Skip to main content

2- تاريخ استعمال الخبز والخمر في المراسيم الدينية وغيرها

كان تناول الخبز والخمر معاً من العادات المألوفة لدى اليهود قديماً, فكانوا يمارسونها عند مواساة من مات قريب أو صديق له. وكان الله ينهي قديسيه عن هذه العادة عند انتشار الشر ونـزول قضائه على الأشرار حتى لا يعزوا ذويهم بتعزية ما (حزقيال 24: 17, إرميا 16: 6و 7). كما كانوا يمارسون هذه العادة في كل سبت, فكان رب الأسرة يأخذ رغيفاً وكأساً, وبعد أن يرفع الشكر لله من أجلهما, يقدمهما لأفراد أسرته لكي يأكلوا ويشربوا.

وفي عيد الفصح كان اليهود كعائلات أو أصدقاء يأكلون مع خروف الفصح فطيراً ويشربون خمراً (لوقا 22: 18).

ولعل السبب في استعمال الخبز والخمر في هاتين المناسبتين وغيرهما من المناسبات, يرجع إلى أنهما كانا الطعامين الأساسيين اللذين يعتمد عليهما سكان اليهودية والبلاد المجاورة لها قديماً. ويتضح هذا من الآيات التالية:: "وكثرة حنطة وخمر" (تكوين 27: 28) و"... حتى آتي وآخذكم إلى أرضٍ مثل أرضكم, أرض حنطة وخمر, أرض خبز وكروم" (إسعيا 36: 17) و"لإخراج خبز من الأرض... وخمر تفرح قلب الإنسان" (مزمور 104: 25) و"عضدته بحنطة وخمر" (تكوين 27: 37) و"كثرت حنطتهم وخمرهم" (مزمور4: 7) و"يجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر" (إرميا 31: 12). وإذا كان الأمر كذلك, فلعل الخبز والخمر, أو الخبز والخلّ (راعوث 2: 14) كانا يستعملان لديهم بدلاً من الخبز والماء لدى غيرهم. ولا غرابة في ذلك, فمعظم الناس في الجهات الباردة لا تزال تستعمل النبيذ بدلاً من الماء عند تناول الطعام.. كما أن بعض النباتيين من الانجليز والألمان والدانمركيين لا يتناولون من الطعام سوى الخبز والنبيذ.

ولم تكن الخمر التي تستعمل في عيد الفصح من النوع الذي يُسْكر– لأنه لم يكن مسموحاً بوجود أي نوع من الخمير في هذا العيد (خروج 12: 13) – إذ أنها (كما يقول المؤرخون) كانت عصير العنب الطازج أو نقيع الزبيب قبل أن يعتريه تخمير. وبهذه المناسبة نقول إن الكلمة المعروفة في اللغة العربية بـ "الخمر", تقابلها في اللغة العبرية عشر كلمات تدل على عشرة أنواع منها, أهمها "ياين" و"تشمار" و"مثيخار". والأول هو عصير العنب الطازج, والثاني هو عصير العنب المركّز, والثالث هو عصير العنب المخمّر. والصنف الأخير هو المسكر, أما الصنفان الأولان فلا يُسكران (Young's Concordance, p.1655). ولعل كلمة "ياين" العبرية, هي بعينها كلمة "وين" العربية, وهي بعينها كلمة "wine" الانجليزية مع تحريف بسيط في اللفظ. والكلمة الانجليزية يطلقها الانجليز على الخمر, والكلمة العربية يطلقها العرب على العنب الأسود (قاموس المحيط ج 4 ص 76). فضلاً عن ذلك فإن العرب أيضاً يطلقون كلمة واحدة على الخمر وعلى عصير العنب قبل أن يختمر (أو بالحري عن الرشح الذي يصدر عن العنب) وهذه الكلمة هي السلاف (مختار الصحاح صفحة 310).

وكانت الصلاة التي يرفعها اليهود لله في عيد الفصح قبل أكل الخبز هي "مبارك أنت يا الله ملك العالم, الذي تخرج لنا من الأرض خبزاً", أو "مبارك أنت يا الله لأنك تعطينا خبز الحياة". وكانت الصلاة التي يرفعونها له قبل تناول الخمر هي "مبارك أنت يا الله الذي أعطيتنا ثمر الكرمة", أو "مبارك أنت يا الله من أجل كرمة داود" (The Jewih Passover p.5).

ويرى فريق من الشراح أن المسيح استخدم عند تأسيس العشاء الرباني, عادة استعمال اليهود للخبز والخمر في عيد الفصح بصفة خاصة, وفي كل سبت بصفة عامة, بعد أن حوّل الخبز والخمر من طعامين عاديين إلى تذكار لموته مصلوباً (أو بالحري لموته بطريقة ينفصل فيها دمه عن جسده). ولهم في ذلك حجتان: (الحجة الأولى) أن الفصح كان رمزاً من الرموز لكفارة المسيح عن البشرية, وأن معظم ما كان يجري في الفصح من أعمال كان رمزاً لهذه الكفارة في نواحيها المتعددة (1 كورنثوس 5: 7). (الحجة الثانية) أن المسيحيين في القرون الأولى كانوا يمارسون العشاء الرباني في اليوم الأول من كل أسبوع (أعمال الرسل 20: 7), لكي يتذكروا موت المسيح ويشكروا الله من أجل كل البركات الروحية الأبدية التي حصلوا عليها بسببه, وذلك بالمقابلة مع اليهود الذين كانوا يتناولون الخبز والخمر كل سبت, لكي يشكروا الله لتفضله عليهم بهما طعاماً وشراباً للحياة الجسدية على الأرض.

ويرى فريق آخر من الشراح أن المسيح استخدم عند تأسيس هذا العشاء, عادة استعمال اليهود للخبز والخمر عند تعزية من مات قريب أو صديق له, وحجتهم في ذلك أن المسيح عمل العشاء الرباني قبل موته على الصليب.

لكن الرأي الأول (كما أرى) أقرب إلى الصواب, إذ فضلاً عن أن الحجتين اللتين وردتا مع هذا الرأي لهما وجاهتهما, فإن فرصة ممارسة العشاء الرباني ليست فرصة عويل واكتئاب بل هي فرصة تسبيح وابتهاج (متى 26: 26 – 29). فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يطلب منا أن نبكي عليه مثل الوثنيين الذين كانوا يبكون على تاموز وعشتاروت (كما يقول بعض النقاد), بل طلب منا أن نبكي على أنفسنا وعلى خطايانا كما قال لبنات أورشليم من قبل (لوقا 23: 28).

والحق أن ذكرى موت المسيح تختلف عن ذكرى موت الناس جميعاً, لأنه موته كان موتاً اختيارياً لتحقيق مقاصد الله من جهة خلاص البشرية والإنعام عليها بالحياة الأبدية (غلا 1: 2, عبرانيين 10: 7, 28, يوحنا 3: 16), ولأنه بعدما مات لأجل هذه الغاية الكريمة, قام منتصراً على الموت انتصاراً باهراً أثبت به أنه ابن الله كما قال (رومية 1: 4). فضلاً عن ذلك, فإن الموت لا يمكن أن يسود عليه فيما بعد (رومية 6: 9), كما ساد على الذين قاموا مرة منه بواسطة معجزة من المعجزات (2 ملوك 4: 35, يوحنا 11: 44, لوقا 7: 15, 8: 55), الأمر الذي يدل على أننا بممارسة العشاء الرباني لا نتذكر مسيحاً ميتاً أو مسيحاً معرضاً للموت, بل مسيحاً مات مرة لأجل مجد الله وخيرنا, ولكنه الآن حي وسيبقى حياً إلى أبد الآباد.

أما الدعوى بأن استعمال العشاء الرباني عند المسيحيين مقتبس من عبادة مثرا الوثنية (كما يقول بعض النقاد), فهي دعوى باطلة من أساسها, لأن عبادة مثرا كانت تتطلب من المشتركين فيها أن يتناولوا معاً خبزاً وماء (وليس خبزاً وخمراً), وذلك للدلالة على تآلفهم وارتباطهم معاً. فضلاً عن ذلك فإن أتباع المسيح كانوا بعيدين عن هؤلاء الوثنيين بعداً شاسعاً, لا يسمح بانتقال عقيدة مثرا إليهم بطريق مباشر أو غير مباشر.

  • عدد الزيارات: 8269