Skip to main content

الفصل 3

وبعد ليال قليلة، وفيما كان تالوس نائماً في مزرعة مرقس إذا به يستيقظ فجأة على أصوات مزعجة في الخارج. وصاح أحدهم: (حريق، حريق!). فقفز تالوس تالوس خارجاً من فراشه ليرى ماالخبر، فشاهد من خلال نافذة غرفة نومه كومة من العشب الجاف تحترق بشدة. وكان قد سبق لبعض الخدام أن وصلوا إلى هناك حاملين دلاء ماء دون أن يلاحظوا على مقربة منهم رجلاً مستلقياً على انفراد في الظل. فما كان من تالوس إلا أن وثب من النافذة وطفق يعدو نحو الرجل. فرآه هذا الأخير إلا أنه يبدِ حراكاً. بالعكس، رفع رأسه بصورة خرقاء وصاح بصوت جاف (النجدة. ساقي مكسورة. أنجدوني).

فأجابه تالوس مُطمئناً: (حسناً أيها الرجل. لاتضطرب فها أنا آت). ولما وصل إليه انحنى وأخذ يتحسس الساق المصابة بحثاً عن موضع الكسر. فأخذ الرجل يتلوى من الألم ثم ارتخى على ظهره فاقد الوعي تقريباً. فخاطبه تالوس: (يؤسفني القول أنني لاأقدر أن أتركك، فالنار تزداد اشتعالاً وماعليّ إلا أن أنقلك إلى مكان أكثر أماناً، فلمّ... لنرَ إن كان في وسعك الوقوف على رجليك).

أنَّ الرجل أَنَّة فنظر إليه تالوس وابتسم مطمئناً إياه مرة أخرى. كان العرق يتصبب من جبينه وساقه تؤلمه جداً، وفي تلك اللحظة وصل مرقس. فاستعان به تالوس قائلاً: ( هيَّا يامرقس ساعدني على نقل هذا الرجل المكسور الساق). أجابه مرقس: (احمِله من كتفه اليسرى فنرفعه معاً إلى تلك البقعة المعشوشبة).

في هذه الأثناء كانت النيران تزداد حدة وشدة وكادت الحرارة تكون غير محتملة. ولذلك كان عليهما أن يعملا بسرعة لإنقاذ الرجل العاجز الذي قاسى الأمرين وهما يسرعان به.غير أن تالوس اعتنى به جيداً عند وصوله إلى موضوع الأمان.

قال مرقس مستفسراً: (من هو هذا؟ إنه ليس من رجالي). فأجابه أحد خدامه: (إنه واحد من عبيد سُلاّ، ولعلّه هو الذي تسبب في إحداث الحريق). فلما سمع العبد المسكين هذه التهمة رفع نفسه بمشقة على أحد مرفقيه ونظر على مرقس نظرة المستغيث المتوسل ثم صاح: (أتوسَّل إليك ألاّ تضربني. سيدي هو الذي أمرني بذلك). أجابه مرقس: (أنت تستحق الضرب. فها إن مؤونة شهؤين من العشب قد تحولت إلى دخان.

-(لكن الانتقام ليس نهجنا في الحياة). وزاد عليه تالوس قوله: (لابل نحن نريد مساعدتك).

وقال الخادم الذي عرفه (أبشِر يارجل، فأنا لم أقصد أذيَّتك. وفوق هذا أنا ملمّ بجبر العظام المكسورة. فاسمح لي بإلقاء نظرة على ساقك). وحالما تم تجبير الساق المكسورة، أمر مرقس أن يُدخل العبد إلى الداخل ويُعنى به ريثما يتمكن من السير على رجله ثانية.

وحدث بعد بضعة أيام أن مركبة اقتربت ووقفت قدام البوابة لبيت مرقس الأمامية، وإذا بجار فظ يرفع عرقيته منادياً مرقس: (أنت تحتجز أحد عبيدي. آمرك أن تسلمني إياه في هذه اللحظة).

-(آه ياسلاّ! أتتجاهل أن مشعلك هو الذي أضرم النار في حشيشنا المجفف. نعم، عبدك موجود هنا وساقه مكسورة).

(مشعلي؟) قال سُلا غاضباً. (أتتهمني بأحداث الحرائق بشهادة من عبد؟ سلِّمه إليَّ وإلا اتهمتك بمساعدة عبد هارب! سأعلِّمه مامعنى أن يكذب عن لسان سيده).

لم يكن أمام مرقس خيار آخر سوى تلبية طلب سُلا فأمر أن يؤتى بالعبد إلى الخارج. وفيما كان العبد يعرج خارجاً على عكاز قالت جوليا: (أيجوز أن ندع سُلا يأخذ ذلك الرجل المسكين؟).

-فأجاب مرقس: (لاخير لنا ياجوليا، فالقانون في جانب سُلا. إن كنا نحتفظ بالعبد فسيُلقى القبض علينا ونوضع في السجن حيث لانعود قادرين على مساعدة أحد).

صرفت جوليا ذلك النهار بطوله وهي تفكر في حالة العبد المسكين ولاتدري ماسيحل به على يد سُلا. ولتفتت على مرقس تقول: (لايمكنني أن أنـزع ذلك العبد من فكري. فلقد دهش وسُر بمساعدتنا له).

-(لاتقلقي ياجوليا، إننا نصلي كي يتعامل الله بعدله مع سُلا بسبب شره. أما العبد فإنه قد تعرف بشيء من العطف المسيحي ولابد أن يخبر سواه بما جرى له).

وبالفعل أخبر العبد سواه حتى أن أحداً من مراقبي سُلا سمع حالاً ماجرى معه. وذات يوم طلع سيده على الأمر قائلاً: (يقول ذلك العبد الأخرق الذي كُسِرَ ساقه وهو يشعل النار أن جميع الموجودين في مزرعة مرقس هم من المسيحيين).

-(هه، هذا ماكنت مرتاباً من جهته. أن خبراً كهذا له مكافأة قيِّمة عند الإمبراطور، لذلك من الضروري أن أطلع الحاكم المحلِّي على الأمر..). في أثناء إقامته في مزرعة الخيول أعجب تالوس جداً بالمعلومات التي تلقاها من مرقس حول سباق المركبات حتى أنه نسي كل ماجرى مع سُلا. وذات صباح بينما كانا متجهين بالمركبة في طريق ريفية ضيقة بقيادة تالوس، قال مرقس معلقاً: (أرى أنك مولود سائقاً). فرد عليه تالوس: (أنا معتاد أكثر على ركوب الحصان ولكني لاأنكر أن قيادة المركبات أكثر إثارة وروعة!).

وما إن قال هذا حتى التقيا مواجهة عند منعطف ضيق بمركبة سُلا. وبما أنه لم يكن متسع للمرور فوق الطريق المرصوف نادى مرقس سُلا قائلاً: (قف ياسُلا فنمر بمحاذاتك على مهل). فصاح هذا الأخير بازدراء: (لالن أتوقف لسائقك هذا يامرقس). ثم التفت إلى سائقه وأمره أن يستحث الخيول بسوطه على السير إلى الأمام قائلاً له: (اطرحهم جميعاً في الحفرة).

ولما رأى الخيول تقفز على الأمام تحت سوط عبد سُلاّ استعد تالوس ومرقس للاصطدام، وكان أن تالوس حث خيوله على السير قدُماً وعلى مهل أملاً منه في تفادي الاصطدام في اللحظة الأخيرة، وعند ذاك ضربها بالسوط فجأة في اللحظة التي كانت خيول سُلا قد أصبحت بازاء عربته. وكان أن حركة تالوس أخذت سائق سُلا على حين غرّة، فانحرف نحو جانب الطريق بقصد إنقاذ عربته من التحطم. ولكنه فقد السيطرة عليها فمالت عند حافة الطريق مما أوقع سُلا وسائقه في الحفرة! وبنتيجة ذلك جفلت الخيول وراحت تعدو خائفة وهي تجر المركبة الفارغة وراءها. وحتى خيول تالوس جفلت مما جرى فاندفعت تقفز رغم جهود تالوس للسيطرة عليها. فهتف مرقس (أحسنت ياتالوس، فلقد سقطا في الفخ الذي نصباه لنا، وكنت أنت كسائق في سباق للأبطال بكل معنى الكلمة).

(إن صلاة قلبي هي ألاّ يكونا قد أصيبا بأذى) أجاب تالوس وهو يشد بالزمام بكل قوته. وأخيراً هدأت الأفراس فعاد بها تالوس إلى حيث سُلا وعبد جالسين مترنحين عند حافة الطريق. قال مرقس: (آسف ياسُلا، ولكن الخطأ خطأك. هلم اصعد معنا لنوصلك إلى منـزلك). فقّبِل الدعوة بفظاظة وكان بودّه أن يُرسل عبده سيراً على قدميه لو لم يُصِر مرقس على اصطحابه أيضاً. ولما وصلوا إلى مزرعة سُلا وهمّ مرقس بالدوران والعودة ناداه سُلا بعبوس: (كونك قد جئت بي إلى منـزلي لايعني أن الحساب صُفِّي بيننا سأخاصمك لأنك تسببت في تحطيم مركبتي).

وفي طريق العودة قال مرقس مخاطباً تالوس: (لم أعرف في حياتي إنساناً استطاع أن يتحول من جار رضيّ على مبغض عنيف كهذا الرجل سُلاّ). فأجابه تالوس: (ماعلينا إلا مواصلة الصلاة لكي يغيِّره الله ويصيِّره إنساناً جديداً).

وحتى عبيد سُلا أيضاً كانوا قلقين جداً من هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ على سيدهم. قال أحدهم وهم جالسون حول منضدة يتحدثون: (ليست هنالك طريقة لإرضائه في هذه الأيام، فهو يعاقبنا لغير سبب).

-(ها هو فيلكس، وفي استطاعته أن يخبركم عن طعن الخمسين جلدة. كل ذلك أن سائقَ مرقس الجديد انتصر عليه!).

فقال العبد المكسور الساق في قلبه: (ياليته مسيحي كمرقس وجماعته. فقد عاملوني بلطف رغم علمهم بأني اطلقت النار في هشيمهم).

(ماذا؟ أمسيحيون هم؟) تساءل فيلكس مستغرباً وللحال مرّ في ذهنه خاطر –(مسيحيون، هه! إن عَلِمَ سيدي بهذا فلابد أن يسامحني).

ولما بُلِّغ الخبر قال سُلا للعبد: (أعرف أنهم مسيحيون يافيلكس من قبل. أعدد لي مركبة غداً قبل كل شيء فسنذهب إلى رومية). فسأله العبد: (هل أنت ذاهب لتضع الترتيبات اللازمة لسباق العربات القادم ياسيدي؟).

(أجل، إلى حدما) أجاب سُلاّ باعتداد وكبرياء.

في هذا الوقت كان تالوس يتابع دروسه في قيادة المركبات يوماً بعد آخر، وسرعان ما أصبح من أئمة هذه الرياضة. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح ماهراً في قيادة طاقم من أربعة جياد.

(يا له من تدريب!) قال تالوس في عصارى أحد الأيام وهو يقفز من عربته خارج منـزل مرقسّ. (إن قيادة أربعة جياد معاً تجعل المرء في شغل شاغل. شكراً لكل يا مرقس لأنك سمحت لي بالتمرن على ذلك).

(لاأكاد أصدق أنك صرت تتقن القيادة بهذه الصورة الممتازة) قال مرقس مؤكداً. (انتظر ريثما أخبر جوليا أي سائق ستكون أنت في المستقبل). دخل تالوس وهو يظن أن جوليا في البيت وقال: (جوليا! جوليا! أليس من مجيب؟ أوه، أين الجماعة كلها؟ يبدو البيت مهجوراً). نادى وهو يصعد الدرج: (أوه، أنظر يامرقس إلى كورش).

على أريكة في فناء الدار تمّد جسد والد جوليا الهزيل دون حراك، وكان حسب الظاهر جثة هامدة. فلما رآه مرقس ارتعدت فرائصه وهرع للحال نحوه. وما إن قَلَبَهُ على جنبه حتى هتف (إنه حي والحمد لله!).

مرت برهة قبل أن يستعيد وعيه، وقضى كلاهما لحظات قلقة فيما كانا يحاولان إنعاشه. وقد لاحظا أن الأثاث حولهما كان مقلوباً وبغير ترتيب والأدوات مبعثرة على الأرض.

أخيراً سأله مرقس: (هل لك أن تخبرنا عما جرى ياكورش؟). فأجاب بضعف وهو لايكاد يقوى على النطق: (الجنود... اندفعوا فجأة إلى الداخل... فحاولت إيقافهم... لكنهم أخذوا الجميع... وجوليا أيضاً. سمعتهم يقولون: المسيحيون-المدرج...).

كان هذا كل ماقاله قبل أن يفقد وعيه ثانية. فوضع مرقس وتالوس وسادة تحت رأسه وغطَّاه ببطانية مرفرين له الراحة قدر الإمكان.

وانطرح مرقس على كرسيّ دافناً رأسه بين يديه وهو يقول: (هذه عملية انتقام من سُلا! أعنَّا يارب أعنَّا!).

(لاتقطع الأمل يامرقس فالله لن يَخذُلنا) قال تالوس محاولاً أن يشجع صديقه المضطرب، (فهلم نذهب إلى الحاكم، فإن من واجبه أن يسمعنا لأننا رومانيان).

فوقف مرقس متأهباً وقائلاً: (رأيك صائب. هذا مايجب أن نفعله الآن على الفور-هلم بنا فلا مجال لإضاعة الوقت).

وبعد أن صرفا وقتاً كافياً للتأكد من تحسن حالة كورش أغلقا الباب خلفهما وانطلقا. وما هو إلا قليل حتى وصلا إلى المباني الحكومية. ولدى اقترابهما تقدّم منهما الحارس مستفسراً: (ماغرض مجيئكما؟).

-(نريد مواجهة سعادة الحاكم. أنا مرقس مربِّي الخيول).

فتوارى الحارس داخل المبنى ثم عاد مسرعاً ليقول لهما: (إن سعادة الحاكم على استعداد أن يستقبلكما الآن، فهلمّ ورائي). واقتادهما عبر ممر طويل ثم توقف أمام باب ضخم، وإذا بحارس آخر يفتح لهما ويدعوهما للمثول بين يدي الحاكم. كانت غرفة الحاكم مؤثثة بفخامة ونوافذها مغطاة بستائر سميكة فضلاً عن الستائر التي تقع خلف المنصة التي يجلس عليها سعادته. وللحال حيَّاهما الحاكم قائلاً: (أي نعم، أهلاً بالمتسابق المشهور-أهلاً بكما إلى مكتب المتواضع). قال تالوس في قلبه (أليست هناك نغمة تهكمية في صوته؟ وماذا بشأن تلك الابتسامة الغريبة التي توحي وكأنه كان ينتظرنا؟).

سألهما الحاكم بلطف ظاهري: (هل من خدمة أقدمها لكما؟). فتقدم مرقس وأشار إليه متهدداً وقائلاً بصوت حاد: (اطلب أن تطلق سراح جماعتي من سجنك القذر فوراً وإلا...).

(مهلاً يامرقس مهلاً) قال تالوس محاولاً تهدئة صديقه.

وعند انفجار مرقس غاضباً تغيَّر وجه الحاكم والتقت عيناه القاسيتان بعيني المتسابق الشاب المقطب الوجه. قال له: (إن نصيحة صديقك في محلها، لأن كلامك غير مهذّب. قلتَ أنك تطلب.. أليس كذلك؟). ثم نهض فجأة وأشار مباشرة على مرقس صارخاً: (أنا أطلب أن تشرح لي كيف تؤوي عندك جماعة من المسيحيين خفية عني! أنت تعلم أن إخفاء المسيحيين مضاد للقانون الروماني، ولو لم يكن مواطناً مخلصاً لما كان بالإمكان ستر عملك الإجرامي).

(الحق كله على سُلا. أنا متأكد من ذلك) قال مرقس لاهثاً.

وتابع الحاكم يقول: (لكن بعد غد يصادف عيد ميلاد الإمبراطور وهو من أبهج المناسبات. وأني لعلى استعداد أن أصفح عنك-تحت شرط-).

(تحت شرط؟ حسناً، ماهو الفخ المنصوب لنا؟). أجاب مرقس بقلق.

(ليس ثمة فخ بل مشهد جذاب لتسلية الإمبراطور. أنت وسُلا أشهر متسابقين على العربات في ورمية كلها، وأني اقترح أن تتسابقا يوم عيد الإمبراطور والفائز له جائزة قيمة...).

اندفع مرقس يقول (وماالجائزة؟).

(دعنا نرى...) قال الحاكم وهو ينظر نظرات التهكم إلى الرجلين الماثلين أمامه وقد سرّه أنهما في قبضته. (أجل لنرَ.. لنفرض مثلاً أن الجائزة هي اطلاق سراح جماعتك والحؤول دون طرحهم إلى الوحوش المفترسة).

  • عدد الزيارات: 2594