تالوس وتجار الرقيق: الفصل 1
في عام 100 ب.م. كانت سفينة للقراصنة تشق طريقها إلى الجنوب من الشاطئ الأسباني وعلى متنها شابان مسيحيان، أحدهما اسكندينافي والآخر روماني. وكان هذا الأخير تالوس المسيحي القوي الشكيمة الذي كان قد صرف السنة السالفة مبشراً بسيده عند الفانداليين والسلتيين.
وكان، في أثناء إقامته ببين السلتين، أنه تقابل مع زفين الشاب الإسكندينافي الذي وصل إلى هناك غازياً على متن سفينة للقراصنة. ولكن تالوس كان قد أنقذ السلتين من هؤلاء المهاجمين الشرسين وصادق العديدين من القراصنة. أما زفين فكان قد أتخذ المسيح حديثاً سيداً له وتعَّهد بترك حياة القرصنة ليمجد مخلِّصه. وبعد ذلك أصبح صديقاً حميماً لتالوس وعزم على مرافقته إلى رومية متى أزفت الساعة.
في هذا الوقت كان هذان الشابان في طريقهما إلى المدينة التي ترعرع فيها تالوس،وذلك بترتيب من زفين الذي اتفق مع القبطان أن يُبحر بها قدر ماتسمح به شجاعة هذا الأخير. ومرت أيام وهم يسافرون بمحاذاة الشاطئ فيما بدت أشرعة السفينة الضخمة، الملونة باللونين الأحمر والأصفر، منتفخة بالريح الشديدة الثابتة. وذات صباح دخلوا خليجاً كبيراً يُعرف اليوم باسم خليج بسكاي.
(لا تنظر حولك يا تالوس فثمة حركة مريبة على ظهر السفينة). قال زفين في ذلك الصباح فيما كانا يستندان إلى حافة المركب العليا.
أجابه تالوس عابساً: (منذ عدة أيام وأنا أحس بذلك يا زفين).
وبينما كانا ينظران من فوق الماء إلى الأكواخ القروية المترامية، تابع زفين كلامه: (سمعت بعض البحارة يقولون أنهم ينوون غزو تلك القرية الليلة). أخيراً قال تالوس وهو يستدير ليلقي نظرة فاحصة إلى البحارة الذين كانوا في حركة لا تهدأ على ظهر السفينة: (كنت اتساءل كم من الوقت يا ترى سيبقون بعيدين عن هذه التجربة؟).
(وعدوني، عندما استأجرت هذا المركب،عدم مهاجمة أية قرية)، قال زفين بنبرة غاضبة.
-(ربما كان في مقدوري أن أقنعهم بالعدول عن الفكرة).
واتجه تالوس نحو القبطان الذي كان يُناظر فريقاً من البحارة الخشني الوجوه، وقال له بتأن: (لدي شيء أقوله لك ولرجالك).
تردد القبطان لحظة وهو ينظر إلى تالوس مرتباً. فهو لم يكن يحب الرومان فضلاً عن أنه كان يشعر بانزعاج غريب في حضرة تالوس. مع ذلك قال: (لابأس، ولكن ما أنت فاعله افعله بسرعة. فلدي رجالي من العمل مايحول دون تلهيهم بأمور ثانوية). وعندها التفت ثانية إلى رجاله المنهمكين بأعمالهم وناداهم بصوت عالٍ:(انتبهوا أيها الرجال! إن صديقنا الروماني يريد أن يوجّه إلينا كلمة).
لدى سماعهم صوت القبطان، ترك الجميع أعمالهم واجتمعوا أمام الروماني الواقف بمحاذاة قبطانهم ليسمعوا كلامه. وحدث أن زفين أيضاً كان واقفاً معهما فبدا تالوس قصيراً بين ذينك الإسكندينافيين. ولكن صوته أخذ بمجامع قلوبهم فإذِن الأَذَن.
قال لهم:(أرجوكم ألا تغزوا هذه القرية المسالمة. لاتهرقوا دماً بريئاً من أجل حلى قليلة).
ولما قال هذا انفجر القراصنة غاضبين صائحين كما لو أن تالوس كان غير معقول، فلم يقدر أن يتابع كلامه.
صاحوا قائلين: (أنرجع من دون غنيمة؟ إن فعلنا نكون جبناء أو أغبياء-أو كليهما معاً! سيضحك علينا الناس إن رجعنا فارغين. ومهما يكن من أمر فنحن بشر لاغنم). قالوا هذا وهم يسخرون من كلام تالوس، ولكن هذا الأخير اندفع يقول ثانية: (ولكنكم أقسمتم على سيوفكم أنكم لا تقومون بأعمال الغزو مادمت أنا وزفين معكم).
أجاب القبطان:(إن الروماني يقول الحق أيها الرجال). ثم عاد يقول بلهجة خبيثة قاسية (ولكننا نكون أحراراً من قَسَمنا أن ... لم يكونا معنا على ظهر السفينة).
(إذاً هيَّا بنا نطرحهما في البحر) قال آخر وهو يضحك ضحكة متقطعة جافة.
وللحال هجم الجميع على تالوس وزفين فامسكوهما بفظاظة وقذفوهما على رأسيهما من على حافة السفينة. ثم وقفوا يقهقهون فيما كان الشابان يصارعان الماء.
وشوهد في آن معاً. وهناك نظرا إلى خلف فشاهدا القراصنة يضحكون.
كان الشاطئ على مسافة أميال منهما، وبالرغم من كونهما سبَّاحَين ماهرين فقد شعرا بسوء حالهما وبدا كأنه قُدّر لهما أن يموتا غرقاً في المياه الإسبانية العميقة! قال زفين والغضب يتأكَّله: (إذا قَدّر لي أن أعود يا تالوس فسأنتقم من كل فرد من أولئك البحارة الأشرار).
ولكن تالوس، الذي يجاهد للبقاء عائماً في حين كانت السفينة تبتعد، حذره بقوله: (لاتدع حب الانتقام يملأ قلبك بل صلّ بالأحرى لكي نصل إلى الشاطئ بسلام).
وهكذا استدارا وشرعا يسبحان على مهل في اتجاه الشاطئ البعيد. وبعد ساعة من الزمن توقفا ليستريحا قليلاً وهما يحاولان العوم قدر الإمكان على سطح الماء.
مع ذلك بقي الشاطئ بعيداً عنهما، إلا أن نشاطهما حال دون وقوعهما فريسة للخوف. ولذلك بدأا يسبحان من جديد فيما كانت الشمس الحامية تسطع فوقهما- وبعد ساعة تقريباً وقفا يريحان عضلاتهما المتعبة مرة أخرى. وعلى الرغم من ظهور الشاطئ لهما لم يشعرا بتعزية كثيرة لأن التعب كان قد بدأ يدب في جسميهما كما بدأت الهزيمة تتسرب إلى فكريهما وقلبيهما.
ودنت فترة بعد الظهر فيما كان الشابان المنهوكا القوى يجاهدان ويصارعان البحر ويستريحان بين الحين والآخر وهما يشاهدان الشمس تميل نحو الغرب. في هذا الوقت طفق تالوي يبتلع ماء كثيراً وبالكاد استطاع عند المغيب أن يبقى عائماً. فقد بدا زفين أقوى منه في الماء ولكن اليأس استولى عليه قبل الغروب بوقت طويل ولولا وجود تالوس بجانبه لكان غرق وانتهى أمره. ولو ابتلع اليمّ تالوس لاختفى زفين أيضاً في أعماق البحر القذر وذهب ضحية اليأس.
ولكن أخيراً شاهدا- أو هكذا تصَّورا- ما يشبه سوراً أسود أمامهما. فراحا يسبحان نحوه تحفزهما شعاعة الأمل الأخيرة هذه، وما هو إلا وقت قصير حتى اقتربا من شاطئ صخري ولم يبق أمامهما إلا لحظات قصار لبلوغ اليابسة بأمان.
ولكن لم يتم لهما ما أرادا! فلو أنهما لم يفقدا قواهما لكانا وصلا إلى الشاطئ بسهولة. ذلك لأن الأمواج الصاخبة كانت تتلاطم حولهما وتدفع بهما إلى أسفل متلاعبة بهما.
كان من المحتم أن يغرق كلاهما على مسافة أمتار قليلة من شاطئ فوق موجة عارمة قاذفة بهما نحو شاطئ رملي ضيَّق. وما أن شعرا بالرمل تحتهما حتى اندفعا بما تبقَّى لهما من قوة فخرجا من الماء نصف واعيَين.
بقيا ممدَّدَين فوق الشاطئ لفترة طويلة وهما منهوكا القوى لا يعيان مايدور حولهما، بل إن أحداً منهما لم يكن يحس برفيقه الملقى إلى جانبه دون حراك.
بعد ساعتين تقريباً تململ زفين متألماً محاولاً استعادة وعيه. وبقي بعض الوقت لا يعرف احصل أو مكان وجوده، ولم يتذكر شيئاً من أحداث ذلك النهار إلا عندما انتبه إلى جسد تالوس الهامد على مقربة منه.
فجرّ نفسه بأسرع ماأمكنه نحو تالوس وناداه باسمه بصوت منخفض. ولكن هذا الأخير لم يُحِر جواباً. فخاف زفين وراح ينادي تالوس بأعلى صوته ويهزّه عبثاً ممسكاً بثيابه.
فصرخ (يا إلهي! أي مكروه أصابه؟).
وما إن صرخ يائساً حتى تحوّلت أفكاره إلى الله وشعر في نهاية الأمر أنه ليس وحيداً. ولما ملأ سلام الله عقله فارقه القلق. فتقدم بهدوء إلى تالوس وحلّ ثيابه بسرعة ثم أخرج ما في فمه وأنفه من ماء. وللحال أخذ تالوس يتنفس بضعف، الأمر الذي جعل زفين يتنفس الصعداء. مع ذلك تابع هذا عمله لعيد إلى صديقه الحياة، وفي وقت لاحق فتح تالوس عينيه وبدأ ينظر إلى رفيقه مشدوهاً.
(شكراً لله على انقاذه كلينا). تلك كانت الكلمات الأولى التي خرجت من فم تالوس فيما كان زفين يلقي رأسه على كثيب من رمل الشاطئ.
أجاب زفين: (نعم، إن نجاتنا أعجوبة من غير ريب. كنت على وشك اعتبارك ميتاً لما شاهدتك ملقى هنا دون وعي أو حراك. ولغاية الآن لاأعلم كيف وصلنا وسط الأمواج العاتية).
أجاب تالوس (طيّب هو الرب لجميع المتكلين عليه) وبقي ممدداً هناك بصمت فترة أخرى ريثما استعاد شيئاً من طاقته. فقد بدا كل ما حولهما قاتماً والرؤية غير واضحة بحيث لم يبصرا إلا صخرة منخفضة خلفهما.
وفجأة استقام زفين واقفاً وأخذ يحدق في اتجاه الشمال! ولما نظر، شاهد في البعيد ضوءاً خافتاً يقوى شيئاً فشيئاً فينير الجو.
فنادى تالوس: (أترى ذلك؟).
فردّ تالوس بصوت ضعيف: (ماهو) وحاول بما لديه من قوة قليلة أن ينهض واقفاً. فاستدار زفين نحوه وأعانه على الوقوف، ثم قال: (لنرَ إن كان في استطاعتك أن تمشي. إن استطعنا أن نتسلق تلك الصخرة فسنتمكن من معرفة ماهو).
وببطء تابعا طريقهما نحو جُرف شديد الانحدار ووقفا على سطحه الرملي المستوى. ونظرا إلى الشمال ثانية فشاهدا نيران القراصنة المتوحشين تصعد نحو المساء.
قال زفين: (هذا ما تصورته تماماً. لقد غزوا تلك القرية واضرموا فيها النار).
(يا إلهي لِمَ يكون الناس قساة بهذا المقدار؟) قال تالوس بحزن وهو يتفقد الأرض الرملي.
أجابه زفين وهو يجلس بجواره: (ستسمع بهذا الغزو كل قرية على طول هذا الشاطئ).
فردّ تالوس: (صحيح، وسيرتابون من جهة كل غريب مثلنا. على كل حال لن نتمكن من الارتحال الليلة، وما علينا إلا أن ننال قسطاً من الراحة. فنحن في حاجة ماسة إلى ذلك!).
-(صحيح! ولكن ياليت لنا ما نأكله. إن معدتي تؤلمني)، قال زفين وهو يتلهَّب جوعاً.
-(وأنا كذلك. ولكنني لست أرى حلاً للأمر الليلة).
وهكذا استلقيا فوق الرمل بقصد الراحة والنوم قدر الإمكان، بيد أنهما لم يعرفا طعم الراحة طيلة الليل مما جعلهما ينهضان منزعجين في صباح اليوم التالي. لكنهما قبل البدء بالمسير استودعا نفسيهما بين يدي الله ثم التفتا إلى هنا وهناك ليعرفا ما يجب عليهما فعله.
قال تالوس: (يجب أن نبتعد عن الشاطئ في اتجاه الداخل لئلا يظن الناس خطأ أننا غزاة).
(أتقصد أن نجتاز تلك الجبال؟) هتف زفين متعجباً وهو ينظر إلى جبال البيرينيه الوعرة التي أمامهما، (لا، لن نتمكن من ذلك).
فطمأنه تالوس بقوله: (اتكل على الله الذي قذف بنا إلى الشاطئ الأمين، فهو لن يتخلى عنا الآن. إن رومية تقع إلى الشرق من هنا، فلنجرب السير في ذلك الاتجاه).
- عدد الزيارات: 2945