لمحة عن المؤلف
وليم كيلي
مقتبسه عن كتاب ذكريات في حياة وليم كيلي وأيامه الأخيرة بقلم صديقه دكتور هيمان ريفورد Heyman Wreford حيث كان ينزل المؤلف ضيفاً عليه، وفي منزله رقد بيسوع في 27 مارس عام 1906.
خاتمة حياة مليم كيلي المكرسة التاعبة والطويلة كانت في ذاتها حادثة مست قلوب كثيرين من المؤمنين الذين ربطتهم به أعمق عواطف المحبة. فلقد كان وليم كيلي أحد عطايا المسيح الخاصة للكنيسة خلال نهضة القرن التاسع عشر – النهضة التي فيها تفتح الإدراك ووضح الحق ولمعت الشهادة، وفي خدمة سيده الذي امتلك قلبه، حسبه ربحاً أن يخرج منفصلاً عن كل شيء جاعلاً شعاره هكذا: "الإيمان بكلمة الله، والطاعة الحقيقية لها، والتكريس لشخص المسيح".
ولد وليم كيلي في Mill Isle Down في مايو 1821 وتلقى تعليمه في Down Patrick ثم في جامعة دبلن حيث نال أعلى مراتب الشرف في الآداب. وقد نشأ بروتستانتياً. وقد تجدد روحياً بعد تخرجه من الجامعة بقليل. ولما استقر به المقام في جزيرة سارك تعمق إدراكه للحرية المسيحية بوساطة سيدة من عائلة Acland قادته إلى 1 يو 5: 9 و 10 "إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بابن الله فعنده الشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه". وتجده يشير إلى هذه الواقعة المفرحة في شرحه لرسائل يوحنا الذي نشره في أواخر أيامه. ولقد ظل وليم كيلي ملتزماً بالحق الذي وجده ووجد فيه شهادة الله في نفسه عن الخلاص والحياة الأبدية، وظلت قوة هذا الحق باقية معه إلى النهاية كما عبر عنها بنفسه قبيل رقاده إذ قال "إن الرب هو نور قلبي".
كان وليم كيلي في الرابعة والعشرين من عمره عندما تقابل لأول مرة مع يوحنا داربي، وكان قد استوعب هيكل التعليم الذي كان داربي يعلم به، وقد قبله كتعليم الروح القدس، وكان اكتشاف الخطأ التعليمي في اعتبار أن "الحقل هو الكنيسة" مفتاحاً للحق فأخذ يدرس بكل تدقيق أسفار الكتاب في السنوات اللاحقة حتى امتد نشاط إيمانه المسيحي إلى آفاق أوسع بكثير، وبالإيمان كرس مواهبه العظيمة وطاقاته الكبيرة لأجل خدمة المسيح.
كان وليم كيلي رجلاً علامة عميق الدرس والبحث، بليغ المنطق بلاغة نادرة مع سلامة الاستنتاج وقوة الإقناع وأصالة المبادئ وسمو الثقافة الروحية.
وصفه كاتب فرنسي كانت له عشرة طويلة معه بقوله "وليم كيلي علامة محقق، منطقي في تفكيره، فيلسوف في تعبيره" كما وصفه كاتب ايرلندي "بأنه تلميذ فذ"، فقد ظل طالب علم كل أيام حياته. لم يكن نافراً معتزلاً، ولم يكن غامضاً. ومع أنه كان يواصل نهاره بليله في الدرس لكنه كان أيضاً يجد لذة عميقة في شركة المحبة المسيحية وفي الخدمة العاملة تبشيراً وتعليماً. ولقد كان موضع تقدير واحترام كبير من أعضاء لجنة مراجعة وتنقيح العهد الجديد بسبب تحقيقاته ومراسلاته المتميزة بغزارة العلم مع البعض منهم وكان يعتبر ترجمة داربي الجديدة للكتاب المقدس أكثر دقة من تلك المعروفة باسم Revised Version التي راجعها وأسهم بتدقيق في تصحيحها على صفحات مجلته التي تحمل اسم "خزانة الكتاب المقدس" الشهرية، والتي كان يعتبرها الكثيرون المجلة الوحيدة التي تستحق القراءة.
هذه المجلة ظهرت في سنة 1856 وكانت مزدحمة الصفحات بكتابات شراح الإخوة الذين كان وليم كيلي أكثرهم لمعاناً وأغناهم حكمة روحية. هذه المجلة بما حوته من شروحات وتعليقات ودراسات تعليمية وموضوعات تعبدية كانت شهادة موثوقاً بها على مدى نصف قرن عن الحقائق المسيحية العملية المبعوثة من جديد. والحق أنها خدمة تحريرية فريدة في نوعها. وقد كان لقلمه منذ سنة 1841 نشاط من قبل ظهور هذه المجلة فقد نشر شرحاً لسفر الرؤيا في مجلة الأمل The Prospect التي كان يتولى هو تحريرها إلى غير ذلك من الموضوعات.
ولقد جمع وليم كيلي كتابات يوحنا داربي في المجموعة المسماة The Collected Writings of J.N.D. وهي تقع في أربعة وثلاثين مجلداً تضمنت محصول دراسات عميقة وبحوث مضنية لسنين طويلة، وفي لغات عديدة. وبهذا العمل أسدى وليم كيلي خدمة جليلة لكنيسة الله. وقليلون جداً إن لم نقل إنه لا يوجد أحد على الإطلاق قد أنجز مثل هذا العمل. كذلك اهتم وليم كيلي بإعادة نشر "ملخص أسفار الكتاب المقدس (The Synopsis)" بمجلداته الخمسة والتي كان يعتبرها وليم كيلي أفضل ما كتب داربي. على أنه كان يعتز جداً بكتابات داربي ويقدرها كثيراً ويروجها على أوسع نطاق كلما وجد لذلك سبيلاً. وكان في نفس الوقت يكنّ لداربي أعظم التقدير والإكرام، وإذا تكلم عنه فبعبارات تدل على عميق الحب والاحترام، ولو أن الشركة بينهما قد شابها بعض التصدع بعد خمسة وثلاثين عاماً من الصداقة السعيدة والخدمة القلبية المشتركة.
كان وليم كيلي يرى في داربي معلماً لا يدانى وحجة في شرح وتفسير الحقائق الكتابية التي طال بها العهد في طي النسيان. "اقرأ داربي" هكذا كان يقول وليم كيلي وظل يقولها إلى آخر أيامه.
وكتابات وليم كيلي هي موضوع اهتمام كل دارسي الكتاب ويقدر المؤمنون في كل مكان تعليقاته وشروحاته ويعتبرونها "عزاء وغذاء" جديرين بالاهتمام. هذه الشروحات بما فيها من تعليم وما تتميز به من سعة الأفق والتنوع ربما كانت بلا مثيل. ومحاضراته عن "سفر الرؤيا" هي مؤلف عظيم القيمة وعميق الفائدة الروحية. كذلك محاضراته عن "تعليم الروح القدس" وعن موضوع الأرواح "التي في السجن" وما كتبه عن "المجيء الثاني" و "شرح سفر اشعياء" (سنة 1895) و "نبوة دانيال" و "شرح إنجيل يوحنا" (1898) وشرح وسائل يوحنا وغير ذلك كثير مثل "في البدء" (1894) و "المسيح مجرباً ومترفقاً" (1871) و "صلاة الرب" 1850 و 1900. والرسائل الرعوية. و "أعمال الروح القدس" ورسالتا كورنثوس ومحاضرات عن "كنيسة الله" ومذكراته على "رسالة أفسس" وما كتبه أخيراً عن "وحي الكتاب المقدس" – هذه جميعها تزيد الدارسين علماً وإدراكاً روحياً للحق وفهماً صحيحاً لشخص ابن الله وعمله. كما تكشف عن غزارة علم وقوة إيمان مصنفها.
والمؤلف الأخير "وحي الكتاب" قصد به إظهار البرهان الدامغ على سمو وعظمة الوحي الإلهي وكمال الإعلان المتضمن في الكلمة من بدايتها إلى ختامها.
هذا كله قليل من كثير كتبه وأذاعه وليم كيلي مما يعتبر بحق تركة غنية جداً للمجتمع المسيحي. وكلها تحمل طابع الكاتب القدير الموهوب الذي يكتب بأسلوب ينساب إلى قلوب القراء وضمائرهم، وهو في نفس الوقت لا ينحاز إلى طائفة معينة من المعلمين أو ينتمي إلى مدرسة بذاتها لها منهاج تعليمها، بل يتمسك بالإيمان بكلمة الله وبإرشاد الروح القدس. وهكذا يعلم المؤمنين.
كان هدفه تحقيق النمو في النعمة ومعرفة ابن الله وتجهيز اللبن "العديم الغش" للأطفال في الإيمان، و "الطعام القوي" للبالغين لأجل نمو الجميع "إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح". كذلك كان يسعى إلى توصيل فاعلية الكلمة إلى مفارق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، وتطبيق ما يتعلمه المؤمنون تطبيقاً عملياً، شهادة للمسيح ولأجل مجده. كان بين المؤمنين من "الآباء" إذ عرف الذي من البدء كما كان مرامه أن يعلم أناساً أتقياء لكي يكونوا قادرين أن يعلموا آخرين أيضاً.
وأغلب كتب وليم كيلي في شكل محاضرات. فإنه كمحاضر كان ممتازاً جداً. وإذا تكلم جهاراً كان خطابه سهلاً وفي نفس الوقت كان مؤثراً. لم يكن في كلامه يستعرض معلوماته وإنما كان يعطي تعليماً راسخاً وقوياً. وما أندر المناسبات التي كان فيها يكشف عن مكنونات قلبه وعقله فينبهر بها آخرون.
كان ذا شخصية جذابة ولطيف المعشر، وحيثما توجه كان يتعب في خدمة الإنجيل بغيرة شديدة، كما كتب كثيراً وبتوسع عن مضامين الإنجيل. وكتبه: "مولودين من الماء والروح" و "الرسول في أثينا" إنما هي صفحات يستعرض فيها ما هو عمل المسيح وفعل النعمة وما في ذلك من بركة للإنسان ومجد الله. في هاتين النبذتين نجد أروع كتاباته التبشيرية.
كان يرى مثل مستر داربي أن الشعر (وليست الترانيم) هي مجهودات العقل البشري ليخلق بالخيال مجالاً لما وراء المادة، الأمر الذي يعطيه الإيمان كحقائق. مشيراً إلى شعر ملتون وتنيسون وكتابات كوبر الشعرية. وقد ذكر أن الشباب هم أكثر الفئات تأثراً بالشعر، حتى أن بعض المؤمنين لهم اهتمام بالشعر أكثر من حقائق الكتاب التي يمسك بها الإيمان.
كتب وليم كيلي بعض الترنيمات الجميلة التعبدية، وكثيراً ما كان يندد بضعف الإيمان عند المسيحيين إذا ما قورن بقوة وضخامة الإيمان عند الأوائل. وكان يتألم لتفشي الروح العالمية بين المؤمنين، وحاجتهم إلى التكريس وسعيهم وراء المادة، واتجاههم إلى الأمور العقلية. وكانت تعاليم البابوية تحز في نفسه وكان هدفه دائماً، كما شرح في سفر الرؤيا أن يخلص النفوس من تلك التعاليم. وكم كان أسفه لما لاحظه من عقبات تقوم ضد النور المسيحي في المحيط الجامعي وفي النظريات الإلحادية، وكان يخشى كثيراً على قادة المسيحية في المستقبل، وكان يعتبر أن الحاجة العظمى هي إلى الإيمان الحي بالله وبكلمته. قائلاً إن داود أظهر أفضليته على سيلمان بغلاوة تقديره لقيمة التابوت لأن الإيمان دائماً هو أفضل من الحكمة. وكان يقول أيضاً إن الحالة اللاودكية نشأت من احتقار الشهادة التي كانت لكنيسة فيلادلفيا – أي احتقار الحق الخاص الذي على أساسه تكونت تلك الكنيسة وهو حفظ كلمة صبر المسيح وعدم إنكار اسمه. ومرة قال لم أحدهم "أنك تستطيع أن تعمل لنفسك ثروة طائلة، ويمكنني أن أستخدم نفوذي لمساعدتك". فأجابه كيلي "هل لأجل هذا العالم أم للعالم الآخر؟ وماذا تستطيع أن تعمل لأجلي أكثر مما عمله الرب يسوع المسيح؟" إنه بكل أسلوب وبكل ثمن تجنب روح لاودكية.
انفصل كيلي عن الكنيسة الوطنية The Established Church عام 1841 وخرج إلى المسيح خارج المحلة حاملاً عاره. واستمر متمسكاً بالحق كل أيامه، وحتى بعد حدوث الانقسامات المحزنة فإنه لم يقطع شركته مع الأخوة المتقدمين الأوائل، لكنه بكل وسيلة تمسك بالمبادئ الأولى وكان قاسياً جداً في إدانة كل انحراف عن الحق سواء أكان كنسياً أو تعليمياً بين الأخوة أو بين أية جماعة غيرهم. كان ينذر كما كان يسند، وكان يوبخ كما كان يشجع، وكثيراً ما كان أسلوب التهكم المر هو سلاحه الفعال لتطبيق الحق.
ومن البدء حتى ختام حمل مشعل الشهادة العملية لحقيقة الجسد الواحد، ووحدانية الروح، والانفصال لاسم وشخص الرب يسوع المسيح، منتظراً مجيئه. وقد كان كيلي من أسعد المؤمنين. لقد اختبر أحزان وأفراح الطريق، وقد كتب مرة يقول "وأخيراً فإن نصيبنا هو خفة الضيق إذا ما قورنت – لا أقول بآلام ذاك الذي ما تألم أحد مثله قط – إذا ما قورنت بآلام الرسول – وهو إنسان تحت الآلام مثلنا – فأية آلام بقيت دون أن يتألم بها من اليهود أو من الأمم أو من كنيسة الله؟"
ولقد تزوج في المرة الأولى من مس مونتجمري، وفي المرة الثانية من ابنة مستر جيبس من هيرفورد، وقد اتسمت الأخيرة بقدرات روحية وطبيعية وكانت عوناً لزوجها إذ ساعدته كثيراً. وتميزت مثله بانها كانت ضليعة في اللغات، وسعة الإطلاع، كما ترجمت حوالي نصف المزامير وقد ترجم كيلي الباقي وفي السنة الأخيرة نشرها كذكرى خاصة لزوجته. وقد رقدت في الرب في سنة 1884.
كانت مكتبته تضم 15000 مجلد، حوت صوراً طبق الأصل لمخطوطات للكتاب المقدس، وبلغات عديدة، كما ضمت فروعاً كثيرة في العلم والفلسفة والتاريخ، وتميزت بثرائها في كتب الأدب الكلاسيكي، والتاريخ الكنسي، واللاهوت وموضوعات نادرة لها علاقة بالأبحاث الكتابية. وقد أهدى مكتبته هذه إلى مكتبة في يوركشير لتكون عوناً لكثيرين في عمل الله.
ولقد كرس وليم كيلي وقتاً كثيراً وجهداً كبيراً للمراسلات، خادماً للجميع، متعلمين وجهلاء على السواء. وكل سطر خطه قلمه كان يحمل إرشاداً واضحاً وبياناً يعتمد عليه، ومشورة صادقة، وتشجيعاً مسيحياً. وجميع هذه كانت تصاغ في عبارات منتقاة ومعبرة. لقد كتب مئات من الخطابات وهي تشهد لهذه الخدمة التي كان يحرص على أن تحقق أكبر قدر من الفائدة، منفقاً فيها نفسه لأجل الرب وخير شعبه، تاركاً النتائج للرب وحده. ولكنه كان شاكراً دائماً لأجل الثقة ولأجل عواطف المؤمنين في كل مكان. وقد كان له أحباء معجبون به في الأوساط الاجتماعية الراقية وكان منهم كثيرون يحرصون على مطالعة كتاباته، وقد عرفوا فيه علمه الغزير وتفانيه وإخلاصه. فإن صداقة مثل هذا الخادم الأمين كانت امتيازاً. والثقة فيه كانت شيئاً غالباً. وكل من عرفه كان لا بد أن يحبه.
مرت الأيام والسنون السعيدة في خدمة غزيرة مثمرة إلى أن كان شهر مارس 1906 وفي منزل صديقه الدكتور هيمان ريفورد في أكسينز حيث كان ينزل ضيفاً عزيزاً ليستريح بعض الوقت، هناك "رقد بيسوع" في اليوم السابع والعشرين من الشهر. وهكذا ختمت صفحات من الخدمة الفذة الفريدة في نوعها والتي سيبقى أثرها زماناً طويلاً في قلوب كثيرة مؤمنة.
ونقل جثمانه إلى مدافن شارلتون حيث دفن قريباً من جثمان زوجته الثانية التي رقدت في الرب في سنة 1884.
في يوم 31 مارس 1906 تم دفن الجثمان وقد التف حوله ما يقرب من خمسماية من أحبائه الحزانى. وصلى الدكتور ريفورد ثم رنم الحاضرون ترنيمتين: الأولى مطلعها "مع الرب كل حين" والثانية مطلعها "أمامك نجثو يا مخلص النفوس" ثم تكلم الدكتور ريفورد بكلمات مختصرة تعليقاً على أع 20: 25 مقدماً الشكر الكثير على عطية الله لكنيسته في وليم كيلي، ومعبراً عن حزنه لأنه لن ير وجهه أيضاً هنا، وقرأ 1 تس 4: 13 – 18. ثم قرأ أحد الإخوة (مستر مور) مزمور 91: 1 مع عددي 16 و 17 من مزمور 90 ذاكراً محبة وليم كيلي وتعبه لأجل الرب متذكراً من كلمات وليم كيلي "حقائق" كان يؤكدها قبيل رحيله إذ قال "إن الصليب حقيقة أكيدة، وعداوة العالم حقيقة أكيدة ومحبة الله حقيقة أكيدة أيضاً" ثم ختم المشهد بصلاة رفعها الكولونيل بيني (Binny) وانتهى حفل الوداع "إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال".
- عدد الزيارات: 3570