تقديم الناشر
كنت قد طلبت الإذن من المؤلف للتصريح بترجمة ونشر الفصل الثاني من هذا الكتاب، منذ حوالي أربعة عشر عاماً، والذي صدر بعنوان " المواهب والخدمة في كنيسة الله الحيّ" في يناير 1984. ولكنه أسدى النصيحة في خطابه لي في ذلك الوقت بترجمة ونشر الكتاب كله. ولما لم يكن ذلك متيسراً في حينه، فقد نشرت بعض أجزاء منه في مجلة جدد وعتقاء.
كما تفضل شيخنا الوقور الأخ فارس فهمي – والذي نطلب له رحمة واسعة من الرب وهو على فراش مرضه الطويل – بتسليمي كراستين تتضمن ترجمته لثلاثة فصول من هذا الكتاب، وكان ذلك في حوالي عام 1985.
وفي أواخر العام الماضي بدأ الإعداد لتجهيز هذا الكتاب للطبع. والذي استلزم جهداً طويلاً في الترجمة والمراجعة الدقيقة بمقارنتها بالأصل لننقل بأمانة ك ما كتبه المؤلف. وقد لب مشكوراً الأخ الفاضل يوسف رياض الطلب بأن نضيف ترجمته للجزء الخاص بالتأديب الكنسي الذي سبق ونشره في مارس 1984 – كما تفضل الأخ الحبيب رشاد فكري وأظهر اهتماماً وتكلّف جهداً ملحوظاً بمراجعة الكتاب. وبذلك تكون أيادي كثيرة قد ساهمت في هذا العمل المبارك لمجد اله وخير كنيسته. وهكذا بمعونة عظيمة من يد إلهنا الصالح، تتحقق الرغبة العميقة لدى الكثيرين بصدور مثل هذا المجلد، ليكون بين أيدي القديسين لتعليمهم وبنيانهم في الحق. وبذلك تحققت نصيحة المؤلف أيضاً بنشر مؤلفه بالعربية، ولكن بعد أن رقد بيسوع منذ سنوات ليست بكثيرة.
ونحن نرى أن هذا الكتاب يلمس الجانب العلمي لهذا الموضوع الهام، وهو "كنيسة الله الحي". وبذلك إذا وضعناه إلى الجوار كتاب "محاضرات في كنيسة الله" للمرحوم وليم كيلي الذي يتناول الموضوع في أساسه الكتابي والإلهي، يصبح مكملا له. ونحن ننصح القارئ العزيز بضرورة قراءتهما لاستكمال الفائدة المرجوة.
ونحن لسنا أمام موضوع كهذا كما يتناوله دكاترة اللاهوت . ولا بحسب التفسيرات المذهبية، بل كما تقوله كلمة الله كما هي. وما أحوج القديسين أن يتدربوا في فهم المكتوب ويخضعوا ويطيعوا الكلمة.
وما من شك أن موضوع الكنيسة الله هو من أجمل وأحلى الموضوعات التي تتناولها أسفار العهد الجديد وخاصة رسائل بولس. ومع ذلك فهي من أكثر الموضوعات غموضاً لدى الغالبية من المسيحيين وبينهم مؤمنين حقيقيين بسبب إرتباطه بالتعاليم الطائفية. فقد ارتبطت الكنيسة في أذهان التقليديين بأقوال الآباء والقوانين المجمعية المسكونية والمحلية مع التقاليد المتوارثة عبر عصور الظلام والجهل وترك كلمة الله، مع الطقوس التي لا تحصى من كثرتها حتى أصبحت صورتها بهذا الوضع السائد الذي نراه الآن، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد ارتبطت في البروتستانتية بالآراء المذهبية الخاصة والتي لا تستند في أجزاء كثيرة منها على البراهين الكتابية الواضحة.
ولهذا كان لا بد من الرجوع إلى الكتاب لمعرفة ما يعلّمنا به، ويحتاج كل منا أن يكون له التدريب الشخصي لكي يتيقن من هذه الأمور لنفسه. لقد سبقنا إلى ذلك أجيال من المعلمين المقتدرين، منذ أن كشف الرب الحقائق الكنسية من بين ما كشف في بداية نهضة "الإخوة" في أوائل القرن التاسع عشر، والتي بدأت في "دبلن" وانتقلت إلى بلدان إنجلترا، وامتدت إلى ربوع أوروبا وأمريكا وكندا وأوستراليا، كما وصلت إلى بلاد الشام ومصر والسودان ومناطق أخرى في العالم. كانت هناك شهادة لامعة في ذلك الوقت لإجتماعات تعقد بإسم ا لرب يسوع وحده. وكان هناك الإعتراف برياسة الرب الحقيقية لهؤلاء المجتمعين إلى اسمه. وقد اجتمعوا لكونهم مسيحيين فقط على مبدأ جسد المسيح الواحد. وبالرجوع إلى ما كتبه هؤلاء الذين أفاض عليهم الرب كمعلمين مقتدرين وشراح مدققين في المكتوب رأينا قوة الحق الكنسي. ويقول الكاتب هنا أن هذا الكتاب هو حصيلة ما قاله شراح أفاضل وما تعلّموه في الكلمة في أمور كنيسة الله.
لذلك فإن الأجيال الجديدة ما لم يكن لها التدريب الكافي لهذه الحقائق النفسية في أمور الاجتماع إلى اسم الرب، فإنها تتعرض للتخلي عنها بسهولة.وهذا ما تؤكده حالة الاجتماعات بشكل عام في الغرب التي اندثرت في معظمها ولم يبق منها إلا القليل وفي بعض البلدان ما ندر. وما نراه في بلادنا الآن، يؤكد تأثرنا بروح العصر التي دمت الشهادة، التي لن تبقي منها إلا بقية قليلة يحفظها الرب لنفسه.
هل هناك علاقة بين "الخلاص" و "الكنيسة"؟
إن "الخلاص" و "الكنيسة" هما دائرتان متميزتان تماماً، وإن كانت الأولى تقود إلى الثانية بحسب وضعها الصحيح. أما دائرة "الخلاص" فقد جهلتها وأفسدتها التعاليم التقليدية إذ ربطتها بالأسرار السبعة. ويعبّر عن ذلك أوغسطينوس في مقولته الشهيرة (لا خلاص إلا داخل الكنيسة). مشيراً بذلك إلى الرمز التاريخي وهو فلك نوح. وقد اعتبر أن الفلك هو الكنيسة (وليس المسيح). فأين نجد في الكتاب أن الكنيسة هي التي تنقذ وتخلّص من طوفان غضب الله ولجج دينونته العادلة؟ أين يجد الخاطي خلاصه الأبدي وحياته وغفران خطاياه وسلامه مع الله؟ أليس هذا في صليب المسيح؟.
وأما دائرة "الكنيسة" فقد تاه الكثيرون حتى من المخلّصين بعيداً عن مبادئها الكتابية. نقل أن رجال الإصلاح لم يدركوها، واكتفوا بما تحصّلوا عليه من التحرر من تعاليم كنيسة روما، وبما تعلموه من رسالتي رومية وغلاطية أي التبرير بالإيمان بدم المسيح.
ويتساءل "الخلاصيون"، وهم اللذين يؤمنون بحاجة النفس إلى الخلاص فقط دون ضرورة للكنيسة بعد ذلك، قائلين أليس الخلاص كافياً لقبولي أمام الله ودخولي إلى السماء؟ هل أنا في حاجة إلى غير ذلك؟ ثم ما الذي يُلزمني أن أضع نفسي تحت قيود طائفة بعينها؟ إنني أذهب إلى حيث أجد الفائدة، وأتناول عشاء الرب من المائدة المفتوحة في أي مكان، وأحتفظ لنفسي بالحرية في كل أمر.
نقول إننا بحسب الكتاب أن نوالي الخلاص الأبدي بالإيمان بالمسيح يسوع "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا" (رو25:4)، وهذا اختبار فردي. فلا بد أن أتمتع فردياً بغفران الخطايا والتبرير والسلام مع الله، وأنال كفرد عطية الروح القدس. ولكنني أجد أن الروح القدس يضمني إلى الكنيسة الحقيقية حيث جسده على الأرض، مثلما قيل في أعمال 47:2 "وكان الرب يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون". والكنيسة ليس بمقدورها أن تمنحني هذه البركات، بل بالحري بإيماني الشخصي بالمسيح يسوع بحسب كلمته. والروح القدس ينقل إلىّ كل هذه العطايا.
لكن ليس غرض الله أن يأتي بأفراد مخلّصين إلى السماء فقط، بل أن يجمعهم معاً في وحدة منذ الآن وهم على الأرض، ويصبح المسيح رأس هذا الجسد. والرب يسوع هو الذي كل مؤمن في مكانه في الجسد الرمزي حسبما يعطيه من مطلق نعمته.
إذن فالكنيسة ليست على الإطلاق أي طائفة ما، سواء كانت كبيرة أم صغيرة حسب عدد المتشيعين لها، وليست هي مجموع تلك الطوائف، ولكنها جسد فعلي على الأرض. وهذا ما حدث في اليوم الخمسين عدما نزل الأقنوم الإلهي من السماء ليؤسس الكنيسة على الأرض ويسكن فيها وفي كل مؤمن على حدة. وهو لايزال يضم إليها المخلّصين حتى يكتمل عددها حسب قصد الدهور.
فإذا اجتمع القديسون معاً بالروح القدس، بحسب مبادئ المكتوب، فإن الرب يتنازل ليأخذ رياسة الاجتماع، ويقود المؤمنين الذين ينتظرون أمامه ليعرفوا ويتعلموا مشيئته ويطيعوا الروح. ولاشك أننا نتحرر من آرائنا الشخصية وأمزجتنا الخاصة ليقبل أحدنا الآخر، ويخضع بعضنا في خوف الله. وهذه هي إختباراتنا الشخصية واختبارات القديسين على مر العصور.
أما التضحية بكنيسة الله للاحتفاظ بحريتي الخاصة فهي أنانية مفرطة، تقود مع الوقت إلى التخلي عن مسئوليتي الخاصة التي كلّفني بها الرب للقيام بها في كنيسة الله وأقصد دوري بحسب مكاني في الجسد.
إن عدداً ليس قليلاً من المؤمنين ينهجون هذا النهج الخاطىء، ويجمعون لأنفسهم أناساً بآراء متنوعة، والنتيجة هي تشتيت قطيع الرب وراءهم فيذهبون إلى مراعي غريبة بها تعاليم مغشوشة وغير أمينة، فيحدث الضرر والجوع والهزال الروحي والسقوط في براثن العدو ومكايده.
إن "الخلاص" و "الكيسة" كليهما بيسوع وحده وليس بأي مبدأ آخر غيره. وكما أن الناس وضعت نظريات متنوعة للخلاص، كذلك وضع الناس للكنيسة نظريات كثيرة. ولكن يبقى للمسيح جسد واحد على الأرض يضم كل اللذين عمّدهم الروح إلى هذا الجسد الواحد (1كو 12: 12 و 13)، مهما كثر عدد الطوائف والجماعات المختلفة. والروح القدس هو المسئول عن حفظ وصيانة وحدانية هذا الجسد على الأرض. أما نحن فقد دعينا أن نحفظ وحدانية الروح برباط السلام (أف 4: 3). فهل نحن نتبع هذا المسلك الصحيح؟!
إن هذه الحقيقة البسيطة والمجيدة أيضاً إذا ملأت القلب والذهن، فإنها تنفي عنا الافتخار بالمذاهب والقادة والمعلمين، ويا له من افتخار جسدي باطل.
ليت قارئي العزيز الذي هو عضو في هذا الجسد الرمزي أي الكنيسة الواحدة، سواء كن أخاً أو أختاً في المسيح، يعلّم ويدرك إمتيازات الكنيسة حتى يشغل دوره في هذا الجسد بحسب الموهبة المعطاة أو لها، حتى يتمجد الله أبينا بربنا يسوع المسيح.
وهكذا نرفع التضرع إلى إلهنا وأبينا لكي تترك سطور هذا الكتاب تأثيرها الحقيقي في ضمائر وقلوب القديسين ليكون لهم التدريب الكافي في تعلم الإجتماع إلى إسم الرب وحده، وحرية الروح أن يقود من يشاء، ورياسة الرب يسوع الفعلية، وممارسة المواهب المعطاة في الإجتماع، والرجوع إلى المكتوب في كل ما يواجهنا معتمدين على قيادة الروح لنا.
ث. ف.
- عدد الزيارات: 4658