أهوال وآلام, وارتقى إلى الله ومشيئته الصالحة من جهة خلاص البشرية, واستطاع حتى بوصفه ابن الإنسان, أن يتوافق مع الله في مشيئته المذكورة إلى التمام[2]. ومن ثم استطاع أن يشكر ويشكر في هذا الوقت العصيب.
(ج) "وكسر" – إن الخبز الذي كان يستعمل عند اليهود في عصر المسيح, كان خبزاً رقيقاً مجففاً مثل الرقاق عندنا, ولذلك كانوا لا يقطعونه بل يكسرونه. والخبز كما عرفنا فيما سلف, هو رمز للمسيح. وكما أن هذا الخبز إن لم يكسر, لا يكون مهيئاً للأكل, كذلك لو كان المسيح لم يكسر أو بالحري لم يمت, لما كان لنا أن نتغذى به كطعامنا الروحي إلى الأبد. ولا شك أن المسيح كان يكسر الخبز وقتئذٍ بكل تؤدة وتأنٍ, وفي قلبه شعور عميق بمعنى هذا الكسر. كما أنه بكسره للخبز بيده وحده, إشارة إلى أنه هو الذي يقدم نفسه للموت بمحض إرادته. وقد سبق المسيح ونادى بهذه الحقيقة من قبل فقال عن نفسه "ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (يوحنا 10: 18).
2- "وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي, الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري" (لوقا 22: 19), وبالتأمل في هذه العبارة نلاحظ ما يأتي:
(أ) "هذا هو جسدي" – إن تقديم الخبز إلى التلاميذ لكي يأكلوه بعد قول المسيح عنه إنه جسده, إشارة إلى منحهم ليس فقط امتياز التغذّي القلبي بشخصه, بل أيضاً امتياز الاشتراك الروحي في جسده, أو بالحري امتياز صيرورتهم أعضاء في هذا الجسد بصفة روحية. فقد قال الرسول عن الخبز الذي نكسره إنه "شركة جسد المسيح" (1 كورنثوس 10: 16), وعن المؤمنين إنهم صاروا "أعضاء جسد المسيح من لحمه وعظامه" (أفسس 5: 30). ولا شك أن المسيح نطق بهذا القول وقتئذٍ مشبعاً بعواطف قلبه الحارة, فأكسبه تأثيراً عميقاً في نفوس تلاميذه. ولا شك أيضاً أن تلاميذه عندما كانوا يأكلون الخبز بأفواههم, كانوا يفكرون في قول السيد المسيح "خذوا كلوا هذا هو جسدي" (متى 26: 26), ويتأملون فيما يحمله هذا القول من معانٍ جديدة, ترقى بالنفس إلى آفاق روحية سامية كل السمو.
(ب) "الذي يبذل عنكم" – إن هذه العبارة تدل بوضوح على أن موت المسيح على الصليب, لم يكن استشهاداً فحسب (كما يقول بعض الفلاسفة) بل كان أيضاً كفارة عن البشرية الخاطئة. ولذلك قال بطرس الرسول "فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا, البار من أجل الأثمة, لكي يقربنا إلى الله" (1 بطرس 3: 18).
(ج) "اصنعوا هذا لذكري" – نلمس في هذه الوصية عواطف المسيح الكريمة, التي تعلقت بتلاميذه وبنا نحن المؤمنين, فهو يريد في محبته الفائقة أن نذكره نحن البشر المساكين. قد نقول في اعتدادنا بأنفسنا إننا لا ننساه أبداً, لكن أليس التلميذ الذي قال له مرة "إني مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت", هو أول من نسيه وأنكره؟! فالمسيح يعلم تمام العلم أننا ننسى, وننسى بكل أسف الأمور الروحية الهامة قبل الأمور الدنيوية التافهة, ولذلك أعطانا هذا التذكار. أما هو فليس في حاجة إلى تذكار منا يتذكرنا به، فأسماؤنا منقوشة على كفه وعلى قلبه, ونحن في كل حين أمام عينيه (أشعياء 49: 6, خروج 39: 4- 24), بل ونحن بمثابة أعضاء جسمه كما ذكرنا فيما سلف.
3- "ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم, فشربوا منها كلهم. وقال لهم "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين" (مرقس 14: 23- 24), وبالتأمل في هذه العبارة نلاحظ ما يأتي:
(أ) إن الخمر التي كانت في الكأس, هي أقرب مثال للدم من ناحيتين رئيسيتين, فكلاهما أحمر اللون, وكلاهما حياة الجسم الذي يجري فيه. فالخمر هي حياة الكرمة, والدم هو حياة الجسد. فضلاً عن ذلك فإن المسيح شبه نفسه بالكرمة (يوحنا 15: 1), وعصارة الكرمة أو العنب دعيت بالوحي "دم العنب" (تكوين 49: 11، تثنية 32: 14). وهذه الخمر لم تكن طبعاً مسكراً, لأنه لم يكن يسمح بوجود أي نوع من الخمير في أسبوع الفصح كما ذكرنا في الفصل الثاني.
(ب) "وشكر" – نرى هنا دليلاً آخر على التوافق الذي كان بين المسيح في تجسده, وبين الله أبيه, حتى في الساعات التي كانت تفيض فيها نفس المسيح بالأحزان والأهوال... كان قد شكر عندما أخذ الخبز, وبعد أن فرغ تلاميذه من الأكل وجاء دور الكأس, نراه يشكر أيضاً. فالفترة التي انقضت في الأكل, مع ما كان يجول في نفسه أثناءها من خواطر أليمة عن الصليب, لم تكن لتقلل من سروره بتقديم ذاته للموت, عوضاً عن البشر.
(ج) "وأعطاهم, فشربوا منها كلهم" – لا شك أن المسيح عندما أخذ الكأس ورأى دم الكرمة فيها, ارتسم أمامه دمه الكريم الذي كان عتيداً أن يجود به بعد قليل, وما كان هذا أيضاً ليؤثر في شعوره, أو يقلل من عزمه على تقديم ذاته للموت فدية وكفارة, بل ظل كما كان في كامل ثباته وهدوئه, ولذلك استطاع أن يقول لتلاميذه بملء فيه "اشربوا منها (أي من الكأس)كلكم, لأن هذا هو دمي" (متى 26: 38)- وشربهم من الخمر بعد قول المسيح إنها دمه، إشارة واضحة إلى اشتراكهم في حياته, لأن الحياة هي في الدم (لاويين 17: 11), أو على الأقل لأن وجود الدم في الجسم دليل على وجود هذه الحياة فيه, وأيضاً في الفوائد الجليلة التي نتجت من سفك دمه هذا. وهذه الفوائد هي الغفران والتبرير, والسلام والتطهير, وغير ذلك من البركات (أفسس 2: 28, رومية 3: 24- 28, يوحنا 5: 24, أعمال 15: 9).
(د) "الذي للعهد الجديد"- إن المسيح بموته على الصليب, وضع لنا أساس العهد الجديد, فدخلنا بذلك في علاقة جديدة مع الله لم يكن لنا بها عهد من قبل على الإطلاق. ولذلك قال الرسول "الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً" (2 كورنثوس 5: 17- 19). كما أشار إلى معاملة الله معنا في العهد الجديد, فقال على لسانه تعالى "هذا هو العهد الجديد: أجعل نواميسي في أذهانهم, وأكتبها على قلوبهم, وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. لأني أكون صفوحاً عن آثامهم, ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد" (عبرانيين 8: 8-12). وطبعاً يرجع السبب في ذلك إلى أن كفارة المسيح على الصليب, قد حققت كل مطالب عدالة الله وقداسته إلى الأبد, من جهة كل من يؤمن إيماناً حقيقياً في كل العصور والأجيال (عبرانيين 9: 12).
(هـ) "الذي يسفك من أجل كثيرين" – إن الدم الكريم لم يسفك من أجل التلاميذ وحدهم, بل من أجل كثيرين. وما التلاميذ الذين وجّه المسيح إليهم هذا الخطاب, إلا باكورة هؤلاء الكثيرين أو الممثلون لهم. فقد قال الوحي "هكذا أحب الله العالم (بأسره) حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 16).
4- وأقول لكم من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا, إلى ذلك اليوم حين أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26: 29). وبالتأمل في هذه العبارة نلاحظ ما يأتي:
(أ) إن كلمة "أشرب" الثانية, مستعملة هنا بالمعنى المجازي, لأن ملكوت الآب ليس فيه أكل أو شرب (رومية 14: 17), ولذلك فنتاج الكرمة الذي سيشربه المسيح مع تلاميذه هناك, لا يراد به إلاّ الفرح والابتهاج, لأن الخمر تستعمل مجازاً لهما (الجامعة 10: 19). وعدم تمتع المسيح بالفرح والابتهاج إلا عندما يرى تلاميذه (أو بالحري جميع المؤمنين) معه في هذا الملكوت, دليل على محبته الحارة لهم وتعلقه الشديد بهم. ولا غرابة في ذلك, ففي نعمته الغنية شاء أن يكونوا بمثابة أخوة وهو البكر بينهم, وبمثابة العروس وهو العريس معهم, وبمثابة الجسد وهو الرأس لهم (رومية 8: 29, 1 كورنثوس 11: 2, أفسس 1: 23), أي أنه وإياهم أصبحوا وحدة واحدة لا تفكك فيها أو انفصال على الاطلاق.
(ب) وتحدث المسيح بهذه العبارة بعد انتهائه من تقديم العشاء الرباني لتلاميذه، واستعداده للانطلاق عنهم بالجسد, هو في الواقع بمثابة الوداع الحار لهم, وكأنه يقول لهم "إلى اللقاء في أفراح ملكوت الآب", فقد كان واثقاً كل الثقة في كفاية كفارته، وافتتاح الملكوت على أساسها. كما كان واثقاً كل الثقة بأن تلاميذه سيكونون حيث هو, وأنهم سيفرحون معه إلى الأبد, دون أن يكون هناك ما ينـزع فرحهم أو يعطله (يوحنا 14: 2).
5- "ثم سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون" (متى 26: 26- 29). كان المسيح قد شكر مرتين كما مر بنا, وهوذا الآن يسبح[3] هو وتلاميذه معاً، والتسبيح علامة السرور والسرور العظيم. وإنه لأمر يستحق كل انتباه واعتبار أن يكون المسيح مسروراً وقتئذٍ بمثل هذا السرور, مع علمه أن تلاميذه وهم أقرب الناس إليه, سوف يضنون عليه بسويعات قليلة يقضونها معه, وأنهم سوف يهربون كل واحد إلى مخبئه تاركين إياه وحده, وأن بطرس الشهم الشجاع سوف ينكره أمام جارية لا حول لها ولا طول, وأن يهوذا أمين صندوقه سوف يسلمه للموت مقابل دريهمات معدودات, وأن اليهود الذين أحبهم وأتى لأجلهم, سوف يصلبونه بين مظاهر الهزء والسخرية, وأنه سوف يتقبل في نفسه وحده, كل دينونة الخطية عوضاً عنهم وعن غيرهم من الناس (متى 26: 31, يوحنا 13: 26).
حقاً إن سرور المسيح في ذلك الوقت العصيب لدليل على أنه يحبنا نحن الخطأة بمحبة لا حد لها, وأنه يحبنا بهذه المحبة, ليس لأننا نحبه أو لأننا نستحق محبته, بل لأنه هو المحبة بعينها (1 يوحنا 4: 8)، إذ أن من شأن المحبة ألا تشع سوى المحبة, مهما كانت حالة الناس الذين تتجه إليهم.
[2]- نعم إن المسيح بوصفه "ابن الله", متوافق مع الآب كل التوافق منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له, وذلك لوحدة جوهرهما, وهو اللاهوت. وبوصفه "ابن الإنسان" استطاع أن يكون أيضاً متوافقاً مع الآب كل التوافق, وذلك بواسطة الطاعة المطلقة له (فيلبي 2: 8). ولذلك نرى أنه وإن كان قد قال مرة للآب "يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس (أي آلام الصليب)" (لوقا 32: 37) وذلك بسبب قداسته المطلقة ونفوره من أن يعتبر كأثيم, غير أنه قال له بعد هذه العبارة مباشرة "ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك", ومن ثم رضي بالصليب, ولم ينـزل عنه إلا بعد أن قال هذه الكلمة الخالدة "قد أكمل" (يوحنا 19: 30).
[3]- يقول المؤرخون إن اليهود كانوا أثناء الفصح يرنمون مزمور 118 أو المزامير من 113 إلى 118, غير أن المسلم به لدى معظم الشراح, أن المسيح لم يرنم أثناء هذا الفصح مزموراً من المزامير المذكورة, بل أنشأ وقتئذٍ تسبيحاً خاصاً, شأنه في ذلك, شأنه في الصلوات التي كان يرفعها (بوصفه ابن الإنسان) إلى الله أبيه – ويبدو أن الوحي لم يسجل لنا عبارات الشكر أو التسبيح التي فاه بها المسيح عند تأسيس العشاء الرباني, لئلا يستعملها أتباعه كما هي عند ممارسة هذا العشاء, فيصبح شكرهم وتسبيحهم عملاً آلياً بعيداً عن قيادة الروح القدس وتأثيره في القلوب.
- عدد الزيارات: 5575