الفصل 2
وانطلقا ذلك الصباح دون أن يتذوقا طعاماً وشرعا يتسلقان المرتفعات أمامهما. كانت المنطقة مكسوة بالأدغال الكثيفة مما جعل ارتحالهما عسيراً، إلا إنهما وجدا ما يملآن به بطنيهما الخاويّين. فقد اقتانا بالجذور والخضار البرية وبيض الطيور والحيوانات الصغيرة التي وُفقا على اصطيادها. ولحسن الحظ كان كلاهما يحمل سكيناً عند طرحهما من السفينة كما أن تالوس كان يلبس منطقة جلدية تحتوي الكثير مما يحتاج إليه المسافرون في الأدغال.
قال زفين ذات ليلة فيما كانا يشويان لحماً: (لو لم تكن صّوانتك معك يا تالوس لكنا أكلنا طعامنا نيئاً).
(أُفّ، لِمَ تفكر بأمور كهذه؟). قال تالوس وهو يشيح بوجهه اشمئزازاً. وواصلا المسير وهما يرتقيان التلال المحجرة الشديدة الارتفاع تارة، والأخاديد العميقة المليئة بالأخشاب تارة أخرى. وقد اضطرا بسبب وضع المنطقة الجغرافي أن يتجها جنوباً رغم محاولتهما السفر ماأمكنهما إلى جهة الشرق. وفي ذات يوم، لما وقف كلاهما على رأس جبل يطلّ على مرتفع خصب، هتف زفين- وقد تملكه العجب- مشيراً إلى مجموعة من الأكواخ في الأسفل.
قال: (انظر! في الوادي هنالك ... مزرعة كبيرة).
فاقترح عليه تالوس: (هل ننزل ونرى إن كان أصحابها ممن يرحبون بالغرباء. إن ثيابنا مخرّقة وهي في حاجة إلى إصلاح فضلاً عن أننا نفتقر إلى الطعام والراحة).
وما هي إلا ساعات قليلة حتى وقف كلاهما عند البوابة الأمامية من المنزل وناديا صاحب المزرعة الذي كان يقوم بإصلاح قنّ الدجاج فيما كان بضعة أولاد يلعبون بالقرب منه.
حيَّاه تالوس: (سلام لك)، ثم قال (نحن رجلان مسالمان، فهل تسمح لنا بالدخول؟).
جفل المزارع فترك عمله ودعاهما: (تفضلا بالدخول أيها الغريبان. أرى أنكما متعبان وقد أضناكما السفر. من أين أنتما؟).
وهكذا رحَّب بهما المزارع اللطيف وألحّ ليمكثا عنده ريثما يستعيدان عافيتهما بعد سفرهما المضني فوق الجبال والتلال الوعرة. ولم يتوانَ تالوس كل ليلة عن أن يروي للعائلة أخباره الخاصة وقصصاً عن يسوع المسيح.
بعد فترة من الانسجام وإصلاح ثيابهما، استعد كلاهما للرحيل وقد أمضيا في ضيافة المزارع الطيَّب أسبوعاً كاملاً. ففتح تالوس كيسه وهمّ بدفع أجر للرجل مقابل أتعابه، ولكن هذا الأخير رفض قبول المبلغ بإصرار قائلاً: (إن أخبارك وقصصك تفوق ما نستحق من أجر).
فرد تالوس معرباً عن امتنانه الشديد: (ما ألطفك أيها الرجل! ليت الله يباركك).
وبعد أيام قليلة من استعادة نشاطهما وحيويتهما في بيت المزارع، ارتحلا فوصلا إلى مدينة سراغوسا. وكانت هذه مستعمرة رومانية ومن أقدم المدن في شبه الجزيرة الإسبانية. ولكن عند وصولهما كان الظلام قد خيَّم وأغلقت مداخل المدينة. فقرعا على الأبواب النحاسية الضخمة إلى أن شاهدا جندياً رومانياً ينظر إليهما من ثقب في الباب.
صاح بهما: (اذهبا من هنا، فالباب مغلق من الآن حتى طلوع الشمس).
ولكن تالوس ألحّ عليه: (أنا مواطن روماني. افتح لي الباب). بيد أن الجندي انصرف اكتراث منه بتوسلات تالوس.
في تلك اللحظة بالذات نهض رجل كان يجلس صامتاً عند السور واقترب من الزائرَين. كان متسربلاً بثوب رمادي طويل إلى الرِجلين ورأسه مغطى بحيث لايظهر منه إلا عينان حولاوان وأنف نحيل طويل. ولما دنا من تالوس وزفين همس بصوت أجش متقطع: (كنت انتظركما فهلمّ ورائي).
قال هذا ولم يزد كلمة أخرى، فتبعه الرجلان وهما في حالة استغراب. وكان اقتادهما على نفق مستور يمرّ، على مايبدو، تحت سور المدينة. وبعد أن وضع جانباً بضعة أشياء تمويهية دخل إلى داخل وطلب إلى تالوس وزفين أن يحذوا حَذوَهُ.
همس زفين في أذن تالوس: (من تُراه يظننا؟). أجابه تالوس بارتياب: (لاأدري، فقد يكون في الأمر شر نستطيع فضحه).
خرجا من النفق في اتجاه زقاق مظلم ضيِّق مروراً بكوخ قديم، وبقيا بضع دقائق يتبعان دليلهما في شوارع مهجورة إلى أن جاء وقرع أخيراً باباً على جانب الطريق. فُتح الباب بسرعة فدخل الرجل ودعاهما للدخول. وهناك اقتيد الاثنان إلى غرفة خافتة الضوء عبر زاوية يتدلى منها ستار، وخلف الستار ضوء أشد لمعاناً وظِل رجل واقف متسربل هو الآخر بثوب قاتم طويل. وإذا بصوت، هو صوت الرجل الواقف، يتكلم كما لو أنه خارج من الستار. قال: (استغرق وصولكما إلى هنا وقتاً طويلاً، فما عدد العبيد الذين أتيتما بهم على هنا؟).
وضع زفين في قلبه أن يلعب دوراً يتحرّى به الأمور قدر الإمكان، فربَّت على ذراع تالوس هامساً بصوت غير مسموع تقريباً: (دعني أتدبر الأمر بنفسي ...) ثم بدأ يخاطب الرجل: (الأمر لا يخلو من مصاعب ... وكما ترى، نحن نجهل مَن أنت ...).
ضحك الرجل من وراء الستار مقاطعاً قول زفين: (هَه هَه، لن تتمكن من معرفة هويتي أو معرفة مَن يجب أن أرشوه للإبقاء على هذه التجار). وتابع يقول بشيء من الفظاظة (ليس من مصلحتكما بشيء أن تعرفا المزيد. فاذهبا وتعاليا بالعبيد من مخبأهم!).
استدارا بصمت نحو الباب السرّي وتركهما هناك ثم اختفى. ولما فعل، تابع تالوس وزفين سيرهما حتى خرجا من النفق ووجدا بقعة مريحة يقضيان ليلتهما فيها.
وفيما كانا يستعيدان ذكرى ما جرى معهما، قال تالوس: (إذاً يخطفون الأبرياء ويبيعونهم في سوق النخاسة).
فأضاف زفين: (وقد ظنوا خطأ أننا أفراد في تلك العصابة. فماذا عسانا أن نفعل؟).
أجاب تالوس: (يجب أن نفضحهم ونقطع دابر هذه العادة الشريرة. فأنا مواطن روماني وسأُسمع صوتي إلى الوالي هنا حين نزوره غداً إن شاء الله). وفي الصباح قرعا باب المدينة مرة أخرى ولما فُتح أمامهما أذِنَ لهما البواب بالدخول. عند ذاك طلبا مقابلة الوالي، وبعد انتظار قليل استدعاهما أحد الجنود للمثول بين يديه.
ولما روى للحاكم ما اكتشفه تلك الليلة، ختم تالوس كلامه: (... وهذا هو سر مجيئنا إليك يا سيدي). أجاب الوالي مفكِّراً: (حسناً، عودا إلي صباح غد لاستفسر كما المزيد).
- عدد الزيارات: 2741