الفصل 4
في ذلك المساء جلس تالوس وروكو يستريحان في سفينة هذا الأخير في حين طفق زفين يتمشى على غير هدى على سطحها.
قال روكو ضاحكاً وهو يشير بإبهامه إلى زفين: (يبدو أن صاحبنا أصيب بالدوار منذ تقابل مع ابنة الوالي).
أضاف تالوس: (نعم، ولكن يعصب عليَّ أن أخبره أن الفتاة مخطوبة إلى الملازم مساعد الوالي).
ولكن روما أيضاً كانت في حالة من الإثارة لاتقل عن حالة زفين. فقد سهرت ساعات طويلة عند نافذة غرفتها وهي تكاد تلتهم الميناء بعينيها. ولم يلجأ إلى سريرها قبل الثانية صباحاً حيث نامت نوماً متقطعاً.
وماهو إلا قليل حتى كان المتسللان ينسلان خفية إلى رصيف الميناء. وفي هذه المرة جاءا بناءً على معلومات دقيقة ودخلا خلسة إلى مركب روكو. كان الرجل الضخم يخفي سراجاً مضاءً، وحالما أصبح هو ورفيقه بمحاذاة المركب أخرج السراج وقذفه مباشرة إلى سطح المقصورة المصنوع من قش. ولأن المركب كان راسياً على مقربة من رصيف الميناء فقد كان من السهل عليه أن يصيب البقعة الأكثر حساسية للنار. وفي ثوان معدودات كانت ألسنة اللهيب تتصاعد نحو السماء من السطح الجاف فيما أسرع الخبيثان فانسلا إلى مكان خفيّ مطلَ.
من هناك بقيا بضع دقائق يراقبان، وهما يضحكان بخفوت، عدداً من البحارة تهافتوا إلى المركب كالنمل المضطرب الخارج من وكره محاولين إخماد النيران المنتشرة بسرعة. ولكن جهودهم ذهبت إدراج الرياح وسرعان ما أتت النار على المقصورة كلها. وبدا كأن السفينة كلها ستذهب طعماً للنيران، فضلاً عن أن تالوس وزفين لم يظهر لهما أثر على سطحها. فمن شدة الحرارة لم يتمكنا من الخروج من فتحة صغيرة تقع أمام المقصورة.
انتظر المتسلل الرمادي الثياب وزميله الضخم حتى تأكدا أن النار خرجت من سيطرة البحارة فانسلا واختفيا وسط الظلام.
قال الرجل الرمادي وهو يفرك يديه مسروراً: (هَه! سيكون ثوابنا عظيماً على ماقمنا به الليلة).
(يجب أن يكون كذلك) ردّ العملاق (إنهما لن ينجُوَا من النار).
وتوجها فوراً إلى بيت الرجل السرّي الذي كان قد كلَّم تالوس وزفين قبل ليلتين. ولما وصلا كان ذلك الرجل نفسه ينتظر أحبارهما، ولَكَم سُرّ لدى سماعه بموت الدخيلين.
فهتف: (نِعمَ الرجُلَين أنتما! لقد أعددت لكما صرّتين محشوتين بالمال، فخُذاهما واسمعا لقولي:
(سترسو السفينة في مكانها المعتاد غداً مساءً. فليكن الأسرى جاهزين للصعود إليها فور وصولهما. لقد تأخرنا في إرسال شحنة العبيد هذه!).
أما على ظهر سفينة روكو فقد سارت الأمور، على حين، على غير مايرام، لاسيما وأن البحارة أمضوا فترة عصيبة وهم يحاولون احتواء النار. ومع ذلك، فلاحتراق المقصورة بدأت النيران تخمد وتفقد حدتها وبعد نصف ساعة عاد الهدوء إلى ماكان عليه.
(كان عملكم سريعاً يارجال) قال روكو مادحاً بحارته وهم يجلسون تعبين على أرض السفينة. ثم قال بقلب مفعم بالشكر: (لقد دُمِّرت المقصورة ولكن ظَهْر المركب لم يَمَسُّهُ الحريق تقريباً).
فقاطعه تالوس: (حسناً، لقد حفظنا الله مرة أخرى. ولست أظن أن أياً من السفن الأخرى قد لاحظت الحريق).
(أنت على حق ياتالوس، فإننا لم نسمع صوت إنذار واحد) أجاب روكو موافقاً، ثم استأنف يقول: (اسمع! لدي فكرة...) والتفت إلى رجاله قائلاً:
(أيها الرجال، اطرحوا بعض الرماد المحترق في الماء مع أشياء أخرى تافهة تطفو على وجه الماء، وبعد ذلك نسير قليلاً بعكس التيار ونوهمهم بأن السفينة احترقت حتى مستوى الماء وغرق جزؤها الأسفل في البحر. وبذلك ينشغل أعداؤنا عنا بعض الوقت).
وهكذا اقتاد روكو سفينته بعكس التيار إلى أن وقع بصره على نُهّير يصب عند الضفة اليسرى. فسار مسافة قصيرة في ذلك الاتجاه وأرسى في خليج صغير. هذا مع العلم أن المكان لم يكن بعيداً عن المدينة ولاعن أعين المسافرين إلى تلك الجهة. ولم يتوانَ تالوس عن لفت نظر روكو إلى مافي الأمر من خطورة.
أجابه روكو: (هذا صحيح، ولكن سفنا كثيرة تدخل إلى هنا ليتم إصلاحها. فكوننا على مرأى من الناس لايعني أن في الأمر مايلفت النظر). وبحلول الغروب في ذلك اليوم كان البحارة قد أعادوا بناء المقصورة من جديد وأصبح المركب جاهزاً للإبحار ثانية.
(ماذا تنوي فعله بعد هذا ياتالوس؟) قال روكو.
–(يجب أن نكتشف من يقف وراء عملية تهريب العبيد، ولعد ذلك...).
فقاطعه زفين: (اسمع لدينا رفقة. فهناك سفينة تنسحب باتجاه ذلك الشاطئ).
وهتف تالوس متعجباً: (وانظر، فهناك جمهور من الناس يساق خارج الغابة باتجاهها. دعنا نزحفببطء إلى هناك لنلقي نظرة عن كثب. يخالجني شعور بأننا سنكتشف شيئاً ما).
فاختبأا وسط أجمة من القصب يفصل بينها وبين السفينة الدخيلة خمسون متراً وراحا يراقبان الصاعدين إليها.
وفي القصر تحدث تالوس وقرينة الوالي بحرارة عن الحياة الجديدة التي وجدها كل منهما في المسيح ولم يشعرا أن حديثهما استغرق ساعة من الزمن!
أخيراً قال تالوس وهو ينتصب واقفاً: (خشى أن أكون قد أطلت عليك الحديث، فالوقت قد حان لأن نذهب).
فردّت قائلة: (كان الحديث ملذاً جداً، ويؤسفني أن الوالي ليس معنا ليشاركنا لذة الحديث).
ولكن خارجاً لم يقع تالوس على أثر لزفين أو روما رغم أنه بحث عنهما في الحديقة كلها، فرجع إلى قرينة الوالي ليطلعها على أمر اختفائهما. فخافت المرأة جداً وأمرت الخدام أن يخرجوا بالمشاعل بحثاً عنهما في الأراض المحيطة بالقصر. وأخيراً نادى أحدهم تالوس قائلاً: (هاكَ هذا الشيء ياسيدي).
فأسرع تالوس راكضاً وأخذ يدقق في ماكان يحمله الخادم في يده، ثم قال: (إنه ثوب زفين ولكنه ملطخ بالدم. عونك يارب).
ولما عاد إلى القصر أخبر تالوس أم روما بما رأى، وكان أن أخذت تبكي وتنتحب خوفاً من أن تكون ابنتها قد أصيبت بمكروه.
فطفق تالوس يُعزيها قدر المستطاع مذكراً إياها بأن يسوع المسيح لايتخلى عنها في وقت الضيق.
أجابته وهي تمسح دموعها: (آه ياتالوس، ياليت لي إيمانك العزيم بالله! سأصلي ولكني خائفة جداً).
فطمأنها بقوله: (طبعاً، ولكن إياكِ أن تفقدي إيمانك. وأنا بدوري سأطلعك على كل جديد). ثم مضى بسرعة طلباً لمساعدة روكو.
وفيما كان يسرع نحو السفينة توسَّل إلى الله: (أرجوك يارب أن تحفظهما حيَّين) ثم خاطب نفسه: (إن كانوا قد خطفوهما فسيأخذونهما على سفينة العبيد لامحالة).
- عدد الزيارات: 2508