Skip to main content

الفصل 5

بعد ذهاب تالوس بمدة قصيرة عاد الوالي ومرافقه فوجدا المرأة غارقة في الدموع. وأخيراً أخبرتهما بأمر اختفاء زفين وروما، فنزل الخبر على مساعد الوالي نزول الصاعقة، قال: (لابد أن يكون ذلك البربري هو الذي خطف روما. فاستدعي قوة من الجيش تذهب وراءه وتلقي عليه القبض).

(لا أعتقد أن اللوم يقع على زفين، ولكن أذهب وأبحث عنهما أين كان) قال الوالي بلهجة الأمر.

وهنا هرع المساعد لا إلى الثكنة العسكرية بل إلى حانة قذرة حقيرة قريبة  من الميناء. واندفع داخلاً على غرفة صغيرة ضيقة حيث صاح بنزف في وجه ثلاثة رجال كانوا يجلسون حول طاولة وطيئة: (ماذا فعلتم هذه المرّة أيها البلداء؟).

إلا أن الرجل الرمادي هدّأ روعه قائلاً: (تفضَّل أجلس ياسيدي. نحن نحتفل الآن لأن هذين الرجلين ألقي القبض عليهما في الحديقة كما قلتَ).

وتكلم أحد السفَّاحَين الباقيّين فقال بشيء من الاعتداد الذاتي: (حاول الشاب أن يقاوم ولكننا أمكسناه بالقوة).

(والآن هو والفتاة متجهان إلى رومية على ظهر سفينة العبيد)، قال الثالث.

فصاح مساعد الوالي (ماذا؟) وانعقد لسانه لدى سماعه نبأ سفر حبيبته روما على سفينة تتاجر بالرق.

وللحال غادر الحانة وراح يتمشى عابساً بمحاذاة الشاطئ حيث كانت سفينة العبيد راسية، وقد امتلأ ذهنه المشتت بالرثاء الذاتي حتى أنه تجاهل تماماً المصير القاتم الذي جلبه هو وعصابته على غيرهم من الناس.

قال في نفسه: (واحسرتاه! لقد ضاعت روما مني إلى الأبد-لتصير أمّةً ولن استطيع الزواج بها الآن حتى ولو عثرت عليها. أواه، لقد قضي على عملي). وجلس بين القصب بالقرب من الماء وبكى بكاءً مراً ظناً منه أن أحداً لن يسمعه.

ولكن اتفق أن تالوس كان قد رتب مع روكو أن يُبحرا خلال ساعة واحدة وعزم أن يذهب إلى القصر ويترك رسالة للوالي يشرح له فيها كل شيء. ولما وجد الوالي في قصره اطلعه على كل المعلومات التي لديه وعلى اعتزامه السفر للحاق بتجار الرقيق. ثم غادر القصر توَّاً ونزل إلى سفينة روكو. وفي طريقه إلى هناك سمع صوت بكاء الملازم فوقف مذهولاً! وعندها اقترب إليه خفية وألقى القبض عليه بسهولة تامة لأنه كان في حالة من الحزن لم تترك له مجالاً للمقاومة.

وبين دفع وجرّ تمكن تالوس من حَمله إلى مركب روكو حيث بدأ كلاهما يستجوبانه ولكنهما لم يفهما منه أكثر من كلمتّي (روما) و(أَمَة). وفي أثناء الأيام القليلة التالية كان يترنح كالسكران في السفينة بينما كان يبحران في نهر أبرو بقصد اللحاق بتجار العبيد.

قال روكو: (لقد سبقونا كثيراً ياتالوس، ولسنا نعلم الاتجاه الذي ساروا فيه. ولكن لدينا بحارة أمناء ناهيك بأن الله معنا).

في تلك الليلة، حالما تغلب الوالي على الصدمة أصدر أمره إلى قواته للإحاطة بعصابة الرق العاملة في سراغوسا. وعند الفجر كان الجميع قد أودعوا السجن ولم يعد في استطاعة تجارة الرق أن تذر برأسها في المدينة.

مرت أيام وروكو يحثّ رجاله على التجذيف بسرعة إلى حد الإرهاق ومع ذلك لم يقع أحد على أثر لسفينة العبيد.

(يجب أن أعرف الجهة التي تقصدها تلك السفينة، ولغاية الآن لم يُدل الرجل بكلمة اعتراف)، قال روكو ذات يوم فيما كان واقفا هو وتالوس قرب الملازم وهما في حيرة من عناده وانفعالاته الأنانية.

أجابه تالوس: (سأداوم على الصلاة معه، وأنا واثق من أنه سيتخلص من هذه الحالة سريعاً).

وألحّ روكو: (علينا في الوقت الحاضر أن نتابع سيرنا في اتجاه رومية-سوق النخاسة الكبرى).

وعلى مسافة أميال قليلة، كانت سفينة العبيد، البعيدة عن مرمى النظر، تتابع سيرها في البحر وعنبرها الحار النتن مزدحم بالأسرى البائسين المنوي بيعهم عبيداً وفي وسطهم كانت تجلس روما وعلى ركبتها رأس زفين المصاب بجروح كثيرة، تلك الجروح التي افقدته بعض وعيه وجعلته غافلاً عما يدور حوله.

وذات يوم، فميا كانت الشمس تميل نحو المغيب، هبّ فجأة أحد ملاحي سفينة روكو وصاح بأعلى صوته:

(سفينة! انظروا! سفينة تجارية راسية هناك قرب الشاطئ).

قال روكو: (قد تكون سفينة تجار الرقيق ياتالوس. ولكني أخشى ألا تكون فنضيَّع الوقت إن ذهبنا على هناك. فما رأيك؟).

رد عليه تالوس بعزم وتصميم: (فلنتفحصها ياروكو، فهي السفينة الأولى التي يقع نظرنا عليها ولن نندم على الوقت الذي نبذله في هذا السبيل).

(هذا حق! استدِر بها ياقائد الدفة، وابذلوا قصاراكم أيها الرجال المجذفون. فقد تنتهي رحلتنا أن أركنا السفينة قبل حلول الظلام).

كان قبطان سفينة الرق قد شطط مؤقتا في عصارى ذلك اليوم ليقوم بفحص (شحنته).

وصاح بأعلى صوته: (افتحوا الباب الأرضي وأخرجوا العبيد إلى ظهر السفينة. فكل من تجدوه عاجزاً ضعيفاً تخلصوا منه، أما الأصحاء فاستبقوهم لأنهم مجلبة للربح).

وما أن صدر الأمر حتى كان أحد السفاحين في العنبر السفلي يزعق في وجه الأسرى وهو يلوّح بسوط متعدد الرؤوس. قال:

(قفوا جميعاً! اصعدوا على السلَّم. هيا تحركوا! اخرجوا إلى ظهر السفينة) ثم ضرب بسوطه عبداً مسكيناً قريباً منه. (وأنتِ أيتها الفتاة) صاح في وجه روما التي كانت ماتزال تُعنَى بزفين (هلمِّي اخرجي خارجاً ونحن نتدبر أمر هذا الرجل الذي لاخبر منه يرتجى. اسرعي).

(لا لن افعل. أنه مصاب بجروح) ردّت روما في وجهه تحدياً. ولكن زفين عرف ما سيؤول إليه مصيرهما أن هي رفضت الطاعة، فقال لها بصوت ضعيف.

(ارتكيني ياروما، فلن تستطيعي انقاذي. افعلي مايأمركِ به).

مع ذلك اضطر اثنان من السفاحين أن يسلخوا جسدها المتلوّي عن زفين ويقذفوا بها خارجاً. قال أحدهما مخاطباً القبطان وهو يجاهد للإمساك بروما الثائرة: (إنها نمرة شرسة).

أجابه القبطان: (إنها متوحشة ولاشك، وسنبيعها بسعر عال).

ولما خرج سائر العبيد القادرين على المشي إلى ظهر السفينة، نزل البحارة على العنبر ليتدبروا أمر المرضى والعاجزين. فكان يؤتى بهم واحداً واحداً ويُلقون في البحر ليموتوا غرقاً. غير أن قلة منهم انتعشوا بالهواء النقي والماء البارد فبدأوا يسبحون إلى الشاطئ.

  • عدد الزيارات: 2552