Skip to main content

الفصل 6

في هذا الوقت كان مركب روكو قد اقترب من سفينة الأرقاء وطفق الجميع ينظرون مذعورين فيما كان السفَّاحون المجرمون يلقون بالمساكين في اليمّ. فغيَّر روكو خطته للحال وأصدر أمراً جديداً لرجاله قائلاً لهم: (انزلوا الأشرعة! كفى تجديفاً! انزلوا القارب الصغير وانتشلوا من البحر جميع الأحياء).

ثم التفت إلى تالوس بحزن وقال: (هذا هو القرار الوحيد الذي قدرت على اتخاذه ولو أن سفينة العبيد قد تحاول الفرار).

فربّت تالوس على كتفه مُطَمئناً: (مافعلته هو عين الصواب ياروكو).

ولكن مما يؤسف له أن قلة من الأسرى فقط انتُشلوا أحياء، ومع ذلك كانت فرحة تالوس كبيرة لأن زفين كان واحداً منهم.

فهتف مسروراً: (الحمد الله).

ولكن منظر زفين المستلقي على ظهر المركب آثار فجأة حفيظة مساعد الوالي، فقال غاضباً:

(أنت أيها البربري! أنت الذي استعديت روما عليّ! فماذا فعلت بها؟).

(لاتفعل عنه تالوس) قال روكو محذراً. (فإن عليه إمارات الخسَّة ولاثقة لي به).

ولما قال هذا هجم الملازم ليرفس زفين المستلقي عن عجز عند قدميه. وصاح ساخطاً: (هذا هو البربري الذي سلب روما مني).

(قف عندك أيها الرجل) خاطبه روكو محذراً وقفز أمامه ليدفعه عن زفين. وفي الوقت نفسه أمسكه من خلف ثلاثة من بحارة روكو فلم تُجدِه المقاومة. وأضاف روكو، مستاء من تجريم الرجل لزفين وتبريره لنفسه: (عليك أن تتذكر أن مصير روما السيء هو نتيجة عملك أنت لازفين).

(إنه رجل مسكون) قال تالوس في نفسه وهو يُعنى بجروح زفين (فما أحوجه إلى معرفة المسيح! لأنه إذ ذاك فقط يختبر معنى الحرية الحقيقية).

وأمر روكو أن يقيَّد معاون الوالي بالسلاسل إلى صارية المركب حتى تذلّ كبرياؤه، وهكذا صار. فصرف هذا الأخير ساعات طوال منكَّس الرأس مقطَّب الجبين، وهو يسبح في بحر أفكاره).  ‍‍

واقتاد روكو المركب وجَدّوا في مطاردة تجار الرقيق الأشرار متجاهلين نوايا الملازم الشريرة الأنانية.

وفي سراغوسا لم تهدأ للوالي حركة. وخوفاً منه أن يكون روكو قد أخفق في القبض على سفينة العبيد. بعث برسالة على رومية يطلب فيها اكتشاف السفينة وإرغامها على العودة إلى سراغوسا. فتّم تبليغ الرسالة إلى جميع النقاط العسكرية على أي دي رسل من الخيَّالة عبر الطرقات الرومانية المشهورة. وظلّ هؤلاء أياماً وليالي يسافرون دون توقف على أن وصلت الرسالة أخيراً على السلطات في رومية.

أما روما فكانت، وهي على ظهر السفينة، وفي حالة من اليأس الشديد بالرغم من العون والعطف اللذين لقيّتهما من زملائها الأسرى. قالت لها إحدى زميلاتها مُلِحة: (اشربي حصتك من الماء وكلي كِسرتكِ قبل أن يختطفها أحد منك). ولكن روما أدارت وجهها باباء وعناد.

(لماذا؟) قالت بمرارة (هل بقي لي شيء يستحق أن أعيش من أجله؟).

مرّ يومان آخران، وفي تلك الأثناء كان زفين والأسرى الناجون الذين على ظهر سفينة روكو قد استعادوا نشاطهم وحيويتهم. حتى معاون الوالي أيضاً أخذ يعود إلى رشده والتمس من روكو أن يحرره من قيوده. قال متوسلاً: (فُكَ قيودي يا قبطان. أعِدُك أنني لن أحدث متاعب لك بعد الآن).

فالتفت روكو إلى زفين وسأله: (ماذا تقول يازفين؟).

فوافق زفين قائلاً: (إنه ضابط روماني ومتى وعد وفى). وهكذا أمر روكو رجاله أن يفكوا قيود الضابط المتسخ الثياب).

في تلك اللحظة صرخ المراقب من برجه: (في الميناء سفينتان يا قبطان: إحداهما سفينة العبيد والأخرى سفينة حربية).

فهتف تالوس مغتبطاً: (شكراً لله يازفين، فلقد استجيبت صلاتنا).

(روما! روما! حماكِ اله). هذا كل مااستطاع زفين التفوه به وهو يراقب السفينة الحربية ترافق سفينة الرقّ في طريق عودتها من حيث أتت.

وأخذ روكو يناور بمركبه بمحاذاة السفينة الحربية الرومانية وبينما كان منهمكاً في عمله لم يلحظ، لا هو ولاسواه، إن الملازم لبس ثوبه العسكري الروماني. ولما أصبح روكو على مقربة من السفينة الحربية شرع ينادي بأعلى صوته: (نستأذنكم بالصعود إلى سفينة العبيد ياسيدي، فإن ابنة الوالي قد سُبيت عليها مع سائر الأسرى).

وما إن انهى روكو عبارته حتى صرخ الملازم فجأة بصوت عال إلى قبطان السفينة الرمانية: (أنا ضابط روماني وقد أسرني هؤلاء القراصنة! انقذني وأغرق مركبهم وكل ماعليه). ثم قفز دون تردد من على حافة المركب وراح يسبح في اتجاه السفينة الحربية حيث قام بحارتها برفعه على متنها، وإذا به وسط شلة من الضباط.

(أنا الضابط لوشيا مساعد والي سراغوسا) قال مخاطباً أحد الضباط وهو بعد يلهث من التعب. ثم بدأ يقدّم سلسلة من المطالب فقال: أطلب أن...).

ولكن الضابط قطع عليه حديثه: (نعم، نحن نعرف كل شيء عنك. هلمّ انزل إلى غرفة الأرضية وغيِّر ملابسك المبللة بأخرى جافة، وبعد ذلك نتحدث بشأن المطالب).

فلم يكن من روكو وتالوس وزفين إلا أن أخذوا ينظرون مذهولين إلى مايجري وينتظرون متوقعين الخطوة التالية من السفينة الحربية. وصلى كل منهم بصمت طالباً حتى ناداهم قبطان السفينة الحربية بصوت آمر واضح. قال: (كونوا على استعداد لاستقبال مفرزة مختارة تتسلم قيادة سفينتكم، وحذار المقاومة!).

وما أن انتهى كلامه حتى أُنزل إلى الماء قارب صغير صعد إليه 12 جندياً، وبعد خمس دقائق كان عشرة منهم يتسلقون سلماً من حبال كان روكو قد أنزله لهم على جانب مركبه. أما الجنديان الآخران فقد عادا بالقارب إلى السفينة الحربية.

ولدى وصوله إلى ظهر مركب روكو بدأ الضابط اروماني، المرسل لقيادة السفينة، يصدر أوامره الصريحة يميناً وشمالاً. قال مخاطباً روكو: (ياقبطان، عليك بالعودة فوراً إلى سراغوسا. ولاتتوقع تدخلاً من رجالي مادمت تطيع أوامري).

(أهلاً بك إلى المركب) قال روكو مُرحباً به، ثم طمأنه بقوله: (لن نسبب لك متاعب أبداً).

غير أن زفين كان مشتاقاً لروما وانتهز الفرصة الأولى للسؤال عن آخر أبناء سفينة العبيد. فلم يكن في جواب الضابط مايطمئن فكره القلق رغم أن الخبر كان مشجعاً بعض الشيء.

قال الضابط: (كل ماأعرفه هو أن بحارة ماهرين تسلموا قيادة السفينة للحاق بنا على سراغوسا).

أما على ظهر سفينة الرق فقد سيطرت الفصيلة الرومانية على القراصنة دوت مقاومة كبيرة منهم ثم اقتادتهم إلى عبنر داخلي يشبه السجن، قيَّدتهم بالسلاسل حتى نهاية الرحلة. أما العبيد فقد أُخرجوا إلى الحرية والطعام الجيد. ومع ذلك لم تكن روما سعيدة ظناً منها أنها فقدت زفين نهائياً، ولم تعلم أنه نجا من البحر ويتقدمها الآن في الطريق إلى سراغوسا.

وهكذا وصلت السفن واحدة بعد الأخرى إلى ميناء سراغوسا، وحال وصولها إلى هناك توجه تالوس وزفين مباشرة إلى قصر الوالي أما زفين فقد ظل قلقاً على روما إلى أن وصلت هذه الأخيرة على ظهر سفينة العبيد بعد ساعات طوال. وكانت فرحتهما باللقاء ذلك اليوم تفوق الوصف. فقد انشغل كل منهما بالآخر لدرجة أنهما نسيا الجمهور الذي جاء لاستقبالهما! ولم تكن سعادة تالوس وروكو والوالي وقرينته بأقل من سعادتهما وقد أقيم حفل خاص بالمناسبة السعيدة، تلك الليلة. ووضعت ترتيبات لعقد قرانهما بأسرع مايمكن.

على أن معاون الوالي وزمرته لم يُنسَ أمرهم. فما أن بلغت سفينتهم الشاطئ حتى ألقي بهم جميعاً في السجن مع باقي البحارة الأشرار بانتظار نوال عقابهم. وأغلق على الملازم الخائن أيضاً ريثما تتم محكامته. ولما مثل أمام القاضي الرماني، بعد مرتين، جاءت الأدلة لغير صالحه رغم أنه مُنح حق الدفاع عن نفسه. فالشعب الإسباني كان شعباً حراً ولايجوز، بموجب القانون الروماني، أن يباع أحد من أفراده في سوق النخاسة إلا إذا ثبت أنه قام بعمل إجرامي.

قال الوالي وهو يقرأ الحكم على مسامع الحاضرين بصوت رزين حزين:

(لقد تبين لهيئة المحلَّفين أن المتهم مذنب من جميع الوجوه، ويؤسفني القول أنني أرى من واجبي أن ألفظ الحكم على هذا الرجل الذي ائتمنته فيما مضى واعتبرته صديقاً من أصدقائي. فسيجرد من جميع رتبة وسيقضي باقي أيامه في مناجم النحاس).

ولما انصرف الحاضرون وهم يتهاموس ترددت أصداء أصواتهم في أرجاء المحكمة في حين جلس الملازم صامتاً منكس الرأس شارد الذهن أمام المارين الناظرين غليه باشمئزاز.

وبالمقارنة مع بؤس الملازم كانت فرحة زفين لاتوصف إذ وقف بجانب عروسه روما وقد تشابكت يداهما في حفلة زفافها. وقد شهد تلك المناسبة السعيدة عدد من الأهل والمحبين. وعند انتهاء المراسيم استدار زفين ليخاطب جميع المدعوين المجتمعين في باحة القصر، فقال: (جئت عصارى هذا اليوم لاقترن بروما العزيرة، ونحن سعيدان جداً. ولكن الفضل في سعادتنا يعود إلى أبينا السماوي المحب الذي انقذنا من الموت أكثر من مرة وخلصنا نهائياً من الهلاك بواسطة وأني لأسأل كلاً منكم الآن باسم الرب: (ماذا تفعل بيسوع؟).

  • عدد الزيارات: 2739