الكنيسة
هذه هي الكنيسة جسد المسيح، وهذا هو العمل الذي يتممه الله. فلا يخلص النفوس فقط، بل ويجمعها أيضاً، وليس فقط يجمعها إلى واحد، بل هو يجعل اليهود والأمم المؤمنين (وهم على الأرض) إنساناً واحداً في المسيح وجسداً واحداً لشخصه المبارك. حالة كانت قبلاً حسب وصية الله أمراً ممنوعاً منعاً باتاً.
ونرى في نهاية هذا الإصحاح حقاً آخر مرتبطاً مع الكنيسة فقط أشير إليه في سياق كلامي. فالروح القدس لا يخبرنا فقط عن تكوين جسد واحد في المسيح بل عن وجود مسكن على الأرض يسكن فيه الله. ومع أن موضوع سكنى الله ليس ضمن محاضرتي هنا، إلا أنني لا أقدر أن أحرم نفسي من لذة ذكر بعض الكلمات عن هذا المركز العجيب الذي أعطاه الله للكنيسة.
وقبل كل شيء ليلاحظ القارئ أنه لم يكن في العهد القديم بناء أو مسكن لله إلى أن وجد ما يرمز إلى الفداء. فبغض النظر عن رحمة الله وتنازله للذين أحبهم نرى أنه تعالى لم يقدر أن يسكن مع الإنسان إلى أن وضع الأساس الذي بمقتضاه قدر أن يسكن معه بالبر – وهذا الأساس هو سفك الدم. ولو تصفحنا سفر التكوين لما وجدنا فيه كله إشارة إلى أن الله سكن مع الناس، أو أنه تعالى وعدهم بأن يسكن معهم. ولكن بمجرد أن سفك دم خروف الفصح، وعبر إسرائيل البحر الأحمر نقرأ أنه صار لله مسكن في وسط شعبه. ولا يعزى السبب في سكنى الله إلى تحسن في حالة الشعب. لأن هذا محال، إذ لو قارنا إسرائيل الذي عبر البحر الأحمر بإبراهيم أو إسحق أو حتى يعقوب لوجدنا الفرق عظيماً. ومع ذلك نرى أن الله الذي يزور الآباء مجرد زيارة أصبح بعد الفداء يسكن بين البنين ويضع لسان أحدهم أن يقول "أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب" وكيف تم ذلك؟ آه أيها القارئ فإن قليلين منا من يقدرون التغير العظيم وأثر الفداء العجيب حق قدرهما! فالمسألة ليست مقارنة بين الأفراد وبعضهم، أو بين يمانهم وأمانتهم، بل هي مسألة تقدير الله للفداء، وقد أظهر لنا أنه حتى لو لم يكن سوى أمراً إعدادياً، ومع انه كانت فيه علامة صريحة منظورة توافق شعباً أرضياً، ولكن الحقيقة الواضحة التي نراها منقوشة على تاريخ إسرائيل كالنقطة المركزية لبركتهم هي أن الله تنازل لأن يسكن في وسطهم (خر 15: 2، 13، 17، ص 29: 43 - 46).
على أن هذا الأمر قد أصبح للكنيسة على الأرض أغزر بركة وأكثر غبطة من ذلك العهد القديم. فقد سر الله أن يجعل شعبه على الأرض مسكناً له تعالى. ولكن يجب أن نفهم أن هذا لم يحصل قبل الصلب بل بالحري بعده. فقد جاء الله في شخص المسيح إلى الأرض، ولكن المسيح بقي وحده باعتباره هيكل الله الوحيد الحقيقي بدليل قوله له المجد "انقضوا هذا الهيكل" ولكنه بعد أن مات وقام، حدث شيء جديد، فقد أكمل الفداء ولذلك استطاع الله أن ينزل بالقداسة والبر اللذين يتفقان مع صفاته الخاصة ويسكن في شعبه. ليس لأن قديسي العهد الجديد أحق في ذاتهم بسكنى الله فيهم من قديسي العهد القديم، كلا! فإن من يعرف نفسه ويعرف الفداء يدرك أن هذا فكر فاسد لأن الطبيعة البشرية لا تصلح لشيء أمام الله، وأن الجسد وكل ما يدعو لافتخاره لا حيثية له في محضره تعالى، بل "من افتخر فليفتخر بالرب".
على أن هذا ليس الكل: فلم يصر لنا فقط رب نفتخر به بل فداء حقيقي فعلى المسيح بدمه. وما أعظم تقدير الله لدم ابنه الكريم، بل ما أعظم شعوره نحو الذين رش عليهم هذا الدم بالإيمان وأصبحوا به مغتسلين. ألا يحق أن يقول فيهم كما قال في إسرائيل بلسان الحال "الآن أنزل وأتخذ مكاني في وسطهم"؟ هذه هي في الواقع ناحية غالية من نواحي الكنيسة التي هي الآن مسكن الله بكيفية خاصة. لذلك يسميها الروح القدس في مواضع مختلفة من الكتاب "بيت الله" و"هيكل الله" على أن موضوعي ليس البيت بل "الجسد" لذلك لا أطيل الكلام عن البيت.
ومن ثم نجد أن الروح القدس يحرض القديسين في (أفسس 4) أن يكونوا "مجتهدين أن يحفظوا وحدانية الروح في رباط السلام". ثم يوضح هذا الكلام بالقول "جسد واحد وروح واحد كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. رب واحد إيمان واحد معمودية واحدة. إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم".
وهل يتصور واحد أن الحقيقة "الجسد الواحد" الخطيرة لا تؤثر على أفكار المسيحي وأخلاقه كما على عواطفه؟ وبفرض أننا حصلنا على معرفة المسيح وتأكدنا أنه ابن الله والمخلص وأصبحنا نستريح عليه كسلامنا أمام الله والآن نحن ندعوه كربنا، ولكن أليست لي علاقة بالآخرين على الأرض؟ هل أنا متروك وحدي لأدعو الله؟ وهل علي أن أفسح لي طريقاً وسط العالم باستخدام كلمة الله مع الصلاة فقط. هل أنا وحدي ابن لله مع أولاده المتفرقين هنا وهناك وما هو شعوري عندما أرمق بنظري أولئك الذين يسمون ذلك الاسم الحسن ويدعون اسم ربنا يسوع المسيح لهم ولنا؟ إن الجواب على هذه الأسئلة كلها هو "الجسد الواحد" والله هو الذي يكون ذلك الجسد لمجد المسيح الذي قد اتحد به هذا الجسد. "لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" وليس في مقدور أحد أن يحدد ماهية نسبتنا الطبيعية إلى إخوتنا في المسيح لأن هذا عمل الله الذي يعطي ما يليق به تعالى ولو كان فيما يختص بدائرة الأرض والجسد. فلا يعطينا ما نختاره – لأننا لا نجهل غباوتنا من هذه الناحية. بل يعين لكل واحد مركزه سواء كان عالياً أو وضيعاً حسب حكمته الإلهية. وهل ما يعمله الله لأجلنا وما يعمله إيانا أقل مما يعمله الآن لابنه المحبوب؟ وهل مشيئته نحونا أقل أهمية منها نحو العالم الخارجي؟ كلا أيها الحبيب وألف كلا! فليس من يختلف في مشيئة الله من جهة النسب الطبيعية، بل حتى الأدبيون هم أيضاً لا يختلفون في ذلك. نحن نعلم ما تفعله الشهوة البشرية في خرق كل الحدود الفاصلة ومع هذا فإن الإنسان المسكين يدرك (بدون التفكير في الله) عوزه إلى هذه العلائق الطبيعية التي صارت له على الأرض ويقدر قيمة المحافظة عليها. أما العلائق الروحية فليس لها عنده هذا الاعتبار. وإنه لفكر خطر وحقيقة تذلل القلب المسيحي وتكسره أن تكون الكنيسة – وهي القريبة من الله إلى هذا الحد، والتي هي ثمار محبته الكاملة، والمخلوقة منه تعالى للمجد الأبدي الخاص بابنه المحبوب، وهي ترتيبه، ومشيئته، ومسرته، أجل – من العار أن تكون هذه الكنيسة أقل اعتباراً لدى المسيحيين من نفس نسبتهم الطبيعية التي تربطهم بعضهم مع بعض! ولكن أليس هذا هو الحاصل بينهم؟ وألا يكون ذلك خطية محزنة.
- عدد الزيارات: 3438