Skip to main content

الفصل 3

غادرا قصر الوالي وفي نيتهما أن يتقصيا الأمور بنفسيهما. وأثر مغادرتهما المكان خاطب مساعد الوالي (وهو برتبة ملازم) سيده فقال:

(سأدقق في المسألة ياسيدي. فقد يكون هذان الرجلان كاذبَين ولاغاية لهما إلا الحصول على ترخيص مجاني منك للعبور إلى رومية).

(نعم، أريدك أن تدقق في الأمر- ولو أني لاأعتقد أنهما كاذبان)، قال الوالي وهو يفكِّر في رواية تالوس.

وراح تالوس وزفين يجوبان المدينة بحثاً عن أناس يُشتبه بهم لاستنطاقهم، فشاهدا رجلاً يحمل حزمة كبيرة على ظهره فاقتربا منه.

بادره تالوس: (وصلنا حديثاً إلى هنا، فهل لك أن ترشدنا إلى سوق العبيد؟). كان سؤاله طبيعياً كما لو أنه تاجر عبيد حقيقي، ولكن جواب الرجل لم يُفده بشيء، فقد أجاب بعصبية ظاهرة: (سوق العبيد؟ أكنتُ أحمل حملاً كهذا لو كان في مقدوري أن أشتري عبداً؟).

فاعتذر له ثم استدارا متوجهَين إلى مرسى السفن. قال زفين: (توجد سفن كثيرة في النهر، فلنلقِ نظرة هناك).

(لابأس) قال تالوس موافقاً، (ولكننا لانريد أن نزعج أحداً في مابعد).

وعند وصولهما إلى أحد أرصفة ميناء نهر أبرو الصالح للملاحة- والذي يجري 200ميل نحو الجنوب الشرقي ليصب في البحر المتوسط- توقفا قليلاً وأخذا ينظران إلى ما حولهما ثم راحا يتمشان.

وفيما كانا يتنقلان من سفينة إلى أخرى قال تالوس: (لاتوجد سوق للنخاسة هنا).

أجابه زفين: (هذا مايزيد الأمر غرابة).

وفجأة نادى تالوسُ، وقد أخذته الدهشة، رجلاً كان يُصلح سفينة على مرأى منه. قال والصُدفة كادت تعقد لسانه: (روكو! مرحبا. هذا أنا-تالوس).

وهذا الرجل الذي خاطبه تالوس لم يكن أقل دهشة منه فصاح متعجباً: (ماذا تفعل هنا بعيداً عن وطنك؟).

أجاب تالوس، وزفين ينظر متحيراً: (القصة طويلة. دعنا الآن نبحث عن مكان نتحدث فيه معاً). ثم قال: (يسرني أن أعرّفك بصديقي زفين). فمدّ روكو يده وصافح زفين بحرارة.

وارتأى روكو عليهما: (لماذا لا نصعد كلنا على ظهر السفية؟ فهذه السفينة لي وأنا قبطانها وآمل أن تتصرفا بحرِّيّة هنا).

وبقي الثلاثة يتحدثون على ظهر المركب حتى ساعة متأخرة من الليل. كان روكو وتالوس قد اشتركا قبل بضع سنوات في حادث مثير في قرطاجة. وعادا بالذاكرة إلى الكثير من القصص والأخبار.

خاطب تالوس صديقه القديم: (يسرني جداً ياروكو أنك حفظت الإيمان).

-(لقد علمتني طريقاً جديداً للحياة مع المسيح ياتالوس، ولن أعود إلى الطريق الزائف في مابعد).

في هذا الوقت، وفي مكان آخر من المدينة، كان الرجل المتنكر المتسربل بالثوب الرمادي يقف أمام الستار في الغرفة الخافتة النور.

فنادى بقوة: (يا معلم، لقد تبيّن لي الآن أن الشابين اللذين أتيتُ بهما إلى هنا في الليلة الماضية هما غير الشابين اللذين أُمِرتُ بانتظارهما!).

فصاح به المعلم من خلف الستار: (ماذا؟ يالك من بليد! أما سألتهما عن العلامة السرية؟ أبحث عنهما حتى تجدهما، فمن الضروري قتلهما حالاً). وحذره بقوله: (إياك أن تخطئ ثانية، فهذه فرصتك الأخيرة اذهب).

هرع صاحب الثوب الرمادي خارجاً من الغرفة واختفى وسط الظلام.

وعلى ظهر السفينة تابع روكو وتالوس وزفين حديثهم.

(إذاً أنت تعتقد أن ثمة عصابة تتاجر بالرق في سراغوسا؟)، قال روكو متسائلاً.

أجابه تالوس بحزم: (نحن واثقان من ذلك وأضاف وهو يضرب الطاولة بقبضته: (وسنوقفهم عند حدّهم).

(هناك شائعات تتناقلها الألسن حول هذه المنطقة المائية) قال روكو (ولكن أحداً لا يتجاسر أن يتكلم جهاراً). وأفصح قائلاً لتالوس وزفين اللذين كانا يصغيان إليه بانتباه في مقصورته: (إن الوالي وعائلته مسيحيون، الأمر الذي يستر لي الاجتماع بهم، وهو لايسمح بالرق في ولايته). وتابع يقول: (والطريقة الوحيدة لوضع حدّ لهذه العصابة هي اكتشاف الموظف الذي يقبض المال. فبدونه لاتستطيع العصابة شيئاً).

فعلَّق زفين: (إنه الرجل الواقف خلف الستار).

فألحّ تالوس: (إذاً فلنبحث عن البيت حتى نجده).

ولكن روكو حذرهما بقوله: (نحن متأكدون أن الله معنا، إنما علينا أن نحترز جداً. فبالإضافة إليَّ لم يسمع بالقصة إلا الوالي ومساعده لئلا يعرف أفراد العصابة بافتضاح أمرهم).

لم يخطر في بالهم أنهم وهم يتكلمون كان رجلانيقومان بعملية تمشيط لأرصفة الميناء بحثاً عن تالوس وزفين! أحدهما هو المتنكر باللباس الرمادي والآخر عملاق أصلع قبيح الوجه.

وبينما كان هذان القبيحان ينسلاَّن خفية فوق أحد الأرصفة، خرج من وسط الظلال رجل يلبس ثياباً خشنة ويعتمر قبعة عالية دون أن يشعر بوجودهما قربه. وماإن رأياه حتى اندفعا صوبه وانزويا به قرب مجموعة من الصناديق! عندئذ خاطبه مرتدي الثوب الرمادي بفظاظة قائلاً:

(شوهد رجلان هنا على رصيف الميناء، فهل هما على ظهر سفينتك؟).

خاف الرجل لما بوغت بهذه الصورة حتى انعقد لسانه.

(تكلم) أمَرَهُ العملاق وهو آخذ بخناقه.

فتلعثم الرجل الخائف: (أ-أ-أ- لا أعلم).

ولكن الوحش الكبير لم يقتنع بالجواب.

فشتمه رفيقه ذو الثوب الرمادي وهما ينسحبان: (أيها القرد الكبير، لم أقل لك أن تقتله! لو فعلت لقامت قيامة الحامية الرومانية علينا).

أجابه الرجل الضخم: (لايهمني، فلدينا حماية كافية).

وفي صباح اليوم التالي توجَّه روكو بصحبة تالوس وزفين إلى قصر الوالي. فحيَّاهم هذا الأخير بحرارة ودعاهم على الداخل. وبينما كانوا يتمشون في اتجاه حدائق القصر الفسيحة قال روكو: (تالوس وزفين هما من أتباع المسيح يا صاحب السعادة).

(أهلاً وسهلاً) ردّ الوالي، (تفضَّلا الآن لأعرّفكما إلى زوجتي وابنتي).

كانت تجلس بجانب نافورة الماء سيدتان، أحداهما روما ابنة الوالي والأخرى أمها. وبعد التعارف جلس تالوس يتحدث إلى الوالي وقرينته بينما راح زفين وروما يتمشيان معاً، مما لم يرق لمعاون الوالي الذي أغتاظ حسداً لما نظر من الشرفة المطلة على الحديقة ورآهما يتحدثان ويضحكان فرحَين.

قال غاضباً: (ماذا تجد روما في هذا البربري؟ سأضع حداً لهذا على الفور).

وللحال نزل إلى الحديقة وأخذ ينظر شذرا إلى زفين وروما ولكنه أخفى مشاعره وهو يحي الوالي وزوجته.

فرحب به الوالي: (أهلاً بجنديَّ الأمين. هل طالعت التقرير الخاص بالرق الذي حمله هذان الشابان؟).

فأجاب، بعد أن حيَّا قرينة الوالي: (نعم ياصاحب السعادة. هل تسمح لي بكلمة على انفراد؟.

ولما قال هذا نهضت زوجة الوالي والتفت إلى الزائرين قائلة: (هلم ياتالوس وروكو، فسأريكما مَطْيَرِي (قفص كبير لحفظ الطيور) ريثما ينتهي الوالي ومعاونه من حديثهما. فأنا، كما تعلمون، أهوى جمع الطيور).

ولما غاب الثلاثة سأل الوالي مساعده: (لماذا لم تكلمني أمام الباقين؟).

(خوفاً من أحرج موقفك ياصاحب السعادة) قال المساعد. (دققت في المسألة أمس فوجدت أن لاأثر لتجارة العبدي في سراغوسا. إن هذين الغريبين يكذبان عليك، ياصاحب السعادة).

  • عدد الزيارات: 2559