وحدانية الروح
وقبل أن أختم تأملي، أذكر باختصار النتيجة العملية لهذه الحالة الجديدة وهي قول الرسول "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" ويا له من ربح جزيل كنا نحصله لو أننا طبقنا هذا القول بصفة فعلية إزاء انقساماتنا!! وتأمل أيها القارئ قليلاً في حالة شخص مسيحي قد أقيم من حالة الموت ووجد سلاماً ولكنه يسأل عما يجب أن يعمل. وفي الحقيقة كم تحير كثيرون منا في مثل هذه الظروف! قد لا نفهم سوى القليل جداً من كلمة الله ومع ذلك لا نزال نرى صعوبة في التوفيق بين الكلمة وبين ما يحيط بنا لاسيما من جهة القول "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح" وفي الحقيقة إن هذه السبل واضحة وهادئة، فلست مكلفاً بصنع الوحدانية، ولا بصنع حدود لها أو الاشتراك مع الآخرين في ذلك. نعم لا هذا ولا ذاك، بل على أن اجتهد في حفظ وحدانية الروح، وبعبارة أخرى إن الله الروح القدس قد صنع وحدانية، ومشغولية كمؤمن هي ملاحظة هذه الوحدانية لكي أحفظها. وكم للنفس المتواضعة من راحة عجيبة عندما تشعر بأنها عرضة للخطأ، ولخطر السقوط في الرخاوة من جهة أو ضيق الفكر من جهة أخرى.
ولسائل يقول: ما هي وحدانية الروح؟ أين بدايتها وإلى أين تنتهي؟ وما هي طبيعتها وصفاتها؟ الكتاب يخبرنا أن الروح قد أقام وحدانية بين الناس، وأن هذه الوحدانية منفصلة عنهم وهي فوقهم. فما هي إذن؟ الجواب على هذا السؤال هو أن الوحدة موجودة في الكنيسة التي قد جعلها الله جسد المسيح. وكم يستريح المؤمن عندما يعرف أن واجبه هو أن يميز ببساطة وبواسطة كلمة الله مكان وحدانية الروح هذه؟ قد يقول قائل: كيف هذا؟ إنني أدخل بعض كنائس المسيحيين ولكنني لا أعرف أين أجد وحدانية روح الله، ولا كيف أدركها؟ الجواب هو أن الله قد أعطى لنا في الكلمة أدلة واضحة نيرة – أفتش فيها فأرى أنه آخذ في جمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد، فيجمعهم حول اسم المسيح مؤكداً لهم أنهم حيثما اجتمعوا بهذه الصفة فهو في وسطهم. واعلم أيها القارئ أنك لن تجد حلاً لكل معضلة روحية بعيداً عن المسيح. فإذا كنت تنتظر مجرد اتحاد بين المسيحيين، فمن الوهم والخطر أن تنتظره بدون أن يكون المسيح مركزه. فمن جهة المسيحيين ليس مكان يخلو منهم، ومن الناحية الأخرى ما من وهدة للضلالة لا تجد فيها بعضاً من أولاد الله. فإذا شئت أن أفتش عن أولاد الله فإنني بسهولة أجدهم تحت أشكال متنوعة من محبة العالم. فقد أراهم في هذه الناحية غير مرتبطين، وقد أراهم في الأخرى ملتصقين ومتعصبين. أجل – قد أراهم مجتمعين معاً بموجب قوانين بشرية ولأغراض تافهة جداً، وقد أراهم يجهلون محور اتحادهم إما بعض الشخصيات، أو التعاليم الخاصة. أو الآراء المستحسنة ولكن هل هذه هي وحدانية الروح؟ فإذا لم تكن هكذا فما هي إذن في معناها الصحيح. وما هي كيفية حفظها؟ جوابنا على هذه الأسئلة: إن وحدانية الروح هي ما يكونه الروح لمجد المسيح.
والمسيحيون هم الذين بالطبع تتألف منهم الوحدة. إلا أن حفظها لا يتوقف على مجرد كونهم مسيحيين بل على كونهم مجتمعين إلى المسيح – ليس إلى حضوره بالجسد، بل إلى اسمه كمن هو الآن في السماء. ولو أنهم لا يرونه رؤى العين المجردة ومع ذلك يعتمدون على حضوره إذ هو أمين لكلمته. فإذا كنت أفرز نفسي عن اجتماع كهذا، فأكون غير مكترث بالغرض الذي مات المسيح لأجله (يو 11: 52) وناقضاً وحدانية الروح. وإذا كنت أقدر قيمة موت المسيح وأجتهد في حفظ وحدانية الروح فسيكون اجتماعي على هذا الأساس لا على غيره. لاشك أن كثيرين من أعضاء المسيح متفرقون الآن في كل مكان بينما كان يجب أن يوجدوا مع الذين يجتمعون حقيقة حول اسم المسيح. ولكن هل واجبي – كشخص يعرف إرادة سيده – أن أتنحى ناحية قاصية بدعوى أن الآخرين لا يعرفون إرادة السيد. وحتى إذا عرفوها فإنهم يظهرون عدم الأمانة في إتمامها؟ وهل من واجبي أن أقول إن مشيئته لا يمكن أن تتم!!
وهنا نجد علة من علل خراب المسيحية، كما نجد الحقيقة المؤلمة وهي أن الشيء الذي لأجله مات المسيح قد وجه الشيطان كل جهوده في مقاومته وقد أثمرت تلك الجهود. ولكن لا تتعجب أيها القارئ، فإن كل أمر يشرع فيه الله يضعه أولاً بين يدي الإنسان لأنه مسئول أو يستعمله لمجد ذاته الكريمة. ولكن للأسف!! فإنه لا توجد سوى نتيجة واحدة لهذا العمل وهي خراب الإنسان خراباً تاماً. ولذلك لا تعود الرواية تتكرر مرة أخرى حتى يظهر إذا كان يستخدم فرصة مجيء يسوع وملكوته لمجد الله. على أن نهاية الألف سنة ستكون برهاناً على أن ما حدث قديماً سيحدث حينئذ، ولكن قد وجد في كل الأزمنة أن الإيمان يتغلب وينتصر. فانظر أيها القارئ أن تكون متمسكاً بالحق تماماً، ولا تدع أحد يحرمك من البركة التي أعطاها لك الله، والتي دعاك لأن تتمتع بها. وما أحلى أن نحفظ في بالنا أن الكنيسة المؤسسة على الصليب، والمتحدة بالمسيح بواسطة الروح والمنتظرة مجيئه – هي الثمرة الغالية لنعمة الله.
وبعد أن حاد شعبه عن القوة، وأهملوا حتى مجرد صورة هذا الحق السامي، قد عاد ووضعه أمامهم من جديد. ولست أرتاب في أن الله قصد إعادة هذا الحق بالنظر إلى سرعة مجيء الرب. و إلا فبماذا نعلل دعوة الله للكنيسة "حسب مسرته" لتعد نفسها للعريس، باعثاً من جديد تلك الشهادة السماوية التي كانت يوماً ما محتقرة ومهجورة ومهملة! وما أسعد النفس التي ليست فقط تنحني إجلالاً فتقبل نعمة الله الموجودة فيها بل تحفظ الكنز بأمانة! نعم أيها القارئ ما أسعد تلك النفس لذلك "تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك" وتأكد أننا معرضون كالذين سبقونا – لخطر إهمال ما أعطاه الله لنا، وأن كل آلة يستطيع الشيطان أن يخترعها ليبعدنا بها عن الرب، كأن يستخدم فرصة الإهمال، أو مصاعب الحياة، أو التجارب، أو أي شيء يستغلنا لأكبر درجة – نقول أن كل آلة من هذا النوع وغيره سيصورها ضدنا لأنه لا يبغضنا نحن فقط بل أيضاً شخص المسيح وحقه الإلهي.
ولكن بما أن الرب قد سر بأن يقيم ثانية شهادة لشخص الكريم ولعمله ومجده السماوي، فإنني أرجو قرائي وأتوسل إليهم أن يحترسوا لئلا يقودهم الشيطان بخداعه إلى الانحراف عن الصخرة الإلهية الوطيدة في وسط تلاطم أمواج الارتداد، ولاسيما الأحداث والحدثات منهم، وكل من لم يشعر بقوة تلك الشهادة وأهميتها ممن تدربوا على مبادئ الحق وتربوا فيها ولم يتكلفوا الكثير في سبيل تعلمها، ولم يختبروا نقض علاقات القربى والصداقة في تدريب عميق مدركين تدريجياً حالة النصرانية. وأنني أسلم تمام التسليم بأن كل من وصل إلى هذا المركز الجديد – أي جسد المسيح – ينبغي أن يسلك في طريق تتفق مع ذلك المركز. وأنه لمن العار الفاضح أن يكون التكريس الصحيح في يومنا هذا أقل منه في ذلك الزمان الذي لم يكن قد أشرق فيه هذا الحق السامي كما أشرق علينا. عار علينا، ومانع خطير للحق، ودراية لنعمة الله التي أعلنت ذلك الحق أوصلت نفوسنا إليه، نعم عار وفضيحة أنه بعد كل هذا لا يظهر لذلك الحق سوى سطوة قليلة!! فكيف ترى نتصرف فيه؟ هل نزدريه ونرتاب فيه؟ وهل لعدم أمانتنا نطرح جانباً كلمة الله الواضحة التي تحكم علينا من أجل الأساس الواطئ الذي أصبحنا نستريح عليه وادعين قانعين؟ وهل ترى نستسلم للاستحسان البشري ونخترع محور وحدة غير المسيح وخدمته غير خدمة الروح؟ أجل – وهل يسوع لنا أن نترك المكان الوحيد والمبدأ الواحد الذي يسمح به العهد الجديد لأعضاء جسد المسيح – بحجة أن التصرف بمقتضى النور السماوي المعلن لنا أمر غير مستطاع في عالم كهذا؟ لا شك في أن هناك صعوبات كثيرة ومعطلات متنوعة تعترضنا في سبيل المحافظة على ذلك الحق – أما إذا أردنا أن نسير مع الله فنحتاج باستمرار أن ننكر ذواتنا عملياً.
- عدد الزيارات: 4172