دعوة العروس
تكوين24
الإصحاح الرابع والعشرون من سفر التكوين له تأثير عميق على المسيحي إذ تتضح فيه الصورة الإلهية لمشغولية أقانيم اللاهوت في أيامنا الحاضرة هذه.
إن المشغولية بالخدمة والسهر الدائم ضد العدو والصراع لأجل الحق، مما تستلزمه حاجة العالم وازدياد فساد المسيحية وفشل شعب الله، كثيراً ما يستحوذ على أفكارنا، وفي مرات عديدة ننسى ما يمكن أن يعمله الله بالرغم من قوة العدو والتشويش والفشل. ولا شك أنها رحمة ليست قليلة أن يهبها هذه الصورة الجميلة لنرى أغراض الأقانيم الإلهية وعمل كل منهم. ولذلك فعندما نغض الطرف عن الإنسان وفشله فإن نفوسنا تُسّر بالله وبغرضه، ونهدأ ونستريح إذ نتيقن بأن مقاصد الله لابد وأن يتممها بالرغم من الفشل والمقاومة.
ولكي ما نعي التعليم الرمزي لهذا الإصحاح فلابد أن نفهم الارتباط بين هذا النص وما يسبقه وما يليه من إصحاحات. إن إصحاح24 يمثل جزءاً من ختام فصول حياة إبراهيم الذي يبدأ من إصحاح22 وينتهي بإصحاح25 وعدد10. فالأجزاء الأولى ترينا حياة الإيمان لإبراهيم كفرد ولكن في الفصول الأخيرة نرى طرق الله التدبيرية. في ص22 يُقدّم إسحق ويقبله إبراهيم خارجاُ من الموت رمزياً- وهو مثال لموت وقيامة المسيح. وبعد تقديم اسحق نرى في ص23 موت سارة وإبراهيم "كغريب ونـزيل" (ع24) في أرض مصر وكل هذا رمز لاستبعاد إسرائيل كأمة بعد موت المسيح مع أن لها الموعد. وفي دعوة رفقة ص24 نجد رمزياً دعوة الكنيسة كعروس المسيح أثناء استبعاد إسرائيل. وفي 25 تُستكمل الصورة بزواج إبراهيم واستحضار أبناء الزوجة الثانية وهذا رمز لرجوع إسرائيل والبركة الألفية للأمم.
ولنحضر أفكارنا الآن في ص24، إذ نرى صورة للسر العظيم للمسيح وكنيسته. نجد قصد الله والطريق الذي يتخذه لتتميم هذا القصد. وعلى كل حال فلنضع في أفكارنا أن قصد الله يرتبط بالكنيسة منظوراً لها كعروس المسيح. وكما رأينا أن هذا الوجه من الكنيسة يستحضر قصد الله الذي فيه يقيم غرضاً كاملاً ومتناسباً لمحبة المسيح. وفي هذه الصورة نرى دعوة العروس، وزينة العروس التي تحلّت بها، واستحضار العروس للعريس وهي في تمام المناسبة لنفسه. إن هذا التوافق الأدبي مع قلب المسيح والتجاوب مع محبة المسيح هي الأفكار البارزة التي تميز الكنيسة كعروس.
كنا قد رأينا حواء في الخليقة وهي تتكلم عن عروس المسيح. أما اسحق ورفقة فبعد ثمانية عشر قرناً تتحدث مرة أخرى عن قصة المسيح وعروسه. إن هناك اختلافاً بينهما فليس في الكتاب مجرد تكرار، ففي حواء نرى عروساً كنتيجة كاملة لعمل إلهي الذي كوّنها وأحضرها إلى آدم. أما في رفقة فنرى تدريب العواطف لدى العروس والمحبة في نشاطها كما يستحثها العبد. فإن كانت حواء تخبرنا عن عمل إلهي لإحضار العروس فإن رفقة تتحدث عن عمل إلهي في العروس.
يُفتتح الإصحاح بالوصايا التي يعطيها إبراهيم لعبده (ع1- 9) والفكرة الرئيسية في الإصحاح تدور حول العبد وإرساليته (ع 10- 61) وفي النهاية يختم باسحق ومحبته لرفقة (ع62- 76). وبهذه الصورة الرمزية نجد في الجزء الأول الآب وقصده، وفي الجزء الثاني الروح القدس وعمله، وفي الجزء الأخير المسيح وعواطفه. ولذلك نرى بالرمز مشغولية كل أقنوم من أقانيم اللاهوت لضمان العروس.
نتعلم أولاً أن فكرة العروس لإسحق نبعت أساساً من إبراهيم، فهو الذي يبدأ القصة في تكوين 24. إنه يعلن فكره عن عروس لإسحق ويوصي عبده ويرسله في طريقه. ولذلك نتعلّم أن فكرة عروس للمسيح نبعت من مقاصد قلب الآب. إنه أيضاً هو الآب الذي أرسل الروح لاستحضار العروس للمسيح (يوحنا14: 26).
والعدد الثاني يستحضر أمامنا ذاك الذي بدوره النشيط يُكوّن الجزء البارز في القصة "عبده كبير (أو شيخ) بيته". وفي تمام المناسبة أن لا يُذكر اسمه أفليس في ذلك رمزاً للروح القدس الذي أتى، إنه لا يتكلم من نفسه بل يأخذ مما للمسيح ويخبرنا؟.
إن أعمال ونشاط الروح القدس في هذا العالم كثيرة ومتنوعة، ولكن في هذا الإصحاح فإن الروح القدس يُستحضر كمن يأتي بالعروس إلى النور، ميقظاً عواطف العروس بإعلان أمجاد المسيح، ثم مُشبعاً تلك العواطف بقيادتها للمسيح.
إن التوجيهات التي قيلت للعبد لها أهمية بالغة وغنية بالتعليم لنفوسنا:
1-إن عروس اسحق يجب أن تتناسب مع اسحق ولذلك لا يجب أن تؤخذ من بنات الكنعانيين (ع3) فمثل أولئك هم تحت الدينونة ولذلك فالأمر لا يتناسب مع اسحق كلية. وهذا يرينا أن التعامل مع رفقة ليس هو بالضبط صورة لنعمة الله التي تستحضر الخلاص للخطاة بل بالحري محبة المسيح المتجهة للقديسين. ليست المسألة هنا نعمة الله التي تدرك أشر الخطاة وإلا كانت بنات الكنعانيين هن اللواتي كان يجب أن يُرسل إليهن العبد لتبليغ قصة الإنجيل،وهذا يتضح فيما بعد عندما اتخذ الله المرأة الكنعانية من صرفة صيدا لإظهار نعمته.
2-وبالتالي فإذا كان يجب أن تصبح العروس مناسبة لإسحق فيلزم أن تكون من عشيرة إسحق، وهكذا كان التوجيه للعبد "بل إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق" (ع4). لقد لاحظنا من قبل أن التي كانت مناسبة كعروس لآدم لا بد أن تكون نظيره، ولكن ما تكون هذا النظير كان لا بد أن يجتاز آدم نوماً عميقاً، وهكذا كان اسحق بالرمز يجتاز الموت- إذ يُقدّم على جبل المريا- قبلما يضمن عروس من أرام النهرين. كذلك المسيح الشخص العظيم المرموز إليه، حبة الحنطة الثمينة. كان يجب أن يقع في الأرض ويموت وإلا صار وحيداً إلى الأبد، عندما صارت نفسه ذبيحة إثم فنقرأ "يرى نسله". الموت الذي يقطع الإنسان من كل رجاء في النسل، هو بعينه صار الطريق الذي يضمن به المسيح نسله. ونسله يصبح نظيره وعشيرته، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. ولذلك نرى عروس المسيح تتألف من أولئك الذين صاروا مناسبين له بواسطة العمل الإلهي لإحضارهم هكذا في علاقة بالمسيح كعشيرته من خلال العمل الإلهي فيهم. وأمكن للرب وهو على الأرض أن يقول "أمي وإخوتي الذين يسمعون كلام الله ويعملونه" (لوقا8: 21).
3-ويحذر إبراهيم العبد مرتين بألا يرجع بإسحق مرة أخرى إلى أرام النهرين (ع6و 8). وإسحق في هذا الإصحاح يرسم أمامنا المسيح السماوي. وبعد تقديم إسحق في ص 22 لا يُذكر اسمه حتى نهاية ص 24. وكما أن إسحق لا يعود يرتبط بأرام النهرين، هكذا ليس هناك ارتباط بين المسيح والعالم إذ أن المسيح في الأعالي والروح القدس هنا يدعو العروس للمسيح السماوي. ولكن وآسفاه فقد فقدت المسيحية تماماً اليوم كل فكر حقيقي عن المبادئ المسيحية، وصار عملها الأساسي أن تربط المسيح بالعالم الذي قتل المسيح. وإذ جهلوا الحقيقة بأن المسيح هو الحجر الذي رفضه البناؤون من هذا العالم، فإنهم يسعون أن يجعلوا المسيح هو حجر الزاوية لأنظمتهم الدينية الأرضية العظيمة، وقد ربطوا اسمه بأبنيتهم الدينية الفاخرة ووسائل الإصلاح وأعمال الخير للإنسانية وأنظمة الحكم. وبالاختصار فإنهم يعملون مجهودات جبارة لإرجاع المسيح إلى العالم وربط اسمه بالمخلصين وغير المتجددين من هذا العالم بأمل إصلاح الناس وجعل العالم الذي يعيشون فيه مكاناً أفضل وأكثر إشراقاً. وليس من صعوبة مثل محاولة تغطية صفات الشر التي يتصف بها العالم باحترام خارجي وربط هذه المحاولات باسم ذاك الذي رُفض وسُمّر على الصليب.
وعلى كل حال فإن المؤمن المتعلم في كلمة الله يعرف من تعليم العهد الجديد ومن رموز العهد القديم أن الروح القدس هنا لا لكي يُحضر المسيح إلى العالم بل ليأخذ عروساً من هذا العالم للمسيح، فنقرأ: "كيف افتقد الله أولاً الأمم ليأخذ منهم شعباً على اسمه" (أع15: 14).
4-وفي النهاية قال إبراهيم "الرب إله السماء.. يرسل ملاكه أمامك" (ع7). فالملاك كان عليه أن يوضح الطريق أمام العبد، أما العبد فكان عليه أن يتعامل مع العروس "تأخذ زوجة لابني". وكل من العبد والملاك كان مشغولاً في ضمان العروس لإسحق. وفي يوم آتٍ نعلم أن جماعة عظيمة من الملائكة ستُجري القضاء في العالم، ولكنهم اليوم مرسلون للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص. ومن جهة رمزية تتضح لنا تلك الحقيقة الاختلاف بين عمل الملائكة تدبيرياً والعمل الشخصي للروح القدس. قاد ملاك الرب فيلبس في طريقه إلى صحراء غزة أما الروح فقاد فيلبس لكي يتعامل شخصياً مع الخصى (أع8: 26و 29).
ومن الواضح أن التوجيهات المعطاة من إبراهيم إلى عبده نتعلم منها الإرسالية العظمى للروح القدس في هذا العالم. إنه ليس هنا لكي يجعل المسيحي مزدهراً في شغله أو يجعلنا أثرياء في هذا العالم أو لجعل العالم مكان راحة لنا. إنه ليس هنا لإزالة اللعنة أو لتسكين أنين الخليقة. إنه ليس هنا لكي تفرح البرية وتزهر كالنرجس، لم يأتِ لإزالة الألم والموت والحزن والدموع فكل هذا سيفعله المسيح في يوم قادم، وليس هو هنا لكي يجدد العالم كما يظن البعض. ولكنه هو هنا لكي يستحضر إلى النور أولئك الذين هم مناسبين للمسيح لفرح وشبع قلبه.
وبحسب التعليمات المعطاة للعبد لم نجده يتدخل في الأحوال السائدة في أرام النهرين. لم يحاول أن يبدل ديانتها أو يُحسن أحوالها الاجتماعية أو يتدخل في حكومتها. كان عمله الوحيد أن يضمن عروساً لإسحق وكم سيجعل شعب الله يودع القنوط والفشل إذا تحققوا من غرض الله العظيم في الوقت الحاضر والإرسالية الخاصة للروح القدس في هذا العالم.
وغالباً ما يُحبط المؤمنون إذ يرغبون أن يعملوا عملاً عظيماً للرب فيجدوا أنفسهم متروكين لعمل هادئ في ركن خفي فيصيبهم الإحباط. وقد يشعروا بهذا الإحباط أيضاً عندما يجدوا أنفسهم سائرين في رفقة قليلة من القديسين. إنهم يأملون من الله في تجديد عدد كبير وأن تصبح مجموعتهم الصغيرة لها شهرة كمركز للبركة مع مصادقة الرب العلنية ولكنهم بدلاً من ذلك يجدون الضعف والفشل حتى مع هذه المجموعة الصغيرة. وهكذا أيضاً نفشل مع شعب الله عموماً. وربما تكون لنا رؤى لتجميع هذه الكِسَر الممزقة من شعب الله للسير في الوحدة والمحبة ولكننا نجد بدلاً من ذلك النـزاعات والتفسخ فتزداد إحباطاً.
وربما يضع شعب الله آمالاً عظيمة على العمل التبشيري. فبعد قيام آلاف الإرساليات التي عملت في كل بقاع العالم فإنهم توقعوا هدم حصون الوثنية وغيرها أمام نور المسيحية ولكنهم وجدوا أن هذه الأنظمة الخاطئة يصعب أن تمسها وهكذا يشعر المؤمنون بالإحباط.
ومرة أخرى ظن آخرون أنه بعد تسعة عشر قرناً من نور المسيحية فإن العالم سيرتقي أدبياً، ولكنه بدلاً من ذلك يرون مجتمعاً فاسداً يسود فيه الشر وغير مستقر عموماً ولذلك يفشلون.
ولكن لو تباعدنا عن أفكارنا الشخصية وارتقينا إلى الفكر الإلهي فلن نُحبط. فتوقعاتنا غالباً ما تكون محدودة للغاية ونظرتنا أيضاً مقيدة. ونحن نفكر في اللحظة الحاضرة ونتطلع إلى الأشياء المنظورة، ولكن ليتنا نتطلع إلى ما وراء الليل المظلم البهيم ونحيي اليوم الآتي. ولننظر إلى الغاية العظمى لعمل الله خارج حطام هذا العالم وخرابه. إنه يضمن عروساً تكون مناسبة لمحبة المسيح. ويا له من فكر عظيم أن روح الله هنا يُنشئ تلك العواطف العرسية في قلوب المؤمنين بالنظر إلى ذلك اليوم- اليوم العظيم- يوم عرس الخروف.
ولهذه الغاية يرسل الآب الروح، ولهذه الغاية يعمل الروح في الأرض. ولهذه الغاية ينتظر المسيح في السماء. فهل يفشل الآب والابن والروح في هذه الغاية العظمى؟ وهل تُحبط الأقانيم الإلهية في تحقيق غرضها العظيم؟ مستحيل! إن كل أغراض الله لها تتميمها المجيد. ونحن لن نفشل إذا كانت لنا أفكار الله مع الله ونحفظ غرض الله العظيم وهو عرس الحمل.
نأتي إلى الجزء الثاني من الإصحاح (ع10- 61) إذ نجد تعليماً عميقاً في الطريق الذي سلكه العبد لتتميم إرساليته فقد أتى إلى أرام النهرين وهو مجهز تجهيزاً تاماً لخدمته "وجميع خيرات مولاه في يده" (ع10) مذكراً إيانا أن الروح القدس قد أتى ليعلمنا "كل شيء" ويقودنا إلى "كل الحق" ولكي ما يرينا "كل الأشياء التي لدى الآب".
وعندما وصل إلى أرام النهرين فإن العبد يقوم بإرساليته بالاعتماد على الله ولذلك رأيناه يصلي. وترينا صلاته كيف أنه كان منحصراً في غرض واحد. إنه لم يصلي لأجل نفسه ولم يذكر بنات أهل كنعان في صلاته. ولكنه صلّى أن يُقاد إلى تلك التي تعيّنت لإسحق. وجيد أن نلاحظ أن العبد لم يكن هناك ليختار عروساً من بنات المدينة فيجعلها مؤهلة لإسحق بل إنه كان هناك ليجد من تعيّنت لإسحق. والعلامة لكونها المُعيّنة أنها تتصف بالنعمة. وهذه هي قوة الصلاة "فليكن أن الفتاة التي أقول لها أميلي جرتك لأشرب فتقول اشرب وأنا أسقي جمالك أيضاً هي التي عيّنتها لعبدك اسحق" (ع14). إنه طلب من الله أن يُسمح له بالشرب من جرتها فإذا لم تكتفي بطلبه هذا بل تطوعت لأن تفعل أكثر من ذلك فهذه هي العلامة على أنها تميزت بخصائص نعمة الله. فهذا هو عمل الله فيها، ولذلك حُسبت من عشيرة اسحق. فالنعمة تتجاوز أكثر من طلبنا (مت5: 38- 42).
وحدث أن رفقة التي هي من عشيرة اسحق أنها أُحضرت إلى النور. وإذ وجدنا العروس المعينة فإن العبد ميّزها عن الجميع بأن ألبسها الخزامة والسوارين الذهب. فاليد والوجه تشهدان لنعمة الله (ع22).
وكانت هذه فقط هي بداية عمل العبد، فلم ينطق بكلمة بخصوص اسحق. إن إبلاغ الرسائل يعتمد في الدرجة الأولى على الترحيب المُقدّم للعبد، فإذا رُحّب به فإنه سيتكلم إليهم عن اسحق، ولن يفرض ضيوفه على رفقة "هل في بيت أبيك مكان لنا لنبيت؟" (ع23).
أما إجابة رفقة فكانت مباركة جداً وتعلو فوق طلب العبد. إنه طلب فقط "مكان" ولكنها قالت عندنا "طعام (أو مؤونة) كثير ومكان" (ع25). وأمكن للإبان أن يقول أيضاً للعبد "ادخل يا مبارك الرب لماذا تقف خارجاً؟" ولذلك نقرأ "فدخل الرجل إلى البيت".
هل استطعنا الآن أن نميز في هذا الجزء من القصة سر بطء تقدمنا في معرفة المسيح ولماذا تكون عواطفنا عادة باردة. إننا نعوق ونُحزن ذاك الذي وحده يؤثر بقوة على قلوبنا بمحبة المسيح. إنه الأقنوم الإلهي المعزي الذي أتى من عند الآب ومن المسيح ومن السماء. ولكن هل نرحب به؟ وهل له "مكان" عندنا؟
إنه حسن أن نسأل أنفسنا هذا السؤال العظيم "هل من مكان؟" وهل أعددنا أنفسنا كمكان للروح القدس؟ إن الجسد والروح كليهما "يقاوم أحدهما الآخر" (غل5: 17) ونحن لا نستطيع أن نُضيف الروح إن كنا نخدم الجسد. ومن المستحيل أن نقيم مكاناً للروح ونحن منصرفين للجسد وشروره. فهل نحن مستعدين أن نرفض الجسد وشهواته لنفسح المكان للروح فيقودنا إلى أمور الله الأبدية العميقة؟ وهل نحن نمد الجسد بمؤونة لتتميم رغائبه أم أننا نهيئ مكاناً ومؤونة للروح؟ إن "المكان" و "المؤونة" كانا في بيت بتوئيل عبد إبراهيم والنتيجة أن العبد استطاع أن يتكلم عن اسحق ليربط عواطف رفقة باسحق ويقودها إلى اسحق.
وبالدخول إلى البيت (ع32) فإن أول شيء قام به العبد أنه شهد لإسحق. إنه أعلن فكر سيده بخصوص اسحق، وإذ فعل ذلك أخذ من الأشياء التي لإسحق وأراها لرفقة. لقد تحدث عن كل ثروة بيت سيده، ثم قال أن كل هذه الثروة أُعطيت لإسحق "فقد أعطاه كل ماله". وهل نعرف نحن جيداً أن كل ما للآب أعطاه للمسيح كما قال الرب "كل ما للآب هو لي"، وعندما تحدث عن الروح القدس أضاف: "إنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو16: 15).
ونسأل ما تأثير هذه الشهادة عن اسحق التي سمعتها رفقة؟ هل ازدادت معرفتها لإسحق؟ لا شك أن هذه كانت إحدى النتائج، ولكن كان هناك أكثر من ذلك كثيراً إذ أيقظت فيها المحبة لإسحق. وعندما استيقظت المحبة فيها أن العبد أخرج آنية فضة وآنية ذهب وثياباً وأعطاها لرفقة كما أعطاها أشياء جميلة تتحلى بها من عند اسحق. وهكذا أيضاً يتعامل معنا الروح، إذ يُظهر لنا فكر الآب بخصوص المسيح. إنه يأخذ مما للمسيح ويريه إيانا ولذلك يوقظ المحبة للمسيح ثم يأتينا بالأشياء الجميلة التي للمسيح إذ يجعلنا شهوداً لمحبته الفادية وهي آنية فضة، وشهوداً للبر الإلهي فهي الذهب وشهوداً للقداسة العملية وهي الثياب.
ثم نرى بعد ذلك عمل الروح. كان العبد قد وجد العروس التي من عشيرة اسحق، فميزها عن كل البنات بأقراط الحلي والسوارين وأيقظ عواطفها لإسحق كما أعطاها أشياء جميلة من اسحق. والآن يقودها إلى اسحق (ع54- 60).
قال العبد "اصرفوني لأذهب إلى سيدي". كان قد أتى إلى أرام النهرين ليأخذ العروس وبعدما أتم هذه الغاية أراد الانصراف. إنه لم يأتي ليتعطل ويبقى في أرام النهرين. إن فكر العبد أن يتخذ العروس ثم يترك المشهد ويرجع إلى سيده. إنه لم يحصل على العروس ليبقيها في بيتها القديم، بل بعدما حصل عليها يقودها إلى بيتها الجديد. وكان أمراً مباركاً أن يجعل لرفقة نفس الفكر. كان يتوق إلى الرحيل والوصول إلى اسحق وأوجد أيضاً نفس الرغبات في قلب رفقة. أراد أن ينصرف وكذلك رفقة أيضاً. أما أهلها فإن كانوا قد عرفوا رغبته في أن يذهب العبد إلى سيده ولكنهم أرادوا أن تتعطل رفقة على الأقل عشرة أيام. ولذلك دعوا الفتاة وسألوها شفاهاً لكي يكتشفوا مدى تأثير العبد عليها وكيف أن فكره قد شكّل فكرها، فهو قد تاق للرحيل وكانت هي أيضاً مستعدة لذلك.
فإذا سمحنا للروح القدس أن يتخذ طريقه فينا ولم نعوقه فإنه يشكّل أفكارنا بحسب فكره. نفكر مثلما يفكر هو عن المسيح، ونخلع قلوبنا عما ليس للمسيح وأن نرتبط بالمسيح حيث هو الآن.
لم تكن رفقة يتيمة بل كان لها الأب والأم والبيت في أرام النهرين مع ثروة وممتلكات في أرض ميلادها. ولكي ما تتمتع بهذه البركات لم تكن في حاجة لترك أرض ميلادها وتواجه رحلة البرية. وبالرغم من كل هذا تركت الكل ونسيت شعبها وبيت أبيها وواجهت رحلة البرية لتصل إلى شخص لم تراه. فهذه هي القوة الجبارة الجاذبة لشخص عندما يستيقظ فيه الإيمان والعواطف.
وبنفس الطريقة فإن الروح القدس قد أتى ليستحضر قلوبنا تحت التأثير لمحبة المسيح التي تحصرنا، إنه هنا ليأخذ مما للمسيح ويرينا إياه. إنه هنا ليقودنا إلى أمور الله العميقة- الأشياء التي قيل عنها "لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر". إنه قادر أن يشددنا في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا ونحن متأصلون ومتأسسون في المحبة لنستطيع أن ندرك مع جميع القديسين ما هو الطول والعرض والعمق والعلو، ونعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة.
كل هذا هو قادر ومستعد أن يفعله. فلماذا نحن قليلي الالتصاق بالمسيح وعواطفنا ضعيفة من نحوه؟ ألسنا متعوقين؟ قال العبد "لا تعوقوني" أفلا يجب أن يكون هذا الصوت قوي لنا، قد نقول لا يمكننا أن نتمتع بهذه الأشياء بعيداً عن عمل الروح وليس بمقدورنا أن نقوم نحن بعمل الروح، هذا صحيح ولكن للأسف فإننا نعوق عمل الروح فعندما نلتصق بالعالم وبسياسته وبمعتقداته الدينية ومسراته، عندما نستغرق في الأشياء حتى الصحيحة- المدينة والعشيرة وبيت الآب- فنحن نعوق الروح القدس.
وسواء سمحنا للعالم أن يعوقنا أم لا فهذا يعتمد لا على العالم بل على أنفسنا. لقد أراد الأخ والأم أن تبقى رفقة معهم أياماً، وهذا جعلهم يقولون "ندعو الفتاة ونسألها شفاهاً". فإذا كانت إجابتنا مثل رفقة "أذهب" عندئذ يؤثر الروح بقوة شديدة في قلوبنا حتى أن كل قوة وجاذبية العالم لا تقدر أن تعوقنا.
وبعد ذلك "قامت رفقة... وتبعن الرجل". لقد وضعت نفسها تماماً تحت قيادة الرجل، والنتيجة "فأخذ العبد رفقة ومضى" (ع61). لم يكن طريقها بل مضت في طريقه. ونحن لسنا دائماً مستعدين أن نمضي في طريق الأرواح لأنه طريق يضاد إرادة الجسد تماماً. ولذلك نفعل حسناً إذ نتذكر أن اتباع قيادة الروح لا يعني ما يسمى بالنور الداخلي، بل إن اتباع الروح هو السير بحسب المكتوب. إن الروح لا يقود بعيداً عن الكلمة ولا مضاداً للكلمة.
والنتيجة المباشرة لاتباع الرجل أن رفقة وجدت نفسها في مشهد البرية، فلم يعد لها بيت لابان ولا بيت اسحق. وهكذا مع نفوسنا كما قال واحد "ليست لنا بعد الأرض التي نحن فيها، ولا السماء التي سنذهب إليها". وعلى كل حال فقد سارت في رحلة البرية حوالي 400 ميل وأمامها مشهد براق، ومعهما في الطريق العبد الذي يتحدث إليها عن أمور اسحق ويريها لها. وفي النهاية فإن الشخص الذي اكتسب قلبها كان ينتظر وصولها لكي يأخذها لنفسه.
وفي ختام هذه القصة الجميلة يأتي اسحق شخصياً ويتبدى في المشهد. وفي كل مشاهد البرية لم يكن اسحق يتخذ دوراً ملموساً مع أنه لم يكن غير مدرك لكل ما حدث. إنه أتى من بئر لحى رئى- وهي كلمة ذات معنى عميق أي بئر ذاك الذي هو حي ويُرى (تك16: 14). وكم هو حلو أن نعرف ونحن سائرين في الطريق أنه في نهاية الرحلة سنجد ذاك الذي لم يكن غير مبالٍ بشعبه. إنه يرى ويحيا- نعم والكلمة هي "حي في كل حين" أو "حي إلى الأبد" (عب7: 25).
وبعد ذلك أتى اسحق لملاقاة رفقة، فسألت: "من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟"
نحن نسافر إلى هذا الاجتماع العظيم ولكن ليتنا لا ننسى أنه سيأتي للقائنا. والصورة تستحضر اسحق كمن كان ينتظر ويطلب عروسه. إن رغباتنا من نحو المسيح غالباً ما تكون ضعيفة ولكن أشواقه من نحو عروسه إذ يقول "إن مضيت آتي أيضاً وآخذكم إليّ".
إن وقت الاجتماع هذا ليس بعيداً ففي النهاية ترفع رفقة عينيها وترى اسحق فنـزلت عن الجمل إذ انتهت الرحلة. وفي النهاية عندما نراه وجهاً لوجه تكون الرحلة قد انقضت. ولن يطول السفر فالليل انقضى والنهار وشيك. وإذ تأتي اللحظة فإن اختطافنا لن يطول فهي طرفة عين ونكن هناك.
وبعد لقاء رفقة أخذت البرقع وتغطت. وهيأت العروس نفسها وتم العرس. "وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها". هكذا أيضاً بعد أن نصل إلى نهاية رحلة البرية، بعد الاجتماع العظيم عندما نراه لأول مرة وجهاً لوجه ويأخذنا لنفسه، نقرأ "عرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها". وستُستحضر الكنيسة للمسيح بكل مجدها ولا دنس فيها ولا غضن ولا شيء من مثل ذلك- "مقدسة وبلا عيب". عندئذ سيظهر أن المسيح قد وجد غرضه الذي يناسب محبته ويتجاوب مع محبته وسيشبع. وسينظر إلى عروسه ويقول "أنا مكتفي" "يرى من تعب نفسه ويشبع".
إن هذه المناظر المجيدة التي أمامنا تجعل كل مباهج العالم تخفت، فجمالها زائف وغناها فقر ومسراتها باطلة وأمجادها فارغة في نور الأمجاد الآتية.
- عدد الزيارات: 3543