معاملات الله
وقد نتج عن الوعد المعطى لإبراهيم أن الله أفرز لنفسه عائلة قد أصبحت في الوقت المناسب أمة. وإذ امتلأت الأمة من الاعتماد على قدرتها، سر الله في حكمته أن يمتحنها بالناموس المعطى لها فوق جبل سيناء. إلا أن نتيجة هذا الامتحان لم تكن مجهولة مطلقاً واو أننا نرى أن الله تأنى فيه. فقد كان أنه عند الجبل الذي تكلم فوقه الله، قد ازدرى بنو إسرائيل بسلطانه ومجده تعالى، وسجدوا لعمل أيديهم. وبذلك أصبح الناموس الذي هو بمثابة مطاليب الله الأدبية من الإنسان منقوضاً من أساسه. وقد تمهل الله كثيراً إلى أن جاء الوقت الذي نفذ فيه مقاصده بكل صورة ممكنة. وآخر تجربة كانت مجيء المسيح – نسل المرأة، وابن الموعد أيضاً – الذي كان المقصود من كل الإعلانات، والمواعيد، والمعاملات، والرموز، ونبوات الله. فقد جاء ذاك الذي وجد فيه كل ما أرضى الله ووافق الإنسان. على أن مجيئه قد أظهر تلك الحقيقة المرعبة وهي أن الإنسان ليس فقط فاسداً في ذاته، وساقطاً بحسب إرادته. بل ويكره الصلاح الإلهي الذي أظهر في إنسان. فقد أظهر عداءه لله عندما أعلن ذاته في تلك الحالة المباركة في شخص ابنه العزيز. أجل – أظهر له عداءه لما أعلن نفسه – لا بالقوة فقط، إذ من المعلوم أن الإنسان الأثيم يرتعب من القوة المقدسة – بل بالمحبة الكاملة، آتياً في جسد الاتضاع، واضعاً نفسه عند قدمي الإنسان واعظاً إياه أن يقبل إليه ولا يقل واحد أن هذا كلام من منتجات العقل البشري بل هي كلمة الله التي تقوله وهاك قولها "إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذن نسعى كسفراء عن المسيح كأن يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" فمحبة الله التي اتجهت نحو الخطاة لتعظهم أن يأتوا إليه كانت المظهر التام للنعمة الإلهية الظاهرة في شخص المسيح. على أن هذا ما كان من ناحية الله أما ما كان من ناحية الإنسان فإنه برهن على أنه ليس بمقدوره أن يحرر نفسه بأي وسيلة من الوسائل التي وضعها الله تحت تصرفه وبرهن أيضاً على أنه لو كانت مسألة خلاصه متروكة له (بغض النظر عن الرحمة والبركة والنعمة الكاملة العميقة التي ظهرت في شخص حي كربنا يسوع) إذن لضل تماماً، بل ومات في الخطية. لأنه بدلاً من أن تربحه محبة الله ازدرى بها إذ عندما وضع يسوع نفسه عند قدمي الإنسان رفع الإنسان عقبه وداس يسوع ابن الله. ومع أن الإنسان – تحت قيادة الشيطان الضالة الغادرة – رفض المسيح وصلبه، إلا أن الله تداخل ولم يعلن فقط محبته (ويا لها من محبة صادقة) بل صنع للإنسان فداء سدد حاجات جميع الذين صلبوا ابنه ربنا يسوع – فداء استطاع أن يمحو أعظم خطية صدرت من الإنسان. وبذلك انتصر الله في الوقت الذي كان الإنسان يعمل كل أمر رديء ضده تعالى.
على أن هذا ليس الكل: ففي معاملات الله السابقة – لما أعطى الشريعة – فصل الأمة التي اختارها ودعاها من مصر، مفرزاً إياها عن سائر الشعوب، مميزاً إياها بكيفية بارزة جلية عن تلك الشعوب. وقد كان ذلك الانفصال ضرورياً حتى لا يشكو الإنسان من عدم عدالة الامتحان إذ أن القدوة الفاسدة التي قدمها من حولهم كانت تقودهم بالطبع إلى الضلال. لأجل هذا السبب، وبذلك الناموس وتلك الطقوس ميزهم عن الآخرين. وإزاء هذه الحواجز كان اليهودي يرتكب خطية عظيمة إن هو دخل في شركة مع الأممي مهما كان تقياً وراغباً في احترام شريعة الله. لا شك أنه كان مسموحاً قبول الأممي الراجع من الأممية، ومع ذلك فقد كان في كل نظام معاملات الله مع الأمة الإسرائيلية بواسطة الناموس، انفصال صريح مطلق لشعبه عن كافة الشعوب. على أنني لا أتكلم هنا عن سوء استخدام هذا الانفصال، وعن تأثيره على قلب الإنسان الفاسد ضد الآخرين – إذ قد آل سوء استعماله إلى تكبر قلب الإنسان فاحتقر الآخرين لسبب حالتهم المهملة من الله، إلا أنه بغض النظر عن سوء استعمال إسرائيل لذلك الانفصال، فقد كانت أمانة الله تستدعيه إذ فيه كانت مشيئته تعالى. فقد أثبت الله للعالم أجمع ذلك الحق المؤلم المذلل وهو أنه لو فازت أمة بمثل ما فاز به إسرائيل من رحمة وامتيازات نادرة، وحكمة أدارت مرافق حياتهم الخارجية والداخلية إذن لكانت النتيجة ازدياد العداء ضد الله نفسه.
- عدد الزيارات: 5090